لمحمد حسنين هيكل في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. كان «ريتشارد بيرل» العقل المفكر لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي منذ بداية رئاسة « جورج بوش» وكان« بيرل» المسؤول عن مجلس الدفاع، كما كان في نفس الوقت رئيسا لمؤسسة «المشروع الأمريكي»، ومديرا لبرنامج « القرن الامريكي الجديد» وهو البرنامج الرئيسي لتلك المؤسسة، والذي كان دعاته ورعاته أكبر المتحمسين لرسم خريطة شرق أوسط يكون مفتاحها احتلال العراق! وقد انفجرت قضية «ريتشارد بيرل» عندما كشف الصحفي الأشهر « سيمور هيرش» تحقيقا في مجلة « النيويوركر» واسعة النفوذ يقول ويثبت فيه «أن ريتشارد بيرل تقاضى مكافآت من مصدّري سلاح، فيما هو يمارس علمه كرئيس للجنة سياسات الدفاع - تزيد على ثلاثة أرباع المليون دولار سنة 2001، وأن تصرفه في تلك الواقعة انطوى على استغلال للنفوذ، أو على الأقل على «تضارب في المصالح» مخالف للأخلاق وفي الغالب للقانون أيضا». ولم يكن هناك مجال للطعن في التهمة ، لأن البراهين التي أوردها« سيمور هيرش» كافية وافية، كذلك لم يكن هناك مجال للطعن في الرجل الذي وجه التهمة إلى «بيرل» لأنه من أكثر الصحفيين احتراما في واشنطن وأقدمهم عهدا بالمهنة وأكثرهم شهرة (وفوق ذلك فإنه يهودي مثل «ريتشارد بيرل»، ومن ثم فلا يمكن أن تلحقه تهمة «معاداة اليهود» (وانكار الهولوكست) - كما كان يمكن أن يحدث لو أن اتهام « بيرل» جاء من غيره). واضطر «ريتشارد بيرل» بعد ما نشره « سيمور هيرش» ووثقه، أن يقدّم استقالته من رئاسة مجلس سياسات الدفاع إلى «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع، لكنه احتفظ بموقعه في مركز «دراسات المشروع» ، وواصل منه نشاطه، وإصراره على الدعوة إلى رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط مدخلها «احتلال العراق»! كانت قضية «ريتشارد بيرل» واستقالته كشفا لأهم مواقع القوة في السياسة الأمريكية، واشهارا لشخصيات سبعين رجلا وامرأة يؤثرون على القرار الأمريكي ويتركون بصماتهم عليه في زمن تسعى فيه الولاياتالمتحدة إلى التفرد بالسيطرة على العالم والبت في مصائره، ومن ناحية أخرى فقد كانت تلك القضية تذكرة حية بالكابوس الذي حذر منه «أيزنهاور» قبل أربعين سنة، وهو السيطرة غير المطلوبة وغير الشرعية لمجمع مالي - صناعي- عسكري - فكري على سلطة القرار والابتعاد به كثيرا (وكثيرا جدا) عن أية رقابة تشريعية وأية مراجعة ديمقراطية مع أنه لا بد أن يحسب للديمقراطية الأمريكية أن رجلا مثل «سيمور هيرش» أطلق رصاصة التحذير الأولى في قضية «ريتشارد بيرل»). والغريب أن « ريتشارد بيرل» وجه خطاب استقالة إلى« دونالد رامسفيلد» مصحوبا بحيثيات تكاد أن تكون توثيقا للصلة بين أطراف المجمع الصناعي - العسكري - الفكري، الذي حذر منه «أيزنهاور» ونبه مبكرا إلى خطره على سلامة القرار الأمريكي. كان «ريتشارد بيرل» نموذجا لنوعية الرجال والمصالح التي تحيط بمجلس سياسات الدفاع الذي ظل يرأسه حتى شهر مارس الأخير ( 2003) ، واللافت للنظر أن «بيرل» زيادة على كل مناصبه كان في نفس الوقت عضوا في مجلس إدارة شركة «هولينغر» وهي دار صحفية تملكها شركة قابضة يملكها المليونير « كوندار بلاك» لكي تشرف على جرائده ومجلاته، وفيها مجموعة التغلراف (الديلي تلغراف، والصنداي تلغراف) الصادرة في لندن، وفيها عدد من الصحف الكندية الكبرى، ومن الغريب أن فيها أيضا جريدة «الجيروزاليم بوست» التي تصدر في اسرائيل! وقد حدث بعد ذلك أن « ريتشارد بيرل» بدأ في نوفمبر سنة 2001 في تأسيس شركة لخدمات الأمن الداخلي ، وكان ضمن شركائه فيها زميل له في مجلس سياسات الدفاع هو «هنري كيسنجر» وزير الخارجية الاسطوري من الأيام «ريتشارد نيكسون» و«جيرالد فورد» ( في النصف الأول في سبعينات القرن العشرين)، وكان «بيرل» هو الذي رشح «هنري كيسنجر» لكي يرأس لجنة خاصة للتحقيق في وقائع يوم 11 سبتمبر 2001 بما في ذلك تحديد المسؤولية والبحث عن أسباب القصور الأمني، وكانت تلك لجنة من خارج الكونغرس أنشئت بعد أن اعترفت لجنته الأصلية ذات الصفة الشرعية( الدستورية) بعجزها عن مواصلة التحقيق، لأن السلطات المعنية - وضمنها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية - ووكالة التحقيقات الفيدرالية - تمتنع عن التعاون معها وتحجب عنها الوثائق والمعلومات والشهود، وعندما أعلن الرئيس «بوش» عن ترشيح «كيسنجر» لرئاسة لجنة تحقيق (مستقلة!)، تعالت أصوات تتساءل عن طبائع العلاقات والارتباطات والمصالح ووجد «كيسنجر» نفسه في غنى عن مساءلات وتحقيقات تتعرض له ولنشاطاته وارتباطاته ولذلك قرر أن يعتذر عن المهمة. وفي ما عرف لاحقا عن المناقشات التي جرت ذلك اليوم بصدد الخطر الذي تمثله كوريا الشمالية ، فقد تبين أن مجلس سياسات الدفاع بحث تقريرا أعده «ريتشاردسون» (حاكم تكساس في ما بعد والمفاوض الرئيسي في مشكلة كوريا الشمالية) - ونتيجة للمداولة خرج بأن الخيار العسكري غير وارد في الوقت الحالي (بالنسبة لكوريا الشمالية)، كما هو الحال في شأن العراق لثلاثة أسباب: - أولها: أن حربا ضد كوريا الشمالية سوف تكون عملا عسكريا خطرا ضد قوة تملك رادعا نوويا حقيقيا، حتى وإن كان محدودا في حجمه. وفي حين أن العمل ضد العراق يمكن أن يكون سهلا، لأنه بلد استنزفته حرب الخليج الأولى ثماني سنوات، وأنهكته حرب الخليج الثانية بضربة صاروخية قاسية، ثم طوقه حصار اقتصادي ونفسي دام اثنتي عشرة سنة - فإن كوريا الشمالية ظرف مختلف إلى حد كبير. - ثانيها: إن الجوار العراقي يساعد الخيار العسكري الأمريكي ويجعله قابلا للتحقيق، في حين أن الجوار الكوري الشمالي وفيه ( الصين واليابان وكوريا الجنوبية) لا يرغب في ترك القوة العسكرية الأمريكية مطلقة العنان، ويفضل معالجة الشأن الإقليمي - أولا - في إطار الإقليم وليس من خارجه ، وهذا يقيد العمل الأمريكي إلى حد قد يكون مؤثرا. - وأخيرا : فإن كوريا الشمالية - على عكس الحال في العراق - ليست فهيا جوائز اقتصادية تساوي المخاطرة. ومن المثير أن الوفد الكوري الشمالي الذي اجتمع مع ممثلين لوزارة الخارجية الأمريكية في «بكين» بعد أقل من أسبوعين على مناقشات مجلس الدفاع - كان هو الذي أبلغ الجانب الأمريكي رسميا بأنهم بدؤوا بالفعل في تخصيب اليورانيوم، والمعنى أنهم الآن على الطريق السريع إلى أسلحة نووية وكانت الرسالة مباشرة بما مؤداه أن الولاياتالمتحدة لا بد لها أن تتكلم وأن تتفاوض مع كوريا الشمالية، لأنها ليست غنيمة سهلة.