بعد الضجة الكبيرة التي أحدثتها ندوة مؤسسة التميمي ليوم السبت 7 أفريل الجاري حول إعادة كتابة التاريخ التونسي في بعض محطاته وأحداثه التي تم القفز عليها أو تناسيها وحول القضايا التي تم تهميشها ولم يتم الاعتناء بها في التاريخ الرسمي الذي كتبته دولة الاستقلال وكل الأسئلة التي طرحت بعد الثورة بخصوص التفاوض بين الجانبين التونسي والفرنسي لمنح تونس استقلالها و الأسئلة الأخرى التي لها علاقة بحقيقة المفاوض التونسي وهل كان كفءا في الدفاع عن المصالح التونسية وكل الظروف والسياقات التاريخية التي حكمت وتحكمت في التوصل إلى حل يمكن من تصفية الاستعمار بطريقة تعيد للشعب التونسي كرامته . بعد تلك الندوة التاريخية التي تحسب للمؤسسة و من المحقق أن يذكرها التاريخ يوما في كونها قد حركت السواكن وخلخلت أسس الرواية الرسمية التي يدافع عنها كل من له مصلحة سياسية في عدم إثارة سؤال الاستقلال من جديد وعدم فتح الباب للعودة إلى مناقشة محتوى بروتوكول الاستقلال حتى نتبين ونعلم حقيقته وعلى ماذا تفاوضنا مع فرنسا ؟ وعلى ماذا أمضينا ؟ وما هي الاتفاقيات الرسمية لتفعيل الاستقلال ؟ في هذه الندوة كان من المؤمل أن تقدم الإضافة المعرفية لكل من يهمه هذا الجدل الفكري والتاريخي الذي يظهر اليوم وكان من المنتظر أن تزيد في توضيح كل اللبس الذي يثار اليوم حول مسألة التاريخ الرسمي والتاريخ المغلوط ومسألة الاستقلال الفعلي والاستقلال الواهم وخاصة تقديم إجابات مقنعة حول السبب الذي حال دون نشر وثيقة الاستقلال بالرائد الرسمي وعدم ايداع نسخة منها لدى الأممالمتحدة وحول الاستقلال الاقتصادي وعلاقته بالاستقلال السياسي إلا أن هذه الندوة على أهميتها قد زادت من توسيع دائرة الشك حول حقيقة الاستقلال ولم تحسم المسألة بخصوص التفاوض هل كان على قاعدة المساواة والتكافؤ أم كان محتوى التفاوض مفروضا ومملى من الطرف القوي وهو الجاب الفرنسي بالطبع ؟ لماذا حصل هذا الانطباع الشخصي ؟ ولماذا نقول هذا الكلام ؟ نقول كل ذلك لأن محاضرة الدكتور المؤرخ لطفي الشايبي الذي استضافته مؤسسة التميمي في ندوة يوم السبت 21 أفريل الجاري لم تقنع الكثيرين ولم تشف غليل السائلين ولم توضح المسألة بل زادت تعقيدا لها من خلال فتحها لنوافذ أخرى في مسألة حقيقة الاستقلال ووسعت النقاش أكثر ليتواصل الجدل والحوار دون حسم أو توضيح للرؤية. في هذه الندوة التي عرفت حضورا محترما يعكس قيمة الموضوع تكلم لطفي الشايبي عن المعركة التاريخية التي تحصل اليوم بين الجماعة التي سميت بجماعة بيان الستين مؤرخا وبيان الخمسين مؤرخا وهم مجموعة من المؤرخين والمدرسين للتاريخ والباحثين في تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس المعاصر الذين كتبوا بيانين يستنكرون فيهما دعوات مراجعة التاريخ وإعادة قراءته من جديد وبين مؤسسة التميمي ومن معها من المؤرخين مثل الدكتور توفيق البشروش وأستاذة القانون فوزية باشة المشتغلة على عقود الطاقة وعلاقتها بوثيقة الاستقلال والوثائق المكملة لها والإعلامي شكري بن عيسى وغيرهم من الذين يطرحون اليوم رؤية جديدة في فهم التاريخ التونسي المعاصر ويطالبون بضرورة إعادة السؤال عن التفاوض الذي حصل حول الاستقلال وضرورة إعادة القراءة لتاريخنا على ضوء ما ظهر من وثائق وحقائق وشهادات جديدة . كما تناول مسألة وثيقة الاستقلال وقال إن اللبس الذي حصل ليس في عدم وجود وثيقة لاستقلال البلاد ذلك أن الوثيقة موجودة ويعرفها المؤرخون واستعملوها في مؤلفاتهم لكن اللبس تعلق بمعرفة السبب الذي حال دون نشرها وإظهارها للشعب الذي من حقه أن يطلع على وثيقة استقلاله لكن تعرض المحاضر إلى هذه الاشكالية كان من دون تقديم تفسير مقنع وشاف حول السبب الذي جعل دولة الاستقلال ومن ورائها الزعيم الحبيب بورقيبة لا ينشران هذه الوثيقة ؟ تكلم عن مهنة المؤرخ ودوره في الوصول إلى الحقيقة التاريخية وعن مهمته المتواصلة في البحث والتنقيب والكشف عما خفي من التاريخ وتكلم عن مسألة المصادر وقيمتها في تقديم المعلومة التاريخية الصحيحة وأهمية المذكرات التي يكتبها السياسيون والزعماء الوطنيون الشاهدون على عصرهم وهي مذكرات قد اتضح أنها تكشف عن الكثير من الحقائق التي لا نجدها في المصادر المطبوعة مثل الكتب التي يكتبها الكتاب والتقارير والبيانات التي تصدر عن السلط السياسية وهي شهادات تعد مصدرا مهما من مصادر التاريخ ولكن تحتاج الشهادة الشفوية حسب لطفي الشايبي إلى تقنيات خاصة للقبول بها . تحدث عن الازعاج الذي أحدثه السيد عبد الجليل التميمي بتنظيمه ندوة علمية حول حقيقة وثيقة الاستقلال ومن قبله سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة التي استفزت المؤرخين بإعلانها عن تلقيها شهادات تفيد تعرض الجنوب التونسي إلى قصف بالطيران الحربي الفرنسي سنة 1968 وتأكيد ذلك بالوثائق التي تحصلت عليها من فرنسا والتي تثبت أن الجنوب التونسي ومدينة بنزرت كانا إلى حدود سنة 1968 تحت تصرف فرنسا وتساءلت حول ماذا تفاوضنا سنة 1956 حتى تستبيح فرنسا أراضينا ؟ ومشكلة الازعاج هذه ردها المحاضر إلى وجود رؤية رسمية للتاريخ التونسي يدافع عنها بعض المؤرخين من وراء خلفية سياسية يرفض أصحابها أي اقتراب منها أو مساس بالقراءة والكتابة الرسمية لدولة الاستقلال . تحدث الشايبي عما لاقاه من إقصاء وإبعاد متعمد عن الأضواء من طرف بعض الوجوه التي أمضت على البيانين بسبب كونه يقدم قراءة مختلفة عن القراءة التاريخية الرسمية فيها إفصاح عن الكثير من الحقائق التي توصل إليها من خلال بحثه المتواصل واليومي في الارشيف والمصادر والمراجع التاريخية المحلية والأجنبية التي لها علاقة بالتاريخ المعاصر. وأهم فكرة يدافع عنها الشايبي ويفسر بها كل ما حصل في تاريخنا المعاصر والتي أنتجت كل هذا الغموض حول الاستقلال والذي خلف اليوم هذا الجدل الكبير هي أن كل الذي حصل كان وراءه عناصر من المحفل الماسوني الفرنسي وبسبب التدخل الماسوني من البدء. يقول الشايبي لقد تتبعت تاريخنا المعاصر منذ انتصاب الحماية سنة 1881 حتى الإعلان عن الاستقلال وإمضاء الطاهر بن عمار على وثيقته سنة 1956 وتتبعت كل الأسماء الفاعلة في كل هذه الحقبة التاريخية وبحثت في انتماءاتهم الايديولوجية فوجدت أن التأثير الماسوني كان واضحا وكبيرا في بلادنا وأن كل السياسة الاستعمارية قد هندسها قادة من الحركة الماسونية فلا يمكن أن ندرس الاستعمار من دون التعرف على حجم الحضور الماسوني في النظام السياسي الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة والرابعة ومن دون التعرف عن الأهداف الماسونية في العالم فانتصاب الحماية كان وراءه التيار الاشتراكي الماسوني الفرنسي الذي يعتبر أن الاستعمار له رسالة حضارية وهي تأهيل الشعوب ورقيها ولما كان دخول فرنسا إلى تونس تحكم فيه الفكر والايدولوجيا الماسونية التي يتبناه الكثير من زعماء الحزب الاشتراكي الفرنسي فإن عملية تصفية الاستقلال وفك الارتباط مع نظام الحماية لا يمكن أن يترك لأشخاص ليست لهم علاقة بالهدف الأول للماسونية وهو أن تبقى الشعوب على اتصال وتواصل دائمين مع الحركة الماسونية وأن تبقى الدول بعد استقلالها في علاقة ارتباط دائم مع من استعمرها وهذا ما يفسر الصعوبات التي لقيها المفاوض التونسي عندما شرع في التفاوض مع فرنسا حول الاستقلال حيث وجد صدا كبيرا في المطالبة بالاستقلال التام والنهائي وتم الضغط عليه للقبول بالاستقلال الداخلي والذاتي وهو استقلال منقوص وغير تام يبقي العلاقة متواصلة وذلك خدمة للأهداف الماسونية في أن توجد صيغة للاستقلال تعيد انتاج علاقات استعمارية جديدة في إطار وثيقة الاستقلال الذاتي وفي جعل الارتباط والتبعية متواصلين مع فرنسا بعد الامضاء على هذه الوثيقة. ما يمكن قوله حول هذه الندوة التي كانت كغيرها من الندوات مثيرة وسبب الإثارة فيها كون من أثثها قد حول وجهة الجدل والنقاش التاريخي حول الاستقلال إلى فضاء آخر هو فضاء الماسونية وعلاقة المحفل الماسوني بالحماية و الاحتلال والاستقلال ودوره في عملية التفاوض مع الحكومة التونسية والضغوطات التي مارسها رموزه على المفاوض التونسي حتى يقبل بوثيقة للاستقلال بالصيغة التي ظهرت عليها حتى قال عنها محمد المصمودي إنها ملغمة ونعتها أحمد بن صالح بالاتفاقية الملعونة. فإلى أي مدى يمكن القبول بهذه القراءة وهذا التحليل الذي يغيب أي دور للفاعل التونسي والمفاوض الوطني في عملية الاستقلال ويجعل من هذا الحدث الهام أمرا مفروضا ، تحكما فيه وهندسا من طرف المحفل الماسوني الفرنسي من وراء العناصر التي فاوضت باسم الجانب الفرنسي و كانت جلها حسب الشايبي تنتمي للماسونية وهو ما يفسر اليوم عدم وجود أية وثيقة مكتوبة للحركة الوطنية تطالب بالاستقلال التام والنهائي و ما يفسر كذلك سبب تخلى بورقيبة عن مطلب الاستقلال التام وعدم مطالبته به بكل وضوح لأن فرنسا لن تقبل بهذا الطلب وقال بورقيبة " سوف ينجر عنه صدامات وإني احتاج إلى وقت للمطالبة به " ما جعل محمود الماطري يغير المطلب ويجعل كلمة تحرر مكان كلمة الاستقلال. فهل إلى هذا الحد كان الحضور والنفوذ الماسوني قويا في تونس زمن الاستعمار؟ مرة أخرى نجد أنفسنا بعد أربعة ساعات من الاستماع إلى محاضرة حول حقيقة استقلالنا أننا نعود إلى نقطة البداية ونطرح من جديد سؤال كيف تحقق استقلالنا ؟ وسؤال فيم تفاوضنا ؟ وهل نحن مستقلون فعلا أم نعيش وضعا من التبعية والارتباط الدائم مع فرنسا ؟ ويظل البحث مستمرا ...