تلقيت بحسرة كبيرة نبأ وفاة الأستاذ والدكتور والمفكر كمال عمران في وقت ما زال فيه قادرا على العطاء وفي زمن يحتاج إلى مثل حضوره العلمي بعد تراجع الاهتمام بالمعرفة والعلم وتبلد الذهن جراء سيطرة ثقافة الالهاء والملهاة . لم أتعرف عن المرحوم عن قرب ولم أكن من تلامذته الذين درسوا عنه في كلية الآداب ولكن معرفتي به كانت من خلال كتابه الإنسان ومصيره في الفكر العربي الإسلامي الحديث الذي لم أفقه كنهه فكنت اقرأ صفحات كثيرة من الكتاب دون أن يبقى في ذهني شيء منه حتى أصبحت في صراع معه لصعوبة تراكيبه وعسر أسلوبه إلى أن قررت أن أهجره .. ومرت الأيام وجاءت الثورة وصادف أن إلتقيت أستاذي فتحي القاسمي كان قد درسني في الباكالويا قبل أن يلتحق بالجامعة مدرسا لمادة الحضارة الإسلامية فسألته عن كمال عمران وعن كتابه الإنسان وشكوت إليه صعوبة فهمه فكان هذا اللقاء مع فتحي القاسمي هو الذي جعلني اهتم بهذا العالم الجليل حيث حدثني أن كمال عمران قامة علمية كبيرة في الجامعة التونسية وهو مع عبد المجيد الشرفي يمثلان خطين متوازيين في الجامعة ومدرستين فكريتين لا تلتقيان فعبد المجيد الشرفي كان يرى الحداثة التونسية من خلال نقد التراث والثقافة العربية والإسلامية لتجاوزها لذلك كان التركيز عنده حول استجلاب الحداثة الغربية ونقل تجربة التنوير الاوروبي في حين كان كمال عمران يرى أن الحداثة التونسية من خلال مراجعة التراث ونقده للاستفادة منه وتوظيفه للنهوض من جديد فكان كثير الحديث عن رموز الحداثة التونسية، مغرما بفكر البيارمة وخير الدين وابن أبي الضياف والحداد وسالم بوحاجب والطاهر والفاضل بن عاشور وغيرهم من رواد الحركة الاصلاحية التونسية ومن هنا يمكن أن نقول أن الجامعة التونسية على مستوى تدريس مادة الحضارة الإسلامية قد أنتجت مدرستين الأولى يتزعمنها الشرفي والثانية رائدها كمال عمران مع فارق مهم وهو أن مدرسة الشرفي قد خلفت تلامذة واصلوا مشروعه وهم يحتلون اليوم المنابر الإعلامية ومهيمنون على الساحة الفكرية في حين أن كمال عمران تلامذته خجولين وحضورهم وإشعاعهم قليل ومحتشم ولم يواصلوا في مشروعه للنهوض الحضاري. بعد هذا الحديث مع الأستاذ فتحي القاسمي بدأ اهتمامي بالفقيد وبدأ حرصي على اللقاء به إلى أن شاءت الأقدار والتأمت ندوة فكرية منذ سنتين بالمعهد الأعلى للشريعة بتونس التي ترأسته لفترة الدكتورة بثينة الجلاصي حول واقع المرأة التونسية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة وكان سؤال الندوة : لماذا يعاد في كل عام الحديث عن مكانة المرأة ودورها في المجتمع ؟ في هذا اللقاء أبدع الدكتور كمال عمران وتسلطن في الحديث وأمتع السامعين بكثير من العلم والمعرفة ومما بقي عالقا في ذهني من تلك المحاضرة حديثه عن بناء الحضارة حيث قال الحضارة لا تبنى إلا بعقل ودين وجماليات فهو قد وضع الأسس الثلاث ليناء الحضارة من جديد وكان يقول لا معنى لحضارة من دون جماليات وفنون وآداب وموسيقى وفن وإبداع .. واصلت الاهتمام بالرجل وبقيت أتلقف ما يصادقني من أحاديثه التي يؤثثها أسبوعيا في الاذاعة الثقافية وهي حصص مهمة تؤسس للمعرفة الصحيحة وتبنى الثقافة الصلبة ويا ليت لو تتوفر العزيمة من أصحاف الفضل فيقومون بجمع هذه الأحاديث الاذاعية ويحولونها إلى كتب خاصة وأن الفقيد لم يكن غزير الكتابة حتى يزداد الناس تعرفا على هذا العالم الجليل والمفكر الكبير الذي أضره مروه من السلطة لشهر واحد حينما عينه الرئيس السابق في وزارة الشؤون الدينية والبلاد تشهد ثورة على نظامه فكان هذا المنصب قد كلفه الكثير واحتسب على النظام القديم وتم تجاهل الرجل ولم يلتفت إليه أحد رغم أنه قامة كبيرة في العلم والمعرفة خسرتها تونس ونكب برحيله من يعرفه واقترب منه .. رحم الله كمال عمران كان يستحق أكثر مما ناله ..