لا زلت أتذكر ذلك اليوم، يوم سرنا معا نقتفي أثر الحمامة ،هي امامنا ونحن وراءها، اعناقنا مشرئبة وعيوننا مغرورقة بدموع الفرح،والاصوات تخالطها الاصوات،والحناجر تصدح والارجل تمشي بدون اعياء من هنا الشمال ومن هنا الجنوب ومن هنا الشرق ومن هنا الغرب...ويلتحم الانبهار بالاشعاع،والبهجة بالسرور والصمت بالصخب والفرح بالحبور...ويتسلطن الكامن بالواجد،ويتلحف الجسم براية الوطن ويتدثر الشعور بالوطنية ويهرب الخوف الى غير رجعة ،الى الغياهب...وتولد على الشفاه بسمة الامل ،وتضخ القلوب دم الشباب والحب والصيرورة والنماء والولاء والاباء...وتدغدغنا نغمات الشابي :(اذا الشعب اراد الحياة – فلا بد ان يستجيب القدر)،ويأتينا صوت أثيري قادم على مهل من جنان الاعماق:( حماة الحمى يا حماة الحمى- هلموا هلموا لمجد الزمن)، وترى كل مواطن يحتضن مولوده الجديد وهو يهدهده،ويرسم على جبينه قبلة النشوء والارتقاء،ذلك اليوم لا زلت ارسم خيوطه الاولى بريشة رموشي على بساط الخلود،ذلك اليوم لم يكن ولادة قيصرية ،ذلك اليوم كان ولادة طبيعية بحضور العالم بأسره،ذلك اليوم عبرنا به من محيط الصمت الهائج الى شاطىء الحرية بأمان ،ذلك اليوم كان صرحا من الامن والامان والحب والسعادة ... كانت تونس يومها تنبض بقلب واحد وتمد جناحيها لتظلل الجميع من سحب الغرب الدكناء،ذلك اليوم اوصلنا الى صناديق الديمقراطية على صهوة الشفافية ..يومها كنا فرسانا نحمل الراية على طول الساحل والسهل والوادي والجبل...ونمشي على بساط العدل والرفاه،وكانت شمس تونس تشع على كل القلوب...كانت القلوب تنبض بعد بيات،كنا كلنا اشبال الحرية... بعد الاقتراع مباشرة ، جاء التململ الملتاع ،وهرب كل الى غايته ينشد الانتشاء وحب السيطرة والولاء ،وطلع علينا من كل صوب وحدب خريف الشغب وخريف التعب،هذا يصنف وهذا يشنف وهذا يكيف وذلك يعلق والآخر يغرق وهذا يغدق والآخر يسرق وغيره يسرف..حتى ضاعت الكياسة وغرقت النفوس الآمنة في أتون المعاناة والسياسة... هرب الرضيع من أبيه من أمه وأخيه وأنشد أنشودة العصيان المدني ...وركب صهوة الفتن ،ومسج خيوط ملحمة الكبر،وناقش في قسوة أدعية البشر.. لا زلت اتذكر ولا اريد ان اتذكر ما جرى من اعتصامات واحتقانات و(هزان ونفضان)ونزوع الى الانشقاق والفراق والطلاق والانزلاق والاحتراق... تداعى صرح الحرية..وتكلست الشفافية واحترقت أظافر الديمقراطية في زنزانته ..واينعت طفيليات الحسابات الضيقة في السهول العامرة والجبال الشامخة وبقيت الوطنية تشرف على الاحداث من شرفة التيه والضياع... ضاع قلم الحقيقة في ادغال الانتماءات واحترقت الاوراق البيضاء في اتون المحاسبة وهرب القاضي الشهم الى صحراء الضياع وسفك قانون العدالة الاجتماعية دم الثورة الفتية ، وعرفنا البيات السياسي في عز الخصوبة الفكرية ،وانتحرت الكلمات على شفاه الصمت ،واغتال الابرياء براءة الدعاة وتهرأت الانجازات البناءة...وتمزقت المواثيق وطارت في عنان السماء.. وهربنا كلنا الى التاريخ نعيد تدوينه وننبش آثاره المسلوبة.. ولما لذنا – نطلب الملاذ الآمن- عند اهل الحل والربط غرقنا في المغالطة والمغالاة ووقفنا في مفترق الطرق ،ننشد الهروب الى بلاط العزيزة تونس فتهنا في صحراء الايديوليجيات الجمة،كل يضرب على دف انتمائه،كل يغني على ليلاه ،كل يغرد على نغمته ،كل يحلم بمدينته الفاضلة حسب اهواء يقظته ،كل يبني عرش ديمقراطيته على الماء،كل يطرق باب عشيقته حسب اهوائه ،كل من مدعي الانتماءات يصرخ في بلاط السلطة الرابعة الراكعة انه القائد المنتظر ، كل منهم في وادي والشعب في وادي من غير زرع ولا ضرع ولا مرشد ولا حكيم ولا مشرع ... كل هارب الى هواجس الكرسي العظيم..