الإعلام والسلطة والشعب بقلم:خالد الحدّاد بكلّ المقاييس تعدّ استعادة الإعلام لحريته من أهمّ بل من أبرز مكاسب انتفاضة الشعب التونسي، كان الإعلام مُكبّلا مُحاطا بكم لا حصر له من القيود والضوابط والمحرّمات والمحظورات و"الأسلاك الشائكة" ، كم لا حدّ له من الضغوط ، ضغوط كانت تُمارس فيها مختلف صنوف الإرهاب والتخويف والهرسلة والتهديد في الرزق والتجويع ، ومن المؤكّد أنّ الأيّام القادمة ستكسفُ خفايا ما كانت تُديره سلطة الرئيس بن علي من أساليب وآليات لقمع الإعلام وإسكاته والسعي المحموم لتدجينه وترويضه وإخضاعه للسيطرة ، وستُقدّم شهادات العاملين في القطاع الإعلامي –دونما شكّ- صورا قبيحة جدّا عن إرهاب حقيقي كان يُمارسُ يوميّا وفي كلّ لحظة على الإعلاميين وعلى حريّة الإعلام. كان الإعلاميّون يتحرّكون في مربّع ضيّق جدّا يزداد كلّ يوم تضييقا وحصارا ورُعبا ورقابة ذاتيّة مفروضة وألما في الضمير، وليس أحد في حاجة للتبرير لأنّ الكل يعرفُ حقيقة أوضاع الضغط الموجودة في كلّ ركن من هذا الوطن. الخطاب الرسمي لسلطة الرئيس بن علي حول الإعلام والاتصال كان ذي مضمون حداثيّ وتنويري مُستند إلى آخر النظريات في علوم الإعلام والاتصال من حيث التأكيد على الحريّة في التعبير والوصول إلى مصادر الخبر والحريّة في نقل حقائق الواقع والتعدّد الموجود في المجتمع والحريّة في النقد ، والواقع كان صورة أخرى صورة مُشوّهة مُضادة لذلك الخطاب ، النظام السياسي السابق كان يعتبرُ الإعلام أحد أجهزة الدولة إن لم يكن أبرزها على الإطلاق في الفعل والتأثير والتوجيه والدعاية ، كان ذلك النظام يعملُ على أن تكون مختلف وسائل الإعلام الوطنيّة العموميّة والخاصّة ، بل وحتّى الإعلام الخارجي ، بوقا دعائيّا للسلطة القائمة وأداة من أدواتها لقمع الناس وإحكام السيطرة على عقولهم وإخفاء الحقائق والتعمية عنها ومُغالطة الرأي العام بما ليس موجودا أصلا. عقليّة تآمريّة وهامش وفي الحقيقة فإنّ ، تلك العقليّة التآمريّة على حقّ الشعب في إعلام حرّ ونزيه لم تكن وليدة حكم الرئيس السابق بل كانت تواصُلا ممتدّا منذ العهد البورقيبي حيث كان الزعيم بورقيبة يتبنّى نفس تلك النظرة (يقول بورقيبة –مثلا- عن التلفزة الوطنيّة: هي تلفزتي..ولماّ عجزت عن الاتصال بكم مباشرة ها أنّكم تُشاهدونني عبر هذا الجهاز) ، وحتّى حينما سُمح في فترات مّا بحريّة إعلاميّة فإنّ ذلك كان مُتلازما مع أزمات عرفتها الدولة البورقيبة فكانت تلك الحريّة مُتنفّسا وبحثا عن مخرج من تلك الأزمات ، ولم يكن هامش الحريّة الإعلاميّة عن إيمان بجدوى وفاعليّة الإعلام في القيام بدوره في تنمية البلاد والرقيّ بها في مختلف المجالات والميادين ، إذ لم تخل عشريّة واحدة من الحكم البورقيبي ، كما لم تخل فترة حكم الرئيس بن علي من محاكمات وإجراءات ضدّ الصحافيين والإعلاميين والتضييق عليهم. وفي المحصلة أفقدت السلطة التونسيّة الإعلام مصداقيته ونزاهته وقطعت ثقة الناس فيه وشيئا فشيئا فقدت تلك السلطة هي الأخرى مصداقيتها لدى الشعب حتى خرج عن بكرة أبيه طالبا التغيير الجذري والقطع مع الماضي ، فلو حبّبت السلطة الإعلام إلى الشعب لأحبّها هو الآخر، وكلام الناس عن الإعلام الوطني معلوم ومعروف، قطعت السلطة علاقة الثقة بين الإعلام والناس فقطعت نفسها عنهم. صمّام أمان ومشهد جديد وبعيدا عن الأحداث الجارية حاليّا وتطورات التفاوض حول تشكيل الحكومة المؤقتة ورسم ملامح الانتقال الديمقراطي خلال المرحلة القادمة والآمال في أن تستعيد البلاد حياتها العادية ، بعيدا عن كلّ ذلك فإنّ الإعلام المسؤول والحرّ والنزيه سيكون هو صمّام الأمان وحامي ثورة الشعب وانتفاضته ، ذلك أنّ الإعلام المنطلق من مهنيّته والناقل للواقع بأمانة والمنتصر لقضايا الحق والعدل والكاشف لمواطن الخلل ومظاهر الظلم والفاتح فضاءاته لكلّ الآراء والمقاربات ، سيكون بالتأكيد الحاضن الحقيقي لكلّ تلك المطالب الشعبيّة في الحريّة والكرامة والحارس الأبرز لتجسيد تلك المطالب على أرض الواقع. إنّها أمانة وضعتها ثورة الجماهير في الإعلام الوطني اليوم ، وهي مسؤوليّة لن تكون سهلة بالمرّة ، إنّ الإعلام سلطة بذاتها (السلطة الرابعة) ويجب أن تكون كذلك في هذا المشهد الوطني الجديد ، سلطة تنحاز إلى الشعب أوّلا وأخيرا تنقل مشاغله وهمومه وتصوّر تطلعاته وانتظاراته، سُلطة يُمكنها كذلك أن تخدم الدولة بأن تقدّم الحقائق وتبحث في الملفات وتتقصّى في الوقائع (الصحافة الاستقصائيّة) وتقترح الحلول وتقدّم الإضافة المُساعدة على تلمّس سبل الإصلاح والتغيير والتطوّر والتحوّل بالبلاد إلى أفق جديد ، أفق الحرية والديمقراطية والعدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. لقد حقّق الشعب حريّته في القرار ومنح –من ضمن ما منح بتلك التضحيات والنضالات- الإعلام فرصة تاريخيّة لكي يكون حرّا ونزيها ومسؤولا بعيدا عن كلّ أشكال الرقابة والصنصرة والتعتيم مُنتصرا إلى خدمة الشعب أوّلا وأخيرا.