«تميورث» أو البدر حين يكتمل، هو عرض موسيقي اكتمل حقّا ليلة أوّل أمس بامتياز على ركح مهرجان قرطاج في دورته 51 ، و«تميورث» عرض كان مبرمجا لسهرة 1أوت لكن الظروف المناخية أجلته إلى سهرة 17 من نفس الشهر أي ليلة قبل العرض الختامي لمهرجان قرطاج. وعند حوالي العاشرة ليلا، اعتلى مقدمو العرض ركح مسرح قرطاج يتقدمهم الطاهر القيزاني بلباسهم المستمد من الثقافة الأمازيغية ونقوشها الفريدة اعتمادا على اللونين الاسود والاحمر وفي الوسط وقف الطاهر القيزاني وبقية اعضاء الفرقة حاملين عصيهم المنقوشة بالفضة التي وظّفت في العرض كأداة للإيقاع أمام الجماهير فأدوا تارة أغاني جماعية وطورا فرادى أهازيج قادمة من عمق الزمان، من الصحراء والمغارات المحفورة في الجبال. وقد كان لآلة الناي وقع في نفوس الحاضرين وفي تحريك المشاعر الساكنة و دغدغة الحنين إلى الماضي الذي وإن همدت نيرانه لفترات طويلة فإن جمره لم ينطفئ، مما جعل الجماهير تتفاعل طيلة ساعة ونصف من الزمن دون انقطاع وبتأثر بالغ مع الإيقاعات الصادرة عن آلات الإيقاع التقليدية وخاصة الدفوف والطبول ليزيد ضرب الفنانين بعصيهم على أرضية المسرح الأصوات قوة والإيقاعات سطوة حتى يكاد المتفرج يشعر بنقرات على أوتار قلبه. وفي «تميورث» العرض الموسيقي استلهام للاسطورة الامازيغية التي تقول انه عند اكتمال البدر يرى أحد الفرسان طيف امرأة جميلة فيقع في غرامها ويدخل بوتقة الحلم الجميل بجوارح قلبه وهو ما ترجمه العرض الى أغان ولوحات راقصة مفعمة بالمناجاة والشكوى والعتاب وملاحقة السراب واعتراف بالوجع وهو وجع يتجاوز اللحظة ليعبر عن مأساة الإنسان في الأرض الذي تحيطه به الأشواك وتتربص به العادات الموروثة التي تغل أصحابها بسلاسل الكبت والحسد والظلمة فتحولهم الى وحوش يترصدون العاشقين ويسدون عنهم منافذ الهرب وكأنهم ارتكبوا جريمة أو جنحة، ويصبحون «عزّال» وواشين. وقد نجحت اللوحات الكوريغرافية في التعبير عن الفكرة وتجسم الصراع بين المحبة وقوى الشر. عرض تميورث هو من تلحين الطاهر القيزاني وكلمات الشاعر المولدي حسين في حين صممت اللوحات الكورغرافية منية لخضر وهو قراءة جديدة في التراث الموسيقي التونسي، قراءة تخرج بالموروث من منطقة الفلكلور وتنفض عنه غبار السنين ليطل بكامل عنفوانه على نور القمر. ويتكون العرض من أربع مستويات أساسية، الشعر والموسيقي والغناء والرقص والكرويغرافيا، وقد ساهمت اللوحات الراقصة المجسمة لتلك الحالة العاطفية التي تتجاوز العلاقة بين الأجساد لتتحول إلى علاقة روحية - وقد كان الراقصان (البنت والولد) صانعين حقيقيين- في إضفاء روح العصر على العرض، فهي لوحات تمزج بين الرقص التونسي التقليدي والرقص التعبيري العصري. مقابل ذلك طغت الإيقاعات التونسية على الموسيقى فقد برزت أصوات آلات الإيقاع التقليدية مدعومة بالباتري كما كانت آلة الناي بارزة حتى وإن سعى صاحب العرض إلى المزج بين عدة ألوان موسيقية من خلال توظيف آلات القيثارة والفيلونسال والأورغ والكمان. أما أصوات الفنانين وكانت كلها رجالية فقد تميّزت بعنفوانها وبقوتها إلا أن الإيقاعات المتشابهة كانت تجعلنا نشعر وكأنّنا إزاء أغنية واحدة جعلت العرض يتفادى النمطية. وقد انتظرت العرض شريحة من الجمهور الحاضر بفارغ الصبر رغم قلة عدده، خصوصا ان «تميورث» توج بجائزة الجمهور في مهرجان أيام قرطاج الموسيقية في دورته لهذا العام،وعرض في عدة مناسبات، وقد يعود ضعف الاقبال على العرض هذه المرّة إلى أنّه لم يحظ بالاشهار الكافي خصوصا أنه متجدد وفيه محاولة لإنصاف تراث موسيقي ثري يكاد يضيع في زحام الاغاني التي لوثت الآذان. لكن ذلك لا ينفي عن العرض الجهد وخاصة تلك الروح المجددة و«تميورث» الذي اشتغل فيه صاحبه على المؤثرات الصوتية وعلى الإضاءة هو من إخراج مروان الرياحي الذي تغيّب ليلتها وفق ما أعلنه الطاهر القيزاني لأسباب شخصية. عموما أقل ما يقال عن عرض «تميورث» أنّه عرض رائع موسيقيا ورقصا وشعرا وقصا، ويفتح الباب لتجديد عديد الاغاني القديمة الاخرى التي بدأت يد النسان تلفّها، ونرجو ألاّ يكتفي أصحاب «تميورث» بهذا العرض ك«المنسيّات» الذي دخل خزانة الارشيف ولم يغادرها ، وان نرى «تميورث 2 » في أغان وايقاعات جديدة مع تعزيز الفرقة بأصوات نسائية ذات خامات وقامات شاهقة في هذه النوعية من العروض.