الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يصنع السياسة في تونس ؟ أوهام السياسيين وحقائق التّاريخ
نشر في التونسية يوم 08 - 02 - 2016

قد يبدو السؤال بسيطا. ولكن حجم الضباب المخيم على المشهد السياسي التونسي الآن يجعله اكثر من ضروري لسبر اتجاهات التاريخ التونسي المترنح. تونس لمن يريد ان يتذكر، هي البلد الذي اطلق موجة الثورات العربية التي تم تحويلها الى فوضى مدمّرة والى حريق يكاد يأتي على وجود العرب المادي (الطبيعي) لا السياسي فقط. لذلك سيظل مسار الثورة في تونس ومآلها مختبرا تاريخيّا مهما لقياس المقولات والتنظيرات السياسية التي تفجّرت في اعقاب الحدث الثوري. هذا المسار التونسي الفريد يراوح في اليوم الواحد بين قمة النجاح وهوّة السقوط المدوّي بما يجعل مهمة توقع مآلاته تتوقف على فهم محركاته وديناميكيته الداخلية المعقّدة.
هذه الاشكالات كانت موضوع دراسة أعدّها الكاتب والمحلل السياسي والاستاذ الجامعي عبد الرزاق بلحاج مسعود نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية وكشف فيها بوضوح أن «المصنع السياسي التونسي» الذي صنع منذ سنوات ثورة يكاد ينتج الفوضى والخراب.ظاهر السياسة في تونس يصنعه فاعلون ذوو هويات طارئة بعد الزلزال الثوري.بما يجعل ارتجاجات الهوية داخل هؤلاء ارتدادات بعدية لزلزال الثورة. الغريب ان أغلب هؤلاء مطمئنون الى حرير هوياتهم الدافئ ويوشكون على الغفلة عن وعي التاريخ الحقيقي الذي يتخذ لنفسه مجرى هادرا..قريبا منهم. قد يتقاطع مصيرهم بمساره يوما فينتبهوا كما انتبهوا يوم 14 جانفي 2011 على وقع تاريخ جديد.
I فاعلو الداخل:
جروح الهوية وغياب البوصلة:
القوى المنتجة للسياسة هي التي تصنع نمط السياسة .هذه بداهة نستعيرها من الجدلية التاريخية التي لم تفقد كل إجرائياتها المنهجية. غير ان تبيّن هوية الفاعلين السياسيين في تونس منذ الثورة الى الآن سيصطدم بصعوبات عديدة، أهمها تغير هوية هؤلاء الفاعلين بسرعة تتجاوز احيانا قدرة المحللين على الرصد وقدرة اصحابها على الوعي بها، دون ان يعفينا ذلك من محاولة تعريف هذه الهويات في صيرورتها السائلة.
نسلّم في البدء ان المسافة بين الرسم والاسم عند كل الفاعلين الذين سنتعرّض لهم، تقتضي حدا ادنى من التاريخية ، بمعنى الواقعية، دون ان نغفل عن تبيّن شبح الموت والنهاية الذي يتسلل الى تلك المسافة ..مهددا بخطر زوال بعض الكيانات الفاعلة حقيقة أو وهما قبل ان تعي وجودها.
1/ الدولة: رهان السياسة وغفلة السياسيين:
هل من الضروري التذكير بان جوهر رهانات الفعل السياسي هو الحفاظ على الدولة بما هي وعاء التاريخ ، والتي من دونها ينفرط عقده ويكف عن واقعيته وعقلانيته.
يبدو ان الدولة كهوية فوقية مفارقة للوعي المباشر اكثر رسوخا في تونس مما يعي الكثير من منظري السياسة ومحترفيها الايديولوجيين . فقد سقطت خلال الثورة فكرتان كانتا تشككان بثقة وصلف ايديولوجي في وجود الدولة التونسية : الفكرة القائلة ان تونس في حدودها “القطرية” معطى استعماريا مصطنعا انتجته اتفاقيات “سايكس بيكو” وستنتهي لصالح مشروع وحدوي حتمي بمجرد ارتفاع الغطاء الاستعماري عن هذا التقسيم المفتعل. والفكرة الثانية القائلة ان تونس ذرّات غبار بشري وحّدها بورقيبة وبعثها من عدم التاريخ.
أثبتت الروح التونسية خلال الثورة وطوال الايام التي اعقبتها وعيا عميقا بكيان الدولة. انخرط التونسيون العائدون من رماد الدكتاتورية في عملية تجدّد روحي واخلاقي باهر عندما انسحب الامن من كامل البلاد فتداعوا الى عملية تضامن عضوي محلي اهلي عمّ كل القرى والاحياء . كانت عملية “التسيير الذاتي” التي نظّر لها “ماو تسي تونغ ” منتجا روحيا اخلاقيا تلقائيّا في تونس ، لم يحتج الى قادة سياسيين يدعون اليه ولا الى وجهاء قبليين يبحثون له عن سند في اخلاق القبيلة ، ولا إلى أيمّة يؤصلونه في كتب الفقه القديم . البنية الاخلاقية للتونسيين اثبتت حيويتها اكثر في موجة التضامن مع وفود اللاجئين الليبيين الذين توافدوا بالآلاف على تونس فوجدوا بيوت وموائد واحضان وقلوب التونسيين مهيّأة لاستقبالهم .
هذه الروح لا يقع اعتبارها في أدبيات التحليل السياسي لان العامل الاخلاقي لا يدخل كمتغيّر علمي في هذه الأدبيات. نحن سنعتبرها فاعلا سياسيا كامنا ، أو ذا وجود بالقوة ، او رصيدا نفسيا قد يسعف زمن العسرة. وهو رصيد يصبّ استراتيجيا في نهر الدولة الذي يوشك ان يجفّ. هوية الدولة جريحة نعم (النعت يعود على الدولة وعلى الهوية بنفس الدرجة)، لكنها تبدو صامدة حتى حين.
2/ نيرون الذي لا وجه له:
لا أحد يشك اليوم في أن هناك من يعمل على اشعال الحريق في البلاد، دون ان يحصل حد أدنى من الاتفاق حول هوية “نيرون”. الكل يتهم الكلّ. انطلقت في تونس سلسلة غامضة من عمليات حرق الزوايا والاضرحة طالت كل مدن البلاد ثم لحقتها وتزامنت معها حرائق كبرى في مقرّات المحاكم ثم حرائق مزارع الحبوب والغابات ، ليتطور الامر بعدها الى عمليات قتل للجنود ومهاجمة مراكز الامن ، ثم الى عمليات اغتيال لرموز سياسية كبرى لم يكن قتلهم بتلك الطريقة الممسرحة وفي توقيت سياسي مفصلي في مرحلة انتقالية هشة ليمرّ دون نتائج سياسية تمسّ من جوهر المسار الانتقالي وترسم للبلاد اتجاها جديدا يوشك ان يكون خارج سيطرة الجميع.
الحديث عن لوبيات المال الفاسد وشبكات تهريب السلع والمال والمخدرات والسلاح وحجم التهرّب الجبائي اصبح “حديث جرائد” ، بمعنى انه فقد مصداقيته الواقعية ولم تفلح أية من الحكومات المتعاقبة في تفعيل أية آلية من آليات تفكيك هذا الاخطبوط الذي يرى الجميع اثره في الواقع ولا يرى حدّا أدنى من القدرة على مقاومته. الجميع يعرف الان ان تعطيل عمل هيئة مقاومة الفساد ولجنة المصادرة يتمّ بصفة ممنهجة ومدروسة . شبكة المصالح القديمة تعمل بنجاعة ملفتة. ربما لحقتها بعض الاضرار بين الحين والآخر ولكن قوتها تجاوزت كثيرا قوة الدولة، بل لعلّها امّنت لنفسها درجات من التداخل مع اجهزة الدولة جعلت من هذه الاخيرة رهينة عندها. هذا ما يطلق عليه اسم “الدولة العميقة” التي انتهت مصطلحا فاقدا للمعنى بفعل نجاعة حملة التمييع التي شنتها عليها آلة الاعلام المكلّفة بالتزييف الايديولوجي الممنهج للوعي.
3/ الشباب التونسي:
هل يكون وقود الفوضى مثلما كان
وقود الثورة ؟
الشباب هم القوة الاجتماعية الاولى التي أسقطت دكتاتورية عجز السياسيون عن زحزحة صخرتها على امتداد نصف قرن. وهم الآن خارج اطر الفعل السياسي الرسمي. كل الاحصائيات المنشورة تردد حقيقة واحدة مفادها عزوف الشباب عن المشاركة السياسية. يمثل الشباب 30 % من السكان ، ولكن 33 % منهم ليس لديهم عمل ولم يحصلوا على تعليم او تكوين ، والذين يتخرجون من الجامعة التي تعد اليوم اكثر من 350.000 طالب لا يحصلون على عمل. معنى ذلك ان كلا الصنفين من الشباب المنقطعين عن التعليم والمتخرجين منه على السواء يغذّون سوق البطالة المفتوح على كل مسارب الانحراف والتوظيف.
واذا كان شباب ال “فايسبوك” قد نجح في فكّ عقدة الخوف من الدكتاتورية وتحرير طاقات التغيير الكامنة في المجتمع ، وواجه الشباب العاطل والمهمّش بصدره رصاص الدكتاتورية بشجاعة ، فان كلا منهما أخلى بعد ذلك الساحة الى طبقة سياسية مبرمجة على صراعات قديمة سابقة ( لا متقدّمة) لوعي الشباب ، الذي اتجه الى تصريف حيويته “الافتراضية” والمادية في مجالات اخرى : يتوزّع الحراك الشبابي اليوم بين الانخراط في جماعات “الارهاب” التي تحترف القتل والموت العبثيين والموظفين من طرف القوى التي تملك المال والسلاح ، او الغرق في مستنقع المخدّرات الذي تشير كل الاحصائيات الى ارتفاع نسب استهلاكه (في ظل غياب الاحصائيات الدقيقة تتفق اغلب التقديرات على نسبة 25 % من الشباب)، أو الهجرة السرية في اتجاه الحلم الأوروبي الموعود والمحفوف بالموت.
الارهاب والمخدرات والجريمة والهجرة السرية والانتحار كلها مسارب للموت المجاني يقبل عليها الشباب التونسي باندفاع يثير الحيرة وينتظر تشخيصا لجروح هذه الهوية الشبابية القاتلة.
الخطير ان الشباب الذي كان خلال الثورة طاقة مؤسسة لتاريخ جديد يتمثّل قيم الحرية والكرامة، قد يصبح أو لعله بدأ في التحوّل الى طاقة تدمير ذاتي حين عجز عن قبول فكرة ان السياسة “صبّت المطلق في قنوات النسبي” على حد عبارة المفكر الطاهر لبيب.
4/ من الحوار الوطني الى الانتخابات: استعجال الديمقراطية وخطر انهيارها.
استطاعت الاحزاب السياسية ومنظمتا العمال والاعراف ان تنقذ المسار الانتقالي في لحظة وعي تاريخي نادرة رفعت شعار “التوافق الوطني”. فتم انجاز “دستور الثورة” (او دستور الجمهورية الثانية كما يفضل البعض حرصا على استمرارية تاريخية ما) الذي أقر تسويات تاريخية معقدة بين مختلف تيارات الفكر والسياسة في البلاد . وتم بصعوبة شديدة توفير الشروط الدستورية لانجاز انتخابات تشريعية ورئاسية آخر سنة 2014 . ولكن البعض أراد أن يستعجل قطف ثمار الديمقراطية ويتعامل معها على انها مكسب راسخ في الثقافة والوعي والواقع ، فانخرطت في توقيت واحد وعلى امتداد رقعة البلاد كل الفئات الاجتماعية والجهات والقطاعات في موجة المطالبة بتحسين أوضاعها المادية وجني ثمار الثورة ، مما كاد يعطّل نهائيا آلة الانتاج ومما اضطر البلاد الى مزيد من الاقتراض والارتهان للبنوك الدولية .
التعاطي السياسي مع هذا الانفجار الاجتماعي المطلبي كان في جانب منه انتهازيا ولا يأخذ في اعتباره السياق الاقليمي والدولي الذي يستهدف التجربة التونسية كما سنشير في ما بعد. ولعل التقاطع الموضوعي بين جماعات “إرهابية” معولمة تستهدف انهاك الدولة تمهيدا لمرحلة “التوحش” ثم اقامة “الامارة الموهومة” ،وقوى النظام القديم ممثلا في لوبيات الجريمة والفساد والتي نرى سلوكها الانقلابي الدموي في مصر وليبيا وسوريا واليمن ، وبعض “الثوريين” الداعين الى إسقاط الحكومة واعادة تشكيل المشهد السياسي من خارج الاطر الديمقراطية المنتخبة (وهو ما ناقشته الجبهة الشعبية داخلها وانكرت تبنيه دون ان يعني ذلك انها لا تمارسه في الواقع ولا تدفع في اتجاهه بحكم وزنها وتأثيرها في المركزية النقابية…) ليس صدفة.
ولا ضرورة للتذكير بالازمة المتفجرة داخل “نداء تونس”، الحزب الفائز بالانتخابات، على خلفية حرب المواقع خلال تقسيم السلطة . وهو ما جعل التفاعل الحكومي مع الازمات الاجتماعية المتعاقبة( اضراب قطاع الفسفاط واحداث ذهيبة ودوز ثم اضرابات قطاع التعليم والصحة …) ومن بعدها الضربات “الارهابية” بطيئا وباردا. ولولا الجهد الذي تبذله تنسيقية احزاب الائتلاف الحاكم وفي القلب منه حركة “النهضة”( التي تشارك بوزير واحد ولكنها تمارس كل ثقلها لمنع الحكومة الحالية من السقوط درء الأزمة سياسية لا تتحملها البلاد) ، لسارت الاوضاع الى الاسوا الذي لا يعدم دافعين في اتجاهه بتصميم لم يعد خافيا على احد.
II الفاعل الخارجي:
القوى الاقليمية والدولية ، حضور يشبه
من شدّة وضوحه الغياب.
يقول الطاهر لبيب إن “المبدأ هو انه لا وجود لقوة خارجية تساند ثورة لا تخدم مصالحها..الرهان في الثورات يكون فقط على ما صنعها من ذكاء جماعي ووعي سياسي وحس مدني”(مجلة الآداب البيروتية عدد 1 - 2 - 3 جانفي فيفري مارس 2011).
كيف يحضر الفاعل الخارجي في تونس اليوم في صناعة السياسة ؟
لا أحد يريد أو يستطيع مواجهة السؤال بالشجاعة والوضوح المطلوبين ، ربما من فرط بداهة الاجابة ، وربما تقديرا للمصلحة في اجتناب حرج مع خارج لا يدّخر جهدا في التعبير عن مساندته المطلقة للتجربة التونسية “الرائدة” (ونذكر جميعا عدد اللقاءات التي اجراها سفراء امريكا وفرنسا مع كل اطراف الحوار الوطني ، ونذكر ايضا ان الغرب ما زال يحتفظ عنده بأموال البلاد التي هرّبها النظام السابق…).
سيظل التذكير ببعض البديهيات امرا مطلوبا لتتضح صورة حضور الخارج في الداخل التونسي :
– الاقتصاد المعولم حقيقة مادية . الرأسمالية المالية المعولمة معلوماتيا تُخضع كل المعاملات الاقتصادية في العالم لسلطتها عبر سوق مالية واحدة متمركزة في الغرب وتقوم بتدوير الريع الاقتصادي لكل أموال العالم في اقتصادات المركز الرأسمالي.
فتبعية الاقتصاد التونسي للاقتصاد العالمي معطى بسيط وبديهي، ولكنه يغيب عن الوعي في الخطاب “الثوري”التحريضي الذي لا يخلو من فائدة التحشيد إن ضمن ان لا يسقط في التيئيس .
فالحديث عن سيادة وطنية مطلقة على مقدّرات البلاد الاقتصادية وعن ضرورة فك الارتباط بالمركز الاستعماري ومراجعة الديون وتنويع علاقات تونس الاقتصادية..لا يعدو ان يكون حديث أمنيات لا علاقة له بالممكن التاريخي الواقعي في تونس الآن . تونس حلقة أضعف من أن تطرح على أجندتها السياسية كل هذه القضايا الاستراتيجية في سياق انتقالي مترنح.
قد لا يجد هذا الكلام هوى في قلوب وعقول المخلصين للثورة ، ولكن الاهم من هذا هو غياب بوادر التحليل العلمي لاليات هذه الهيمنة الاستعمارية المستفحلة(عدا تلك القراءات النبوئية التي اشرنا اليها في بداية المقال). وكل حديث عن وقوف العالم مع الديمقراطية التونسية الوليدة لا يعدو ان يكون بلاغة ديبلوماسية لا مقابل لها في الواقع. العالم يقف بوضوح مع مشروع التدمير المنهجي لمقوّمات القوة والنهوض في العالم العربي : الثروات الطبيعية الهائلة والرصيد الروحي الحضاري للعرب والرصيد الشبابي العربي ..كلها مستهدفة بأسلحة موجهة بدقة الى القلب منها.
وليس “الارهاب” الا ذروة هذا الاستهداف لمسار التحرّر الذي انطلق في اوطاننا منذ معارك التحرر الوطني ضد الاستعمار العسكري المباشر، واستمرّ في مواجهة الاستبداد (بالتوازي مع مواجهة الصهيونية سليلة الاستعمار)، ليبلغ ذروته مع اندلاع الثورات العربية .قبل ان يتم الانقلاب على هذا المسار في كل بلد بما يناسب خصوصيته المحلية : فتم توظيف المعطى المذهبي في العراق واليمن وسوريا، وتوظيف الجيش في مصر وسوريا ، والجغرافيا القبلية في ليبيا ، وتراث العلمنة والتحديث الفرنسيين في تونس التي تضمّ نخبة متغرّبة هجينة تخوض حرب الهوية كحرب مصير.
المشترك الجامع لاستراتيجية الانقلاب على الثورات العربية انها تتوحد تحت شعار مقاومة الارهاب. ارهاب لا احد يجد الجرأة اليوم لكشف هويته الحقيقية ، رغم حجم التمويل والتسليح الذي لا يدع مجالا للشكّ ان وراءه قوى كبرى تتجاوز قدرة تنظيمات لا يمكن ان تستمرّ إن لم تجد من يوفر لها السلاح المتطور ويشتري منها البترول ويوفر لها السيولة المالية بالعملة الصعبة.
خاتمة:
مصنع السياسة في تونس يوشك ان ينتج كثيرا من الفوضى والخراب ان لم ينتبه فاعلو الداخل الى انهم قد يكونون أدوات تنفيذ “غبية” لاستراتيجيات دولية لا تتطلب ذكاء خارقا لاكتشافها. وعبور المسافة بين وهم السياسة وحقائق التاريخ يحتاج فقط انتباهة وعي المشتغلين بالسياسة في تونس…قبل فوات الأوان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.