تحيي مصر هذه الأيام الذكرى الأربعين لحرب أكتوبر 1973 المجيدة في أجواء احتفالية غير اعتيادية وفي أوضاع جيوسياسية معقدة أكثر من أيّ وقت مضى. لقد كانت حرب أكتوبر رابع الحروب العربية الإسرائيلية ولكنها كانت أعنفها وأشرسها كما أنّها تبقى أهمّ حرب عسكرية قامت بعد الحرب العالمية الثانية سطر خلالها الجيش المصري أروع الملامح التي قلبت موازين القوى كما قلبت رأسا على عقب الاستراتيجيات التقليدية في التخطيط للحروب وإدارتها. يستحضر الأشقاء المصريون اليوم المعاني العميقة لنصر أكتوبر العظيم بعد سنوات طويلة من تغييب هذا الحدث عن أذهان وعن ذاكرة الشارع المصري واختزال إحيائه في بعض المظاهر الرمزية. يعيد الشارع المصري قراءة هذا النصر العظيم، فيرى فيه كذلك ثأرا من العدوّ، وثورة من جيشه على واقعه الذي أفرزته نكسة جوان 1967 وعلى مخلفات الخيانات التي رافقته منذ نهاية الأربعينات انتهت بانتصار عزته وكرامته على مكامن خوفه وخنوعه. بعد أربعين سنة من نصر أكتوبر 1973، يستعيد المصريون ثقتهم في مؤسستهم العسكرية وفي جنودها من أبناء الفلاحين الفقراء والبسطاء، ويزدادون فخرا واعتزازا بها لما يتيقنون أكثر فأكثر أن مؤسستهم العسكرية هي وطنية في جوهرها وفي روجها وفي عقيدتها، فهكذا نشأت هذه المؤسسة معادية للعثمانيين أتراكا ومماليك ولطغيانهم ولجبروتهم، ومعادية للاستعمار البريطاني ومعادية لسطوة العائلة المالكة ولحكمها الإقطاعي، ومعادية في امتدادها القومي لكل أشكال الاحتلال، وهكذا ستبقى هذه المؤسسة حصنا منيعا معاديا لكل من يسيء إلى مصالح مصر العليا وإلى أمنها القومي من الداخل ومن الخارج. ويحسب للمؤسسة العسكرية أنها تجاوزت في ظرف وجيز من الزمن مرحلة الإحباط التي عقبت نكسة حرب جوان 1967 وعملت بكل عزم وثقة في النفس على خطين متوازيين بنفس الحماس وبنفس النسق: أولا على خط الإعداد لمسرح عمليات الحرب القادمة. ثانيا على خط إشغال العدوّ الصهيوني بحرب استنزاف ثلاثية الأبعاد تقوم أولا على حرب استخباراتية عالية الدقة والحرفية وثانيا على عمليات عسكرية نوعية بعيدة عن خطوط المواجهة ومن أهمها تفجير الميناء العسكري «إيلات» بخليج العقبة في أكتوبر 1967 وثالثا على تفعيل المقاومة الشعبية بفسح المجال أمام مجموعات فدائية من المتطوعين لافتعال مناوشات عسكرية محدودة في الزمان وفي المكان تجعل العدو في حالة ارتباك دائم أكثر مما توقع من خسائر فادحة في صفوفه. لقد حققت حرب أكتوبر المجيدة انتصارات جمة معنوية وعسكرية واقتصادية متزامنة، فمعنويّا قضى نصر أكتوبر على أسطورة الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يقهر، عسكريّا أفضى النصر على سيطرة الجيش المصري بالكامل على قناة السويس وإلى تحرير جزئي لصحراء سيناء في مرحلة أولى مهدت لتحريرها بالكامل بمقتضى اتفاقية السلام الموقعة مع الكيان الصهيوني سنة 1979، أما اقتصاديا فقد أهدى النصر عودة حركة الملاحة إلى قناة السويس ابتداء من سنة 1975 بما أمّن للخزينة المصرية عائدات هامة كانت محرومة منها منذ حرب 1967. وقد كان بإمكان هذه الحرب أن تأخذ منحى آخر كان يمكن أن يفضي إلى زوال دولة الكيان الصهيوني لولا التدخل المباشر للولايات المتحدةالأمريكية بكل ثقلها وخاصة العسكري منه، بدءا بالجسور الجوية التي أقامتها لإمداد الجيش الصهيوني منذ اليوم الرابع من اندلاع الحرب بأحدث الأسلحة والعتاد الحربي وإيفاد مجموعات من خبرائها العسكريين إلى ميدان المعركة لإسناد قيادات الجيش الصهيوني في إدارة العمليات الحربية وصولا إلى تهديد القيادة المصرية بالتدخل المباشر لقواتها العسكرية في هذه الحرب. في هذه الذكرى الأربعين لنصر أكتوبر العظيم نشارك الأشقّاء في مصر فرحتهم الجماعية بتحقيق أهدافهم الوطنية في التحرير وفي السيادة على أمل المساهمة الفعالة في استكمال المهمّة القومية المركزية بتحرير فلسطين. في غمرة أجواء الفرح والفخر والاعتزاز هذه والمنبعثة من جديد بعد سنوات من التهميش والنسيان، يتذكر المصريون نصيبهم من المسؤولية في ضياع فلسطين أرضا وشعبا، فلا يتنصلون منها، وفي غمرة الاحتفال بعيد النصر يستعيد المصريون تدريجيا دورهم القومي فيبشرون مع تنامي الرفض لاتفاقيات كامب دافيد بأن حرب 1973 لن تكون الحرب الأخيرة مع الكيان الصهيوني دون أن يعني هذا بالضرورة أن الحرب القادمة ستكون حتما عسكرية. يتطلع العرب عموما والفلسطينيون خصوصا بعيون حالمة إلى الضربة الاستباقية للمؤسسة العسكرية المصرية تحسّبا من مخاطر ما تعرضت إليه المؤسستان العسكريتان في العراق وفي سوريا من تفكيك ومن تدمير للقدرات وإلى مسكها بزمام المبادرة الداخلية بعدما أصاب الأمن القومي المصري من وهن، وهم يأملون أن ينعكس الوضع الجديد للمؤسسة العسكرية المصرية إيجابا على الواقع الجيوسياسي في المنطقة العربية فتتوفق في معالجة اختلال التوازن العربي الصهيوني الذي أضرّ كثيرا بالقضية الفلسطينية، فتنتقل مصر السياسية ومصر العسكرية من موقع المحايد أو الوسيط الذي فرضته اتفاقية السلام إلى موقع اللاعب السياسي والعسكري الفاعل والمؤثر والضاغط المؤتمن سياسيا ولم لا عسكريّا إن لزم الأمر على أنبل وأعدل قضية في تاريخ الإنسانية المعاصر. في إحيائهم لذكرى النصر يستحضر المصريون الكثير من المعاني ومن العبر ومن البطولات ومن الصور، ويستحضرون كذلك صورة وروح الزعيم الراحل جمال عبد النصر كأول وكآخر زعيم عربي يصارح شعبه دون مواراة أو التفاف ويستقيل متحملا نصيبه من الفشل (نكسة 1967) وكأوّل وكآخر زعيم عربي تعيده إرادة الشعب إلى سدة الحكم فيواصل معه المشوار ليرسم الخطوط الأولى لنصر أكتوبر المجيد، وليستلهم منه جيل اليوم إرث الماضي وتحديات المستقبل.