15 نُذر حرب جديدة وفيتو على انتصار هتلر وموسوليني التونسية (تونس) في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. من المدهش أن أمريكا العائدة إلى شواطئها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعد خسائر بشرية في معاركها أقل من خسائر بولندا وأقل من خسائر رومانيا أصرت على أن تنال نصيبها من تعويضات المهزومين (إمبراطوريات المجر والنمسا وتركيا، وروسيا وكذلك مشروع الإمبراطورية الألمانية) ذهبا وليس أي شيء آخر. وكان نصيب أمريكا من التعويضات هو الأكبر بدعوى أن دخولها الحرب هو الذي قلب موازينها، وبناء عليه فمن حقها المطالبة بتطبيق القاعدة الشهيرة في العاب القمار، وهي «أن الفائز يأخذ الكلّ، The winner takes all. وبهذا المنطق بعث الرئيس «هاردنغ» الذي خلف «ويلسون» إلى أوروبا بممثل خاص له «تشارلز داوز» رئيس إدارة الميزانية الفيدرالية لكي يشرف على شحن ذهب التعويضات من ممالك آل هابسبورغ وآل رومانوف وآل عثمان وآل هوهنزلرن، ويرصها صناديق فوق صناديق على البواخر إلى أمريكا. وفي حين أن شركاء أمريكا من المنتصرين في الحرب مثل بريطانياوفرنسا كانوا يأخذون النصيب الأكبر من تعويضاتهم عينا (مصانع وآلات وسندات) فإن الولاياتالمتحدة أخذت نصيبها ذهبا، وكانت الإمبراطوريات الأخرى المنتصرة (بريطانياوفرنسا) على استعداد لأي شيء ترضى به الولاياتالمتحدة وتترك أوروبا وشأنها وتعود إذا شاءت الى شاطىء المحيط الآخر محملة بالذهب. (أي أن نظرية الكابتن «مورغان» طرحت نفسها مرة أخرى، على أساس أن المنتصر الذكي لا يشغل باله بالحصول على الأصول الإمبراطورية، وإنما عليه أن يتوجه مباشرة الى البنوك وينزح ما فيها وينقله الى حوزته!!). الفرصة الآن سانحة! طوال العشرينات من القرن الماضي كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية مشغولة عن حلمها الإمبراطوري بشؤون الداخل، فقد دهمتها عواقب الحرب العالمية الأولى، بما فيها عملية فك التعبئة العسكرية لقلاع الإنتاج الضخمة وإعادتها مرة أخرى إلى صنع السلع المدنية، كما تفاقمت مشاكل التعامل مع المجندين العائدين إلى الوطن الأمريكي من خنادق الوحل والدم في أوروبا. وكان هؤلاء الجنود يطمحون الآن إلى «مكافأة السلام» تمنحهم استقرارا وفرص عمل وضمانات وحقوقا تصوروها في انتظارهم، مضافا الى ذلك أن بعضا من أفراد هذه القوات عادوا من أوروبا يحملون معهم بذور فكر يساري سرى في خنادق القتال يحرض الجنود على مطالب في أوطانهم لابدّ أن تتناسب مع حجم تضحياتهم. وفي وقت من الأوقات تلك الفترة قام الجنود العائدون من أوروبا بمحاصرة البيت الأبيض عند نهاية شارع بنسلفانيا (قلب واشنطن) وأعلنوا قائمات مطالبهم على رئيس أمريكي اهتزت أعصابه (هوفر) إلى حد استدعاء قوات الجيش العامل، يحمي العاصمة ويفض الإضراب ويفرق جموع العمال «الشيوعيين»، كما وصفتهم بعض الصحف الأمريكية. ومن المفارقات أن قائد الجيش العامل الذي نزل يفض الإضراب ويؤدب المظاهرات الجامحة كان الجنرال «دوغلاس ماك آرثر» (الذي أصبح في ما بعد رئيسا لأركان حرب الجيش الأمريكي) وكان مساعده في معركة شوارع واشنطن هو الجنرال «دوايت أيزنهاور» (الذي أصبح في ما بعد رئيسا للولايات المتحدة). وبدت صورة العالم الجديد في أوربا فوضوية إلى حد أن جريدة «التايمز» نشرت سلسلة مقالات أبرزت مخاوفها من أن تتحول أمريكا إلى قارة بلشفية وكانت تلك هي الأجواء التي عاشتها الولاياتالمتحدة حتى وصلت إلى الأزمة المالية الكبرى سنة 1929، ثم جاء الإنقاذ بانتخاب «فرانكلين روزفلت» (ابن عم لرئيس سبقه هو «تيودور روزفلت»)، ومع الرئاسة الأولى لفرانكلين روزفلت (1932) وبعد سياسة العدل الاجتماعي الجديد «New Deal» التي أعلنها وطبقها، وعادت بها الولاياتالمتحدة إلى حياتها الطبيعية رجع الحلم الإمبراطوري يشغل نخبها السياسية والبيت الأبيض في المقدمة. ومن واشنطن كان «روزفلت» يتابع ما يجري في أوروبا، ويشغله «صراع الإمبراطوريات»، الذي عاد (كما كان متوقعا) يتجدد مرة أخرى دافعا إلى القارة نُذُر عواصف تتجمع من جديد. بدأت إيطاليا تشهد صعودا للحركة الفاشية بقيادة «بنيتو موسوليني» الذي وصل إلى السلطة، وشعاره مرة أخرى هو الشعار الروماني القديم في وصف البحر الأبيض المتوسط ب «أنه بحرنا». وقامت ألمانيا من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي التي أملاها المنتصرون على المنهزمين. وحدث في نفس الوقت الذي وقع فيه انتخاب «روزفلت» رئيسا للولايات المتحدة أن «أدولف هتلر» كان يصعد نحو القمة في «ميونيخ» قائدا للحزب النازي، ثم يزحف إلى برلين زعيما لألمانيا، ملتزما بمشروع «إحياء الرايخ الثالث» ليعيش «ألف عام» كما كان يقول ثم يصلب «هتلر» عوده ويقف عنيدا مطالبا بحق ألمانيا في المستعمرات، خصوصا تلك التي انتزعها الحلفاء (بريطانياوفرنسا) منها في القارة الأفريقية بالذات (وضمنها تنجانيقا التي حصلت عليها بريطانيا وأصبح اسمها تنزانيا فيما بعد وضمنها كذلك الكاميرون التي وقعت في نصيب فرنسا). وفي الوقت نفسه أيضا كان الحزب العسكري المطالب بالتوسع في اليابان، يمسك بسلطة القرار في طوكيو فارضا نفسه على الإمبراطور «هيروهيتو». وتزامن ذلك مع ازدياد سطوة الزعيم السوفياتي «جوزيف ستالين» الذي خلف «لينين» مؤسس الدولة الشيوعية والذي أمسك روسيا بقبضة من حديد، مستغلا موارد بلد هو الآخر بحجم قارة كاملة ومحاولا أن يبني من التخلف القيصري دولة صناعية قادرة على المنافسة والتفوق: اقتصاديا وعسكريا، وفوق ذلك بشرى بفردوس من العدل الاجتماعي والمساواة يطرح نفسه على شعوب الأرض! وكان تقدير «روزفلت»، أن هناك حربا عالمية في الأفق، وتوقعه أنها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانياوإيطاليا من ناحية وبين بريطانياوفرنسا من الناحية الأخرى، وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح. وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى «روزفلت» تصور واضح لمسلك الاتحاد السوفياتي ولا لمسلك اليابان، ولعل ظنه أن كلا البلدين سوف ينتظر حتى يرى اتجاه العواصف ثم يقرر كيف يستفيد من هبوبها ويستغل التطورات والنتائج. ومجمل تقديرات «روزفلت» ذلك الوقت: 1 الحرب التي تلوح نُذُرها الآن هي أخيرا الفرصة السانحة للولايات المتحدة لتقفل صفحة الإمبراطوريات القديمة، وتفتح صفحة الامبراطورية الأمريكية، لأنها الأجدر وحدها على «فرض سلام» تقدر عليه مواردها وطاقاتها وهي ليست قادرة على ذلك فقط، وإنما هي تستحقه لأنها قلعة الغنى في العالم وذروة تقدمه. 2 وفي ما يتعلق بالصراع الأوروبي وهو دائرة الحرب الأساسية، فإن خطة الولاياتالمتحدة هذه المرة ليس لها أن تختلف عما كان أثناء الحرب العالمية الأولى ومؤداها، الحيلولة دون انتصار ألمانيا وايطاليا كذلك، لأن الإمبراطوريات الجديدة تكون أكثر عنفوانا من تلك القديمة، وبالتالي فإن «هتلر» لا يجب أن ينتصر، وكذلك «موسوليني». 3 ومعنى ذلك أن بريطانياوفرنسا لابدّ أن تخرجا من حمام الدم الأوروبي سالمتين، وفي نفس الوقت غير قادرتين هذه المرة على الاحتفاظ بإمبراطورياتهما الشاسعة (في آسيا وأفريقيا). ومعنى ذلك أن انتصار الحلفاء الأوروبيين يصح أن يتم داخل حدود لا يتجاوزها، وإلا فإن ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى سوف يتكرر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تتمكن الولاياتالمتحدة من فرض رأيها ورؤيتها لمصائر العالم فوق سطوة إمبراطورياته القديمة المتهالكة. 4 من الأنسب للولايات المتحدة هذه المرة أيضا، أن تظل بعيدة عن ميادين القتال حتى آخر لحظة، على أنها خلافا لموقف «ويلسون» في الحرب العالمية الأولى لن تعلن حيادها «فكرا» و«فعلا»، وإنما عليها أن تكشف وتظهر انحيازها الفكري ضد النازية، لأن تلك مسألة أخلاقية وأما عمليا فإنها سوف تترك بريطانياوفرنسا وحدهما وسط «عاصفة الحرب»، وتراقب هي من بعيد حتى ينزف كلا الطرفين دمه، ويترنح تحت مطارق الحديد.