كتبت عن حل الأوقاف في تونس واخترت اليوم ان اكتب عن الأراضي الاشتراكية التي عرفتها وهي تمثل مخزونا هاما من الاراضي في الوسط الغربي والجنوب على ملك مجموعات قبلية ومحجر تملكها فرديا، وكانت تحت نظام خاص سوف احاول بيانه في هذه اللمحة القصيرة ، وأول ما عرفتها كان بالقصرين بعدما عينت معتمدا في ولايتها في خريف سنة 1960. ولكنني لم اقترب من ذلك الملف وقتها كثيرا لانه لم يكن من الاختصاصات التي فوّضها لي الوالي ولكنني عرفت عنها ما تيسر بحكم موقعي في مكرز الولاية، وكثيرا ما تابعت عن بعد ما كان يطفو على السطح من نزاعات وخلافات كانت تنشب من حين لآخر بين المجموعات وبين والمستحقين فيها والقانون لا يسمح بامتلاكها فرديا لكنه يسمح باسغلالها جماعيا. كانت تلك النزاعات تتكاثر في الخريف بعد نزول الأمطار ومحاولة البعض من المستقرين عليها التحوز باكثر ما يمكن لهم من المساحات فيها لاستغلالها حرثا وبذرا مؤقتا والاستفادة منها. وكان الفصل والبت في تلك الخصومات من اختصاص الولاية وحدها التي خصها المشرع بها دون المحاكم العدلية. ادركت ذلك ورايت تكرار خروج اللجنة المختصة للتوجه ومعاينة النزاعات والعمل على فضها عند الاقتضاء بالطرق السلمية، وتتركب اللجنة الواحدة من معتمد يمثل الوالي وقاض يمثل وزير العدل ومختص في قيس الاراضي ورسمها يمثل وزير الفلاحة. اما طبيعة تلك الاّرضي بالقصرين فاغلبها منابت للحلفاء ومراع للأغنام وبعض المساحات الصالحة لبذر الحبيب فيها من قمح وشعير وفي أحسن الظروف فيها، كانت تستغل جماعيا، و واختصت بعض العائلات بوجه المهايأة والاتفاق بمساحات فيها، وحتى تغير القانون في سنة 1970 جذريا وأجاز للحائزين فيها بشروط تمليكهم فرديا. توليت على ولاية قفصة في خريف 1971 ووجدت لجنة التحديد والتمليك منكبة على تطبق القانون الجديد ببطء وتريث ولم تقدر على التقدم في العملية وولاية قفصة كانت كبيرة وممتدة واكثر أراضيها اشتراكية، ذلك قبل تقسيمها بخروج ولايتي توزر وسيدي بوزيد منها وكان علي الاهتمام بذلك الامر جديا ولانها كانت عنصر نزاع واهمال لثروة كبيرة طبيعية تمتاز بصلوحية التربة وكثرة المياه السطحية والعميقة وكان أكثرها سدرا ونباتات طفيلية تحاذيها غابات زيتون تركها المعمرون لا تقل أهمية عن غابات صفاقس المشهورة بينما الفقر والخصاصة قائمة بسبب تلك الوضعية العقارية الموروثة. هكذاوجدت نفسي في وضع يفرض علي اعطائه الاولوية بعدما تعمقت في دراسة تلك القضية ماصة لما رايت ان اغلب المستقرين في تلك الأرضي غرسوها فستقا وزيتونا وكانوا لها حائزين بالرغم من القانون الذي كان بمنع، ولكنه بتنقيحه كان علينا تسوية اوضاعهم شكليا مثلما فعلنا اثر الاستقلال مع الغير المرسمين بالحالة المدنية من المولودين والمتزوجين على العرف الجاري. لم نتعب هؤلاء وقتها كثيرا واستنبطنا لهم قانونا استثنائيا مكنهم من التدارك بالتصريح بالحالة والإشهاد عليها وبذلك انهينا وضعا قائما قديما في بضع سنيين. كان علينا الاقتداء بمثل تلك العملية في الاراضي الاشتراكية بالنسبة للحائزين عن حسن نية الذين لم ينازعهم في حوزتهم ذلك احد وبرؤية مجلس التصرف ومجلس الوصاية وحتى اجوارهم الذين كانوا في نفس الوضعية. بذلك استنبطنا لهم طريقة سهلة وبسيطة سميناها بالتجوير وتعتمد على تصريح كتابي اعددنا له مطبوعة خاصة وتحرر من الطالب يثبت فيها وصف العقار وحالته المدنية ويسعى لامضائها وجوبا للمصادقة عليها من اجواره الأربعة وتعرض بعدها على مجلس التصرف الذي بعد مصادقته عليها بالموافقة تعلق لمدة أسبوعين ببهو المعتمدية ثم تحال كل تلك التصاريح الغير معترض عليها في الآجال على مجلس الوصاية بالولاية لينظر فيها مجددا والبت في الاعتراضات ان وجدت ويحيلها على وزير الفلاحة الذي يأذن بنشر ملخص منها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. لم يكن ذلك من السهل الممتنع لو لم يتجاوب معي وقتها وزير الفلاحة المرحوم الضاوي حنابلية الذي كنت اعرفه منذ كنت واليا على الكاف وكان هو نائبا في مجلس الامة وتعاونا وقتها كثيرا. اغتنمت تلك الفرصة وفاتحته فيما كنت انوي فوجدت منه قبولا وترحيبا بالرغم من احترازات الادارة العميقة وسرنا بفضل ذلك التعاون أشواطا كبيرة خلصت مخزونا من الاراضي الصالحة للفلاحة والزراعة وباتت عنصر انتاج مستداما. ووما وجب التنبيه اليه بهذه المناسبة اننا استبعدنا من العملية المجموعات التي بها نزاع او عليها وكذلك التي كلها سباخ وأراض غير صالحة الا للمرعى، لقد تركنا امرها معلقا حتى لا تتعطل اعمالنا وبالفعل جرت تلك العملية بسلاسة كاملة وتعاون لان المعنيين بها كانوا متشوقين لتسوية اوضاعهم العقارية نهائيا. ولكن تلك التجربة لم تعمم في كامل الجمهورية وبت اسمع من حين لآخر مشاكل تحدث وصعوبات هنا وهناك تطرأ وخاصة في عمليات الانتزاعات الضرورية لمسار الطريق السريعة بين صفاقس والجنوب، وجاءت بعدها مشكلة ضيعة جمنة بولاية قبلي التي كشفت الغطاء ورأيت الجميع يتخبط بين أحقية الجمعية في العقار ومنازعاتها فيه بسبب الصبغة الاشتراكية وما طرأ عيها من احياء لتلك الضيعة من طرف شركة ستيل التي انتهت مهمتها نهائيا. وتلك قضية اخرى لا تهمنا الان،اما الذي تاكدت منه فهو افتقار تونس لسياسة فلاحية ومتفق عليها جماعيا حتى كتابتي لهذه الخواطر التي أردت منها تحريك السواكن.