لماذا أخفت الحكومة حقيقة «الكارثة» في السياحة ؟ تواصل «انفجار» الإضرابات.. سيُحيلنا رأسا إلى سيناريو اليونان «فخ الثانوي» .. «البكم» الإعلامي.. وغياب التضامن.. أخطاء قاتلة من المستفيد من «التشويش» على عودة أجهزة الرقابة ؟ بوادر انقلاب.. والبديل يدخل مرحلة «الحركات الإحمائية» من خذل من.. الحكومة أم «النداء» ؟ ذكرني ذاك التحذير الفذ والمباغت من مغبة حصول «آنفجار اقتصادي واجتماعي» بأولئك الذين قتلوا ابن بنت الرسول (صلى الله عليه وسلم) في برد جده بعد مطاردات دامية ثم صدموا الإمام أبي حنيفة النعمان عندما تساءلوا «ما حُكم قتل ذبابة في المسجد»! إنّها بلا منازع سابقة في تاريخ «الانفصام» قد تدفع إلى مراجعة شاملة لمسار «فرويد» أن يدفع أحدهم بلدا بأسره إلى مشارف الهاوية ثم يصعد إلى الربوة ليحذر الناس من مغبة السقوط فيها. بل إنّ هذا الخطاب الذي تزامن مع «انفجار» الإضرابات وما لف لفها قد يكون أكد تخمينات سابقة بأنّ «أزمة الثانوي» بداية مارس الأخير لم تكن في أبعادها قبل منطلقاتها سوى «فخ كبير» لجهة أن «التوقيع» مع سلك بعينه فيما الجميع كان يتلضّى بنار غلاء المعيشة و«ذوبان» الدينار سيثير «غيرة» كل القطاعات بلا استثناء بما يقتضي «فاتورة باهظة» دون احتساب «الأداءات» أي تلك الأطراف المتربّصة بالحاكم الجديد والتي ستتحرك تحت الحراك الاجتماعي والشعبي والمدني لتحول البلد بأسره إلى «حضيرة إضرابات». أخطاء قاتلة وعلى الضفة المقابلة قد تكون الحكومة الناشئة عجلت بساعتها عندما واجهت بلياقة متناهية كثيرا من «قلة الحياء»... ولم تتضامن بما فيه الكفاية مع وزير التربية ناجي جلول في بداية الأزمة حين تمسك بمسألة مبدئية مفادها أن أيّ حوار حول المسائل المالية هو من اختصاص المفاوضات العامة.. وعندما انتصر إلى كيان الدولة من خلال التأكيد على أنّ الطرف النقابي شريك في الحوار وليس التسيير... وسلطة القرار. غياب «التضامن» الحكومي إبّان تلك الأزمة قد يكون أكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الحكومة وأسلمها إلى مصير مجهول وهي التي تصارع اليوم سيلا من الإضرابات والانفلاتات من كلّ حدب وصوب بما يدفعها إلى الغرق في مستنقع التهميش ويحولها إلى «حكومة مفاوضات» بما يعنيه ذلك من استنزاف لكثير من الطاقة والإمكانيات يقلص من احتمالات توفق الصيد في المهمة شبه المستحيلة التي ألقيت على كاهله. انتقال العدوى تلك الأزمة أظهرت أيضا ضعفا متناهيا لحكومة الصيد في مادة «الرياضيات».. فلو أخذت زمام المبادرة وأعلنت انتصارها لأوضاع الطبقة الشغيلة رغم الأزمة الاقتصادية والخزائن شبه الفارغة التي ورثتها... وطرحت زيادة تفوق حتى ما طرحه الطرف النقابي لألجمت أفواها وكسبت الرأي العام برمته وسحبت البساط من تحت أقدام المزايدين عليها لتفرض «هدنة اجتماعية» بكلفة ستكون أقل بكثير من التعاطي مع سيل الإضرابات واستتباعاتها المالية «فرادى». بل إنّ ضآلة الوعي بتبعات أي استثناء في التعاطي مع المطلبية آنذاك كان سببا مباشرا لا فقط ل«انفجار» المطالب في العام وإنما لانتقال العدوى إلى الخاص حيث أن الإعلان أول أمس عن ضرورة فتح التفاوض في هذا القطاع قد لن يكون سوى مدخلا لمرحلة تذبذب في آلة الإنتاج يزيد في تعميق الأزمة الاقتصادية ويختزل المسافات نحو سيناريو مماثل لأزمة اليونان. «ميصفات» ترفض الابتزاز وأكاد أجزم أنّ الحكومة لو جازفت وحذت حذو الإدارة العامة لمؤسّسة «ميصفات» التي رفضت في أعقاب اجتماع عقد عشية أول أمس بإشراف وزير الشؤون الاجتماعية الخضوع ل«الابتزاز» مختزلا في دفع أجور 20 عاملا وهم في بيوتهم إلى حين الحسم في وضعياتهم قضائيا مقابل السماح لهذه المؤسّسة باستئناف نشاطها المتوقف منذ ثلاثة أسابيع بفعل اعتصام أقامه لفيف العمال المذكور تسبب في وقف الإنتاج في هذه المؤسّسة التي تشغل نحو 850 عاملا. علما وأنّ المؤسّسة كانت بادرت برفع قضايا ضد ال20 عاملا بتهمة تعطيل سير العمل من منطلق حقوقها المضمنة صلب القانون. هذا المشهد أشّر أيضا إلى مسژألة خطيرة هي أن «الابتزاز» في هذا البلد صار يتم برعاية الحكومة ذاتها «SPONSORING» وبما يخرجها في صورة العجز عن الاضطلاع بصلاحياتها في فرض سلطان القانون واتخاذ ما يتعيّن لزحزحة أخطر ملفاتها وهو الوضع الاقتصادي الذي لن يتحرك قيد أنملة في بلد تكاد صورته تلتصق بظواهر ودعتها البشرية منذ قرون وأهمها على الإطلاق اضطرار مؤسّسات عمومية وخاصة لدفع «الجزية» أي خلاص أجور أشخاص لا يشتغلون لديها حتى تنعم بالحدّ الأدنى من السلم الاجتماعي وتقدر على «تدوير» آلة الإنتاج. فاتورة باهظة ويبدو جليا في هذا الجانب أن الحكومة بصدد خلاص «فاتورة باهظة» نشأت عن تلك الصورة التي لازمتها إبّان تشكلها ومفادها أنها خضعت إلى رغبة طرف اجتماعي في تعيين وزير على رأس الوزارة المسؤولة عن إدارة الملف الاجتماعي و«فيتو» ذات الطرف ضد وزير آخر دون أن تحصّل شيئا في المقابل لجهة أنها لم تتمتّع بذات الهدنة التي حظيت بها كلّ من النسخة الثانية لحكومة «الترويكا» ثم حكومة جمعة. بل إنّ الأغرب من ذلك أن انفجار الإضرابات وشتّى أصناف الانفلاتات الرسمية والعشوائية التي عطلت المرفق العام وسير آلة الإنتاج جاء متزامنا مع عاملين اثنين هما تزايد الجدل «النقابي نقابي» حول مدى شرعية استفادة هذا الطرف دون ذاك من اقتطاع الدولة للانخراطات من الأجور وثانيهما توسع دائرة الوعي بأن الفعل النقابي قد خرج عن طبيعته بما يشير رأسا إلى أجندات سياسية صرفة تشتغل تحت أقدام الاتحاد وتجعله يهرع إلى تصدير أزمته إلى الحكومة على غرار أطياف سياسية كثيرة. بل إن الأخطر من ذلك هو توسع الاجماع على أنّ الإجحاف في المطلبية اليوم لا مبرّر له لجهة أن حكومة الصيد قد توفقت على الأقل في وقف المنحى التصاعدي للأسعار المتواصل منذ نحو أربع سنوات كما أنه عامل مربك لبسط الاستقرار الأمني والاقتصادي يسير في اتجاه معاكس لاستعادة المؤسستين العسكرية والأمنية زمام المبادرة في الحرب على الإرهاب وتوفق أجهزة الرقابة النظامية والإدارية في «إحراج» عالم الاقتصاد التحتي بسائر مكوناته ولا سيما التهريب وبارونات الحاويات ومافيا الاحتكار بكل ما في ذلك من رهانات أمنية واقتصادية واجتماعية مترابطة. وينضاف إلى تلك الخانة هذا التزامن بين الانفلاتات وتواتر مظاهر الاحتجاج و«التشويش» إزاء العودة القوية لأجهزة الرقابة والتي أكدت تخمينات سابقة بأن «الحيتان الكبيرة» ستحاول صد أيّ جهد لرفع الستار عن ممارساتها بتوظيف «الصغار» لافتعال احتجاجات تظهر المارقين عن القانون في صورة «المساكين» والدولة في مظهر المتعسّف فيما أجهزة الدولة تواجه رهان «تجفيف المنابع» الذي قد تكون قيمته آلاف المليارات على مستوى خزائن الدولة.. فضلا عن تبعاته الخطيرة على صحة و«جيب» المستهلك في هذا البلد الذي غزت فيه «المواد المسرطنة» كل المنتوجات التي تروّج في «الموازي» العظيم. صكّ على بياض الحكومة أعطت أيضا «صكا على بياض» للمتربصين بها من خلال التردّد الذي وسم مواقفها بشأن مسائل جوهرية أهمها حقها في استخدام «خزان الكفاءات» المتاح للدولة والذي ركن شق كبير منه إلى الثلاجة في الأعوام الأخيرة.. حيث لم تبادر إلى حدّ الآن بمراجعات شاملة للتعيينات من القمة إلى القاع واكتفت بالتقتير الذي أخرجها في صورة «المختلس» لأوكد حقوقه. بل إنها سمحت في كثير من الحالات بأن يشتغل في أروقتها أشخاص لا يعملون لحسابها أو بالأحرى للدولة كما لازمت الصمت المحيّر و«البكم» الإعلامي سواء في نقل الصورة كما هي بشأن «التركة» الثقيلة التي ورثتها والسيناريوهات المحتملة لتواصل حالة «الارتخاء العام».. أو صياغة الملفات وتكثيف اللقاءات الإعلامية بشأن عدد من القضايا الملحة والإصلاحات العاجلة حتى تستطيع مواجهة «الخطاب الشعبوي» الذي مازال «متقوقعا» في أذهان قطاعات واسعة مما يسمّى النخبة السياسية والمدنية والذي قد يصنع «حاجزا نفسيا» يحول دون بدء مسار إعادة البناء. بل إنّ الأغرب من ذلك أنّ الحكومة لم تتحدث إلى اليوم عن إمكانية حصول سيناريو مماثل لأزمة اليونان يؤدّي إلى تسريح آلاف العمال وخفض الأجور.. فيما بات هذا السيناريو على مرمى بصر من الأوضاع في تونس. ولست أدري في ذات السياق لماذا حاول الخطاب الحكومي التخفيف من التبعات الخطيرة لهجمة باردو على القطاع السياحي.. حيث قدرت حجم التراجع المتوقع بما بين ٪10 و٪15 فيما تؤكّد معطيات ثابتة أنّ حجوزات منظمي الرحلات الأوروبيين لفترة الذروة قد تراجعت بمقدار ٪50 وأن العديد منهم أعلن مقاطعته للوجهة التونسية فيما اكتفى عدد آخر بوعود معلقة بين الأرض والسماء. معارضة «الشارع» إن هذا الصمت سيجعل الحكومة تتحمل تبعات تأزم جديد للأوضاع قد تفوق حدته ما حصل إبّان «الترويكا» وبعيدها.. فيما هو ناتج في الواقع عن بلطجة وأنانية أطراف سياسية ومدنية تسعى إلى تثبيت موقعها فوق الدولة الذي منت به الأقدار عليها في خضم حالة الوهن التي طالت الدولة وأكداس الغبار التي غطت معيار «الكفاءة» على مدى السنوات الأخيرة. والواضح أنّ كثيرا من تفرعات تلك «الأنانية» تلتقي في «أجندا» بدت معلومة منذ أواسط جانفي الفارط وأستغرب كيف لم يلتقطها «الحاكم الجديد».. ومفادها أنّ أطيافا سياسية ومدنية منها من وضع قدما داخل هرم الحكومة ستلتقي يوما ما عندما تتعفن الأوضاع وتظهر بوادر إحساس بخيبة الأمل الذي كان قد بلغ مداه بعيد الانتخابات الأخيرة لتعيد أجواء الانتقالي التي أظهرت أن السلطة بيد المعارضة أو بالأحرى «الشارع» وليست عند الحكومة. بل أكاد أجزم أنّ إطلالة «صانع التفرقة» في تونس يوم الأحد بعد تأجيلها عدة مرات في تزامن مع سعي شخصية أخرى إلى استمالة شرائح واسعة تعتقد أن بن علي هو على الأقل رديف معطى السيادة وعنوان لهيبة الدولة la nostalgie à ben ali لم تكن سوى محاولة جادة لتجريد الحاكم الجديد من أي هوية أو سند وإفقاده زمام المبادرة في صياغة مصالحة وطنية حقيقية بعد أن كان قد أطلقها في ذكرى الاستقلال لتتلقفها كثير من النيران المعادية والصديقة وتفقدها معناها عبر إخضاعها إلى «تنازع اختصاص» حول صلاحيات الابتزاز. استنساخ بالمحصلة يبدو أن البلاد واقعة تحت تأثير أجندا تهدف إلى استنساخ المسار الفاصل بين مارس وأكتوبر 2011 والذي آل إلى تشكل معادلة استفادت كثيرا من منسوب الغباء والجنون والسذاجة لدى أطراف أخرى بما يدفع إلى الاعتقاد بوجود بوادر «انقلاب» قد يصل مداه إلى قرطاج خاصة وأن الحركات الإحمائية قد تسارعت في الأيام الأخيرة داخل بعض الأروقة. ولست أدري لماذا يلازمني أمل غبي في أن سيناريو مماثلا لن ينجح لجهة الاعتقاد أن الحاكم الجديد قد تلقى مؤخرا سيلا من الرسائل العنيفة التي قد تدفع نحو متغيرات عميقة بدءا من الخطاب ذاته لتأكيد بوادر الانتفاضة على الوهن ومفهوم الإفلات من العقاب القادمة من مواقع كثيرة أهمها شارعا بورقيبة وخير الدين. لكن حظوظ حصول سيناريو مماثل ستظل رهينة إخراج قطاع الأعمال من دائرة التعاطي السلبي مع الأوضاع وعدم الوعي بأن خطوة إلى الأمام سواء في مجال الاستثمار أو التحكم في الأسعار سيكون لها بفعل الإيحاء آثار إيجابية على الوضع العام توفر للحكومة هامشا أوسع للإصلاح والفعل.. كما يظل ذلك مرتبطا بمدى لملمة «نداء تونس» الذي قد يكون «خذل» الحكومة عندما سمح لأطراف أخرى بتصدير أزمتها إليه وذلك في وقت يحتاج فيه الحاكم الجديد على الأقل إلى تأطير حزبي قوي على الميدان سينفض الغبار عن كثير من الأدران والألغاز العالقة ويذكّي واعز المواطنة الحقيقية التي تقوم على التلازم بين الحقوق والواجبات وتعيد الأمل في أن هذا البلد سيعدل يوما ما ساعته على توقيت العصر رغم تلك الهواجس التي تسكنني إزاء ذاك الاحتفال المسبق بعيد الشغل.