بقلم أسامة رمضاني (*) عندما تعلن وزارة التربية قرارها تدريس اللغة الإنقليزية في المدارس الإبتدائية (بداية من السنة الثالثة إنطلاقا من العام الدراسي 2015-2016) فهي تكرس في الواقع إختيارا تمليه المصلحة الإقتصادية للبلاد والتطورات الكبرى في العالم. وليست تونس وحدها المعنية بذلك ، إذ يصادف هذا التمشي الجديد وعيا متزايدا في المنطقة المغاربية بضرورة تطوير درجة اتقان الطلبة والتلاميذ لهذه اللغة خاصة وأن مستوى الكفاءة في اللغة الإنقليزية على مستوى كافة بلدان المغرب العربي من أكثر المستويات تدنيا في العالم. ولكن نسبة اتقان الإنقليزية تتفاوت من بلاد مغاربية الى أخرى إذ تعتبر الافضل في المغرب الاقصى والاسوإ في ليبيا. فتقارير مؤسسة «أورو مورنيتور الدولية» Euro Monitor International ومؤسسة «بريتش كاونسلCouncil British مثلا تظهر أن نسبة الأشخاص الذين يتقنون الإنقليزية في المغرب الأقصى لا تتجاوز 14% وهي لا تفوق 13% في تونس و7% في الجزائر. وحتى في مصر ، حيث تعتبر الإنقليزية اللغة الثانية في البلاد، فتبلغ نسبة إتقان هذه اللغة 35% فقط. كما يظهر تقرير أصدرته منظمة «التربية أولا» Education First السويسرية أن درجة إتقان اللغة الإنقليزية في بلدان المغرب العربي «منخفضة» أو «منخفضة جدا» بالمقارنة مع بقية بلدان العالم. وهذا الوضع مصدر قلق متزايد لاصحاب القرار في المنطقة المغاربية وخاصة منهم العاملون في المجال الاقتصادي نظرا لان الكفاءة في اللغة الإنقليزية أصبحت عنصرا محددا على أصعدة مختلفة من بينها: 1 الصعيد الإقتصادي: تظهر الدراسات أهمية تطوير مستوى إتقان اللغة الإنقليزية من أجل رفع التحديات الإقتصادية ومن بينها خلق مواطن الشغل وجذب الاستثمارات الاجنبية وتسريع وتيرة النمو الإقتصادي. ويعود ذلك للطبيعة المعولمة للإقتصاد العالمي التي جعلت اللغة الإنقليزية لغة التواصل الأساسية في معظم المعاملات التجارية والمالية والبنكية بين البلدان. وتؤكد دراسة منظمة «التربية أولا»، (من خلال تحليلها للمؤشرات اللغوية والإقتصادية في 60 بلدا في العالم) الترابط الوثيق بين تحسين مستوى إمتلاك ناصية اللغة الإنقليزية وتطور مستوى الصادرات وتدفق الإستثمارات الخارجية وتوفر ظروف ملائمة للأعمال وارتفاع مستوى التنافسية في مختلف البلدان. ويكتسي امتلاك الكفاءة في اللغة الإنقليزية أهمية خاصة في القطاعات المرتبطة بالخدمات والسياحة والأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة مثل تطوير البرمجيات وتكنولوجيا الاتصال، وهي قطاعات حيوية بالنسبة للنمو الاقتصادي في بلادنا. وهي من العناصر التي تاخذها الشركات المتعددة الجنسيات بعين الاعتبار قبل الاستقرار في اي بلد ما. لذا من الطبيعي ان تكون الكفاءة في اللغة الإنقليزية من شروط تشغيلية الكفاءات التونسية سواء في الداخل او الخارج. وقد اتضح من خلال التجارب السابقة في بلادنا على صعيد تشغيل إطاراتنا في الخارج أهمية إتقان الإنقليزية كشرط من شروط الانتداب والنجاعة في العمل. ولوحظ ان عديد التجارب السابقة في مجال التعاون الفني لم تكلل بالنجاح نتيجة عدم اتقان اللغة الإنقليزية وذلك بالرغم من المستوى العلمي المتميز والكفاءات العالية لاطاراتنا. 2 الصعيد العلمي والتربوي تشير الارقام الى أن البحوث والكتابات العلمية المنشورة في العالم تستعمل الإنقليزية بنسبة تفوق 95 % . ويعتقد المختصون في سائر مجالات العلوم والتكنولوجيا اليوم أنه لم يعد هناك من خيار أمامهم غير نشر أعمالهم بالإنقليزية اذا ما ارادوا ان يكون لبحوثهم أي اشعاع. ورغم هذا الواقع البادي للعيان فان المنظومات التربوية والبحثية في المنطقة المغاربية مازالت الى حد كبير خارج بوتقة التعبير والنشر بالانقليزية وبالتالي غير قادرة تماما على التاثير في النقاش العلمي خارج الحدود. ويبقى اصل المشكلة مرتبطا بهنات المنظومة التعليمية المغاربية بشكل عام رغم الميزانيات المخصصة للتعليم. فتدني مستوى الإنقليزية في مدارس المغرب العربي ليس معزولا عن تدني مستوى التعليم بشكل عام (وهو ما يتجلى من الرتب المتأخرة التي يحتلها المستوى التعليمي لهذه البلدان في سائر المؤشرات الدولية). كما ان المناهج المستعملة في تعليم الإنقليزية مازالت بعيدة كل البعد عن التركيز على تكوين المهارات الشفوية والإتصالية ومواكبة الاستعمالات الحديثة للإنقليزية. ولتجاوز الوضع الحالي ، في تونس على وجه التحديد، نحتاج الى مراجعة عميقة لطرق تعليم الإنقليزية على كافة المستويات واتخاذ جملة من الاجراءات من بينها: اقامة تعاون اوسع مع المؤسسات الجامعية والتكوينية الاجنبية بما يسمح بالاستفادة من خبرتها في تاهيل اطارات التدريس وانتداب الاساتذة المختصين في «تعليم الإنقليزية كلغة أجنبية». التوصل الى صيغ من شانها توفير فرص اجراء التربصات الطويلة الامد للطلبة التونسيين في البلدان الناطقة بالإنقليزية. تعزيز برامج التبادل الدولي التي تسمح للتلاميذ والطلبة باكتساب الدربة على الإنقليزية في محيطها الثقافي الطبيعي (اي في المجتمعات الناطقة بها) وليس في «قرى لغوية» اصطناعية. 3 صعيد المصالح الاستراتيجية والعلاقات الدولية: أصبحت اللغة الإنقليزية في سائر مجالات العلاقات الدولية لغة التواصل الأولى بما يجعل الإعتماد على الترجمة في كثير من المحافل غير ممكن وغير واقعي بتاتا. وتفيد الإحصائيات أن نصف الصفحات على شبكة الإنترنت سنة 2011 كانت باللغة الإنقليزية. وإذ يعرب البعض عن خشيتهم من الإنعكاسات السلبية الممكنة لتطوير مستوى اللغة الإنقليزية على الهوية الثقافية من حيث إرتباط هذه اللغة بتيارات العولمة فإن تجارب بلدان مثل فنلندا وسنغفورة وماليزيا تؤكد بوضوح أن البلدان التي انتهجت سياسة تطوير اللغات الأجنبية استطاعت الحفاظ على أصالتها الحضارية وحمايتها من الانبتات والذوبان دون المس بحظوظها في اللحاق بركب الدول المتقدمة. وتطوير مستوى اللغة الانقليزية في بلادنا يمر حتما عبر تطوير الكفاءات اللغوية في منظومتنا التربوية عامة بما يشمل تطوير تدريس اللغة العربية وتعزيز مكانتها بوصفها اللغة الوطنية للبلاد واحدى الركائز الاساسية لانتمائها الحضاري. والمفارقة أيضا على صعيد العلاقات بين البلدان العربية أن الكثير من الدوائر الاقتصادية ترى في تطوير إتقان اللغة الإنقليزية في بلدان المغرب العربي عاملا من شأنه دعم علاقات الشراكة والتبادل التجاري بين مغرب الوطن العربي ومشرقه وذلك نظرا لكونه يساعد المنطقتين على تجاوز الفوارق القائمة بين الثقافتين الإدارتين السائدة فيهما (نتيجة تأثير الإرث الفرنسي في احداها وطغيان الاستعمالات الإنقليزية المعولمة في الثانية). وإذ يرى البعض في المنطقة المغاربية أن تطوير الانقليزية يشكل تهديدا «غير مقبول» للمكانة التقليدية للغة الفرنسية ، فإن مثل هذا الرأي قد تجاوزته الأحداث بفعل التطورات الحاصلة في العالم والتي جعلت إكتساب الكفاءة في الإنقليزية ضرورة لا مفر منها بالنسبة لفرنسا والبلدان الفرانكفونية ذاتها. كما أنه اعتبارا لقدرة الناشئة على إكتساب المهارة على استخدام عديد اللغات في نفس الوقت فان تاهيل منظومة تدريس اللغات الاجنبية سوف يرفع درجة اتقان اللغة الفرنسية بوصفها احد الجسور الهامة للبلاد والمنطقة المغاربية نحو مجالات التواصل والتعاون الخارجي. نظرا لكل هذه الاعتبارات اضحى من الضروري الانكباب على مراجعة منهجيات تدريس اللغة الإنقليزية حتى تكون الاجيال الصاعدة قادرة على ضمان مستقبلها بشكل أفضل.
(*) أسامة رمضاني: وزير سابق ومحلل في الصحافة الدولية الناطقة بالإنقليزية عنوان مدونته: oussama-romdhani.com