خطر الديمقراطية في «الظلم الناعم» على الباحثين التخلّص من عقلية «صاحب صنعتك عدوك» حاورها: مصطفى الشارني آمال القعيد أستاذة تعليم عال فيزيائية التكوين، مختصّة في علمي المناعة والوراثة بكليّة العلوم بتونس. متحصّلة على دكتورا الدولة في هذا المجال من معهد باستور جامعة باريس 6 سنة 1981. وهي أول مختصّة في علم المناعة بالجامعة التونسية بعثت برامج تكوين ورسكلة صلب قطاعي التربية والتعليم العالي في علم المناعة وهي عضو مؤسّس بالجمعية التونسية لهذا الاختصاص، تتولى حاليا مهمّة الكتابة العامّة بهذه الجمعية التي أنيطت بها عدّة مهام منها: الطب والبيطرة والصيدلة والبيولوجيا. لها بحوث ودراسات متعدّدة منشورة في كتب ومجلات علمية محكمة منها كتاب في علم المناعة مخصّص للتدريس لطلبة المرحلة الأولى وكتاب تثقيفي بصدد الانجاز حول علم الوراثة وتاريخ شعوب أقطار المغرب العربي. صدرت لها مئات المقالات وطنيّا ودوليّا باللغتين الفرنسية والانقليزية حول شتّى المواضيع المتعلقة باختصاصها الذي وقع تطويره واثراؤه بإجراء بحوث جديدة موسّعة مثل: تشخيص مرض السرطان وطرق الوقاية، وتحديد العوامل الوراثيّة المتعلّقة بتاريخ البلاد التونسية، والتنوّع الحيواني وتشخيص الفيروسات لدى النباتات، وأمراض المناعة الذاتية ومرض السكري والبدانة. تقلّدت مهاما علمية وإدارية منها : رئيسة لجنة إصلاح التعليم وعلم الأحياء والأرض تأسيسا وتنسيقا سنة 1997. مديرة البيداغوجيا ودراسات الدكتورا بوزارة الاشراف من سنة 1998 إلى سنة 2002 وباعثة لبرنامج الجودة في التعليم العالي. مديرة قسم علوم البيولوجيا من سنة 2005 إلى سنة 2008. «التونسية» التقتها فكان معها الحوار التالي: إلى أيّ مدى يمكن اعتبار اختصاصك في المناعة والوراثة قادر على تمكين طلبة الاختصاص من التأصيل والعقلنة والتحديث والوقاية من الأمراض؟ يندرج كل ما قمنا به في الجامعة، وما أنجزناه في اطار عملنا البحثي والتدريسي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في صميم الشأن العام. إذ يلاحظ ان عملنا هذا مرّ بمراحل تاريخية متفاوتة الصّعوبة والأهمية، وقد تبلورت أهمية النتائج ذات الصّلة تدريجيا وفق قيم الصّبر والمثابرة والاستشراف في مجال التعليم والبحث، ذلك أننا نعدّ التدريس رسالة علمية وأخلاقية تزوّد الطالب بقدرة على فهم آليات الاختصاص وربطها بالتطوّر التاريخي والتكنولوجي وتحليل للنتائج العلمية ونقدها كي نؤهّل الطالب للبحث والانتاج العلمي، وخلق الثّقة بالنّفس لديه لإجراء بحوث نظريّة وتطبيقيّة بهدف الوصول إلى النجاح الشخصي والمجتمعي المتأتّي من الاعتماد على النّفس وروح المبادرة والانفتاح على مجالات علميّة وثقافية إثراء للاختصاص وتطويرا له. أما على الصعيد الأخلاقي فمن المفترض أن يكون الأستاذ الجامعي مدرسة قائمة الذّات، بحكم أن سلوكه قائم على قيم مثلى (أخلاقيات المهنة المتكوّنة من عناصر الثقة والاحترام والكفاءة والمساواة والمرونة والتربية على العمل المشترك والنقد البنّاء وشغف الاهتمام بمادّة الاختصاص والتواصل بين الطلبة) وذلك بمنحهم فرصة إبداء الرأي وطرح الأسئلة، وامكانية تقييم الدّرس لتمكين الأستاذ من تحسين كيفية أدائه باستعمال تقنيات التواصل الحديثة. أيّ معنى، وأية إضافة لمسألتي البحث والتأطير في موضوع الحال؟ بادئ ذي بدء، يلاحظ أنني أسّست ثلاثة مخابر بحث، أوّلها كان بمستشفى شارل نيكول في علم أمراض المناعة الذي انتقل هو الآخر إلى معهد باستور الكائن بالبلفيدير وتطوّر في شكل ثلاثة مخابر في مجال «اللّشمانيا» وفقدان المناعة الوراثي.. مع الاشارة إلى أن البحوث حول مسألة «اللّشمانيا» تتمثّل في تحسين التشخيص وايجاد أدوية وتلاقيح ضدّ هذه الجرثومة التي تعدّ سبب عديد الإصابات المنتشرة في العديد من الجهات بالبلاد إن لم تكن كلّها وهي جرثومة خطيرة مشوّهة للمواطن البارزة في جسم الانسان، الوجه والأيدي مثالا. ولعلّ من بين ايجابيّات هذه المخابر العلمية، أن مركز باستور أصبح يمثل نقطة اشعاع بحثا وتشخيصا والمخبر الثاني بكليّة العلوم بتونس يهتمّ بعلم الوراثة الجزئيّة والبيوتكنولوجيا النباتيّة والتنوّع الجيني في النباتات الطبيعية والمستعملة في الزراعة مثل الخضر والفواكه وعلف الماشية فضلا عن الاهتمام بدراسة الجراثيم المهدّدة للانتاج الفلاحي وضرورة تشخيصها بالأجساد المضادّة التي يتولى انتاجها وصنعها اختصاصيّون في علم المناعة. أما عن المخبر الثالث الذي أتولّى ادارته منذ سنة 2005 فهو يهتمّ بعلم الوراثة والمناعة المطبّقة على الأمراض البشرية ويقوم على ثلاثة عناصر لعلّ أهمّها التنوّع الجيني في كل من تونس وأقطار المغرب العربي في علاقة بالتاريخ البشري منذ أزمنة موغلة في القدم، تقدّر ب20 ألف سنة على أقلّ تقدير. ومن نتائج هذه الأبحاث يتّضح أن تونس متنوّعة الجينات من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة، وهذا التنوّع ناتج عن الاختلاط بالشعوب الافريقية والمتوسطيّة وشعوب شبه الجزيرة العربية وأحوازها خلال فترات ما قبل التاريخ ولقد استمرّ هذا الاختلاط والاحتكار على مدار التاريخ دون اندماج شامل وذلك لعدم قبول الزواج خارج حيز العائلة والمنطقة. وقد ترتّب عن ذلك تكاثر الأمراض الوراثية وتنوّعها في تونس. وقد دفعتنا هذه الوضعية المزمنة إلى دراسة دور العامل الوراثي في الأمراض السرطانية. ماهي أنواع هذه السرطانات؟ إنّها تتوزّع على أربعة أمراض هي: سرطان الثدي والجهاز الهضمي أي الأمعاء الغليظة، والمثانة والعين لدى الأطفال الصغار، التي تشكّل خطرا كارثيا على المريض وأفراد عائلته. ولقد شخّصت الدراسات الميدانية الجينات المتسبّبة في هذه الأمراض مع امكانية التشخيص في مرحلة ما قبل الولادة لسرطان العين، الذي يمكّن من منح عدة امكانيات للكشف عن هذه الأمراض مبكّرا والتصدي لها. هل من فكرة عن أسباب أمراض السرطان؟ يمكن تشخيص أهمّ أسبابها كالآتي: عوامل بيئية (سجائر - نوعية الأكل - التوتّر النفسي - عدم القيام بالنشاط الرياضي - استعمال عقارات ومبيدات - في بعض المهن المتأتّية من الصناعات الكيميائية) والفيروسات مثل فيروس «رحم المرأة» الذي بدأ في التراجع من خلال التلاقيح إلى جانب البدانة. وهناك أيضا عامل الوراثة الذي يتفاعل مع العوامل المشار إليها منذ حين فقد تهيّء هذه العوامل في مجملها مناخا سرطانيّا لصاحبه وعلاقة البداية بالسرطان تأتي من تفاعل الخلايا السّرطانية وخلايا المناعة وخلايا الكولستيرول. ومن نتائج مثل هذه الدراسات تبيّن أن خلايا الكولستيرول تنتج جزئيّات تتسبّب في التهاب مزمن له مفعول سلبي على الخلايا السرطانية. ومن أهمّ النتائج كما ذكر في هذه الدراسات هو التشخيص المبكّر لمرحلة ما قبل الولادة لأكثر من 15 عائلة مصابة بسرطان العين. كما يمكن التنبّؤ بنتيجة العلاج وفق معطيات الملفّ الطبي لمرضى سرطان المثانة. ما المطلوب لنجني قوّة فكريّة وبحثية ذات قيمة مضافة علميّا ومجتمعيّا؟ نحن في تونس نلهث وراء سبل التعاون مع المخابر الأجنبية مفضّلين عدم التعامل مع بعضنا البعض عملا بالرأي القائل «صاحب صنعتك عدوك». لكن تبيّن لنا في الواقع أن من كان بيته خاربا لا يستطيع البتّة أن يجني نتائج تتساوى مع نتائج من كان بيته مرتّبا لذلك تقتضي الضرورة أن نراجع أنفسنا ونتنازل عن أنانيّتنا ونتعاون في ما بيننا لتكوين قوّة فكريّة وبحثية ذات قيمة مضافة تعود بالفائدة والنّفع على كل الأطراف. وعندها فقط يصبح تساوي الفرص من حيث الجدوى والفاعلية ممكنا وناجعا في التعاون الندّي أو القريب من النديّة مع الآخرين كي نستطيع فعلا الاستفادة من بعضنا البعض. كما يمكن أن نستثمر تعاوننا المخبري اقليميّا ودوليّا، وذلك كلّه في اطار نظرة استشرافيّة تصدر عن وزارة الاشراف بالتعاون الفعلي مع أهل الاختصاص المشهود لهم بالكفاءة العلميّة والخبرة الميدانية والقائمة على ارادات قويّة وعقليّات مؤهّلة للتعاطي مع العمل الجماعي هكذا فقط نتمكّن من اشباع كمّ هائل من الحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وطنيا على أقل تقدير. في اعتقادك ما هي الآليّات المطلوبة لتصبح البحوث العلميّة الميدانيّة ركيزة من ركائز السياسات العلمية والاقتصاديّة للبلاد؟ يستوجب ذلك بعث آليّات تتمثّل في النقاط التالية: تأهيل الادارة لتسهيل وتسريع انجاز البحوث المنشودة اذا تمكنّا من خلق ظروف ملائمة لاجراء البحوث العلمية مثل خلق مجال تحفيز للقائمين على الشأن البحثي، وفتح افاق ترقية وطرق تسيير ناجعة، وادراج ضرورة التكوين المستمرّ في المؤسسات والانفتاح على شتّى الاختصاصات التي تثري وتثرَى في شكل لوحات متكاملة ومتداخلة في ما بينها. كما يمكن حثّ الشركات الاقتصادية خاصة منها المؤسسات ذات الطابع الصناعي أو التجاري أو المالي على المساهمة في تمويل البحوث العلمية والاعتراف القانوني بفرق التكوين أسوة بفرق البحث برمجة وتمويلا وتقييما وتحمّلا للمسؤولية في مجال جودة التكوين وربط بالتشغيليّة. أيّ نوع من المسؤولين السياسيّين تنتظرهم تونس اليوم؟ اذا سلّمنا بأن المسؤولية تكليف لا تشريف أقول إنّ المسؤول في أي مستوى مطالب بالكفاءة العالية في ادارة شؤون مؤسّسته وترشّحه لمنصب ما يفترض وجوبا إرفاقه ببرنامج عمل ورؤية استشرافية واقتراحات عمليّة، يتخلّلها التقييم والمساءلة والشفافيّة والمحاسبة في اطار الحوكمة الرشيدة، تناغما مع القول المأثور «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب». كيف تقيّمين المشهد الاقتصادي بالبلاد؟ أفضّل أن تعيش تونس فترة تقشّف اذا توفّر مناخ تضامن بين الشرائح الإجتماعية والجهات على التفريط لا سمح الله في مكتسبات وطنية مثل الطرقات السريعة والأراضي الفلاحية والنزل السياحية الى أطراف أجنبية وعند الضرورة القصوى، أرى لزاما القيام باستشارة وطنية شفافة، خاصّة اذا تعلق الأمر بالقطاعات العمومية الاستراتيجية مثل الحديد والفسفاط والثروة البترولية على قلّة كمياتها كما تستوجب الضرورة ايجاد آليات عمل قبل اتخاذ أي قرار تكون له انعكاسات سلبية وتأثير موجع على مستقبل البلد. ومن هنا يتساءل المرء عن امكانية استرجاع الثقة في التعاطي مع العمل السياسي مستقبلا. وحده الوضوح، واتخاذ الشفافية سبيلا لبعث برامج واضحة، ووضع مقاييس محدّدة والتفاعل الإيجابي مع كل الأطراف بالاعتماد على المهنية والكفاءة والتميّز هي العناصر الكفيلة بارجاع الثقة الى العمل السياسي. وكلّ ما ورد ذكره يظل رهين ارادة سياسية حقيقية. فبهذا يصبح تجاوز الصعاب ممكنا وفي المتناول وبدونه، يصبح كلامنا شعارات مزيفة وبرامجنا ضربا من اللّغو، لا يغني ولا يسمن من جوع فتسوء حالنا أكثر. لذلك، فخيارنا هو اعتناق قيم وطنية سياسية وطرق عمل جدية وصارمة تطبق وفق مبدإ الجودة في العمل وعملا بالقاعدة التالية: «نصيغ ما نريد فعله حقا، ونطبق ما كتبنا دون غيره». ماهي انتظارات الفئات والشرائح المجتمعية من المجتمع المدني في هذا الظرف بالذات؟ إنه مطالب بتبنّي مضامين الحوكمة الرّشيدة تصورا وعملا للمساهمة في شؤون مؤسسات البلاد، إلاّ أن ما يعاب على الاتحاد العام التونسي للشغل في نظري بصفته ركنا محوريا في المجتمع المدني أنه لم يقم بدوره في الدفاع عن تطوير المنظومة التعليمية والبحثية بما فيه الكفاية وحريّ بالمجتمع المدني بكل مكوناته، أن يشتغل على هذا الأساس، وذلك بتعميق الرؤية نحو منظومة تعليمية وبحثية مفيدة وناجعة، يتم من خلالها العمل على خلق مناخ ملائم للإنتاج والابداع مع مزيد الاهتمام بالتشغيلية. كيف تعرّفين مصطلح «المجتمع المدني» الذي تنتظرين منه الكثير؟ يمكن القول انه يعني المؤسسات السياسية والاقتصادية والإجتماعية التي تعمل في ميادينها المختلفة باستقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض مختلفة من بينها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني ومثال ذلك الأحزاب. ومنها كذلك أغراض نقابية، كالدفاع عن مصالح أعضائها ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات المثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف الى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جماعة، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الجماعي لتحقيق التنمية. هل يمكن لهذا المجتمع المدني أن يقوم بدوره دون أن يستند الى رؤية ثقافية تتماشى وروح العصر؟ ان المجتمع المدني لا ينشط فقط بوجود هياكل تنظيم مستقلة عن السلطات العامة فلا قيمة لهذه الهياكل في حدّ ذاتها ما لم تعزّزها ثقافة مواكبة تشدّد على ضرورة تقيد السلطة العامة بحدود معينة في تعاملها مع المواطنين فرادى كانوا أم جماعات، واحترامها حق هؤلاء المواطنين في التنظّم والاجتماع والتفكير والتعبير، وألاّ يقتصر الأمر على مجرّد المعرفة بمثل هذه الحقوق وانما تقترن المعرفة بالتمسك بقيم أخلاقية وبأنماط من السلوك منسقة معها وتشير بعض الكتابات الى هذه العناصر تحت اسم الثقافة المدنية. هل من فكرة عن أنماط العلاقات في المجتمع المدني؟ انها تجري من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية، أي التي ينضم اليها الأفراد بملء ارادتهم الحرّة، وايمانا منهم بأنها قادرة على حماية مصالحهم والتعبير عنها. هذه المؤسسات قد تكون سياسية أو غير سياسية، انتاجية أو خدماتية ومنها على سبيل المثال الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والجمعيات الخيرية، والاتحادات والرابطات والجمعيات المهنية والثقافية والفكرية والمراكز البحثية، وغرف التجارة والصناعة والهيئات الحرفية، والمؤسسات الدّينية... وبالتالي فإن قيم ومبادئ مثل المبادرة والحرّية والإرادة والتعدّدية والعقلانية تعتبر من المقومات الهامة لبناء مؤسسات المجتمع المدني التي قد تسعى الى تحقيق مصالح عامّة تهم مختلف فئات المجتمع أو مصالح فئوية خاصة تهم العناصر والفئات التي تنتمي الى هذه المؤسسات. ما الفرق بين الاستبداد التقليدي والاستبداد الحديث؟ إن كل المجتمعات تتبجّح بقضائها على الاستبداد التقليدي. لكن الاستبداد الحديث يطور وسائل وتقنيات الرقابة والعقاب ويعتمد قوانين يضعها بشكل ديمقراطي، تحوّل الناس إلى سلبيين مستسلمين كلهم ثقة في سلطة ساهرة عليهم في جميع مجالات الحياة. ان الديمقراطية قد تقود إلى فقدان الاحساس بالحرية والخطر يكمن في «الظلم الناعم» فالسلطة وحدها هي التي توصف غالبا بأنها مستبدّة أو قمعية. ومن هنا تكون المواجهة ورادة بين الحكومات والمحكومين، بين السلط والشعوب. وخاصة اذا خرجت السلطة، عن مهامها الطبيعية، فقهرت وقمعت وانحازت وتعاهدت مع أعداء أو خصوم تتناقض مصالحهم مع مصالح شعب أو شعوب.