يعتبر قانون المواريث في تونس من أكبر المواضيع التي تشغل المواطن التونسي، خاصة على مستوى المشاكل القانونية القديمة الجديدة والمتجددة والتي تتكرر لدى جميع العائلات من نسب الإرث والمستحقين وكيفية تقسيم التركة إلى ما لا نهاية له من الإشكالات القانونية. وقد حاول المشرع التونسي منذ سنة 1956 تنظيم هذه المسألة صلب مجلة الأحوال الشخصية وذلك من الفصل 85 إلى الفصل 152، وقد سبق ل«التونسية» أن نشرت تفصيلا واضحا للإرث وكيفية تقسيمه على الورثة، والحالات القانونية المنصوص عليها صلب الفصول المنظمة. وتستمد مجلة الأحوال الشخصية جميع أحكام قانون المواريث حرفيا من الشريعة الإسلامية، حتى أن المصطلحات المتداولة هي مصطلحات فقهية، وهو ما جعل المشرع التونسي خاضعا لتعاليم الدين الإسلامي في تطبيقه لقانون المواريث. ومؤخرا رفعت تونس تحفظاتها الأساسية على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة بشكل رسمي، وهو ما اعتبر خطوة هامة نحو تحقيق المساواة بين الجنسين، واضطرّ الحكومة إلى تغيير قوانينها لتناسب مع المعايير الدولية، وأن تقضي على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، باعتبار أن الاتفاقيات الدولية أعلى مرتبة من القوانين، وهو ما وضع بلادنا أمام خيارين: تطبيق الشرع الإسلامي في الميراث باعتبارها دولة إسلامية، أم سيكون عليها الخضوع إلى مقتضيات القانون الدولي؟ اتفاقية سيداو ... والمساواة التامة بين الجنسين تعتبر اتفاقية سيداو من أهم الإتفاقيات الدولية التي تم اعتمادها في الثامن عشر من ديسمبر عام 1979م ، حيث تنص على القضاء على جميع أشكال التمييز الذي يمارس ضد المرأة ، وتعتبر هذه الاتفاقية وثيقة حقوق دوليّة للنساء أصدرتها وأقرّتها الجمعيّة العامة للأمم المتحدة ، ودخلت حيّز التنفيذ عام 1981م، ويقصد بالتمييز هنا كل أنواع التفرقة والاستعباد والتقييد على أساس الجنس أو الدين، لتتمتع المرأة بجميع حقوقها بالتساوي مع الرجل، على مستوى حقوق الإنسان والحريات الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إشكال في التطبيق على مستوى المساواة في الميراث صادقت تونس على اتفاقية «سيداو» منذ سنة 1985 مع تحفّظها على بعض النقاط، لكن سنة 2011، رفعت تونس جميع تحفظاتها عن اتفاقية “سيداو” مما يجعلها ملزمة بتطبيق مقتضيات الاتفاقية وخاصة ما تعلق بنصيب المرأة في الإرث والذي كان نصف نصيب الرجل في التشريع التونسي، في تطبيق للآية القرآنية “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”، في حين نص الفصل 13 من اتفاقية “سيداو” على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الإستحقاقات العائلية، بما فيها الإرث، وهو ما يدحض أحكام المواريث في القانون التونسي التي تنص على إعطاء الأنثى نصف نصيب الرجل في الميراث، والذي في بعض الأحيان يقر المساواة في الإرث بينهما، كما يمكن له أن يمنح المرأة نصيبا أكثر من الرجل، وقد يعطيها كل الإرث أحيانا، وبالتالي يكون على القاضي التونسي تطبيق مقتضيات الاتفاقية الدولية باعتبار أنّ لها قوة إلزامية أعلى من القوانين العادية. تطوّر نسبي ... يفرض الفصل 16 من اتفاقية “سيداو” القضاء على كل أنواع التمييز بين المرأة والرجل في كل ما تعلق بالزواج، وبالتالي يكون من حق المرأة أن تختار زوجها مهما كان دينه، مثلما هو الحال مع الرجل الذي يمكن له أن يختار من يريد مهما كان دينها، وهو ما يبيح زواج المسلمة بغير المسلم، وهو ما أقره الفصل 6 من دستور 2014، والذي أقر حق الضمير، ومن الأشياء المتعارف عليها هو أن جل الأحكام المضمّنة بمجلة الأحوال الشخصية استمدت مباشرة من الفقه الإسلامي، وهو ما يدفعنا إلى الإقرار بأن زواج المسلمة بغير المسلم يعتبر زواجا باطلا من أصله، وتبقى مسألة إرث المسلم لغير المسلم مسألة فقهية جدلية منذ سنة 1956 إلى اليوم، وعلى كل حال، فإن الفقه القضائي للسنوات الأخيرة بدأ في تهيئة اتجاه جديد لا يعتبر اختلاف الدين مانعا من موانع الإرث، و ذلك حتى قبل دسترة حق الضمير، إلا أننا ما زلنا نجد إلى اليوم اتجاها قضائيا يرفض الأخذ بمانع اختلاف الدين كمانع يحرم من الميراث و تسيطر عليه محاكم الأصل مع بروز موقف محتشم لمحكمة التعقيب من حين لآخر.وعلنا نشهد استقرارا في فقه القضاء التونسي في ما تعلق برفع مانع الاختلاف في الدين من جملة موانع الإرث (معمول به في العديد من المحاكم)، و ذلك تطبيقا للدستور التونسي وللاتفاقيات الدولية، خاصة أن الدستور التونسي أقر في الفصل 45 منه على أن الدولة تضمن حقوق المرأة ومكاسبها، وهو ما يعني ضرورة أن الدستور لا يمس إطلاقا بحريات قانون الأحوال الشخصية، لكن في المقابل لا يحمي الأحكام الإسلامية المتعلقة بالإرث، خاصة مع رفع جميع التحفظات على معاهدة «سيداو». وما يجدر التنبيه إليه هو أنه قد تكون لرفع التحفظات عن اتفاقية «سيداو» نتائج أكثر تعقيدا مما يمكن تخيله، فإذا ما وقع الالتزام بأحكام المواريث المنصوص عليها صلب مجلة الأحوال الشخصية، قد يتجه البعض إلى الطعن بعدم دستورية جميع أحكام المواريث بصفتها تتعارض مع حق دستوري، ومع مقتضيات معاهدة دولية لها علوية على النص القانوني العادي، أما إن وقع الالتجاء وتطبيق مقتضيات الدستور والمعاهدات الدولية، فسنجد أنفسنا أمام مخالفة صريحة للنص القرآني وللتشريع الإسلامي، ليبقى السؤال الأهمّ كيف سيتصرف القاضي أمام هذا التعقيد التشريعي؟