تواصلت حملة الانتقادات الرسمية والحزبية «الحكومية» و«الاستشارية» الرئاسية ضد ما اعتبره سياسيو «الترويكا» أخطاء فادحة لمحافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي، بل وحمّلوه مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية وخاصة (وإن باحتشام «اصطناعي») تخفيض الترتيب السيادي لتونس بدرجتين كاملتين من إحدى كبريات مؤسسات الترقيم العالمية المؤثِّرَة. فإلى أي مدى يمكن الأخذ بصحّة هذه الانتقادات؟ وهل للمحافظ – أي محافظ – دور اقتصادي مباشر ومشارك للحكومة بل وسابق على صبغتها التنفيذية التقريرية؟ ليس مجالنا هنا «شخصنة» القضية بطرحها كموقف ناقد أو مدافع عن شخص النابلي، بقدر حرصنا على توضيح ما هو غامض في تعريف مفهوم البنك المركزي ومهمته الأساسية وعلاقته بالسلطة التنفيذية أين تبدأ وأين تنتهي وما حدود تلك المهمة حتى لا يبقى فَهْمُ العامّة من المواطنين حكرا على ما يسمح به السياسيون، لا ما تسمح به التعريفات الحقيقية للمصطلحات ذات الصبغة التقنية البحتة صعبةُ الاستيعاب. مهمة وضع خارطة الطريق الاقتصادية وتقريرها هي من صميم عمل الحكومة بل هي عماد البرامج الانتخابية لكل راغب في ممارسة الحكم الفعلي خدمة للعامّة. ولسائل أن يسأل: أين يأتي إذن دور البنك المركزي؟ الدور الأساسي له هو العمل على إنجاح القرار الاقتصادي للسياسيين أي للحكومة ولكن على أساس العمل الدؤوب للمحافظة على التوازنات المالية الكبرى للبلاد حتى لا تخلف بالإيفاء بالالتزامات، وهو ما يتعلق بالطابع التقني البحت للبنك المركزي في مجاليْ السياستيْن النقدية والمصرفية. وهذا البحث عن التوازنات العامة ليس عملية سياسية مرتبطة بتوجهات الحكومة مهما كانت برامجها وخاصة قصيرة المدى منها، لذلك يرنو «بنك البنوك» دائما للمحافظة على استقلالية قراراته في مجاله التقني حتى يمارس دوره المتتبع الدائم والدقيق لمؤشّرات الاقتصاد الكلّي (الواردات، الصادرات، العجز التجاري، نسبة النمو، قوّة العملة المحلية، نسبة التضخّم وغيرها من المؤشرات) وعرضها في شكلها «الخام» كاملة بلا رتوش ومُرفَقَة بإحصائيات ومُلَخَّصات وتحاليل من أقسامها المختصة على طاولة الحكومة كي تعرف هذه الأخيرة نسبة نجاحها المرحلي في تطبيق سياستها الاقتصادية بما يحملها على المواصلة في تمشّيها أو مراجعة بعض تفاصيلها التي أثبتت الأرقام ضرورة مراجعتها. وعليه، نستنتج أنّ دور البنك المركزي هو حماية الدولة بمفهومها المؤسساتي لا الحكومة في شكلها السياسي بما يجعله (البنك) متمكّنا وخاصة قادرا على التعامل مع كل الحكومات مهما كانت خلفياتها الاديولوجية دون أن يسقط في معارضتها أو مساندتها. لنتمثّلَ ذلك:الحكومة تريد دعم الاستثمار كالحالة التونسية الحالية، البنك المركزي يجسّد ذلك بتخفيض نسبة الفائدة. لماذا؟ مَنْ له أموال سيدرك أنّ دخوله في مشاريع أحسن من عائدات فائدة الادخار ذات المردودية الضعيفة وهذا ما قام به البنك المركزي منذ مدّة، ولكن مع محاولته ضخّ سيولة هامة في القطاع البنكي، بقي هذا القطاع مفتقدا للسيولة بما عرقل نوايا الاستثمار وزاد في التضخّم المالي والارتفاع الجنوني للأسعار الذي كان «خَراجَهُ» ثقبا إضافيا لجيب المواطن المثقوب أصلا !. فهل ننقد الحكومة التي كانت صاحبة القرار وصانعته أم البنك المركزي الذي حاول تقنيّا احترام خطوطه العريضة (أي القرار) في حدود ما تسمح به التوازنات العامة المالية للبلاد ودون تجاوز لها أو للحكومة، مع تقديم صورة «فوتوغرافية» واقعية دون فوتوشوب مُزَيِّن لحقيقة الأرقام التي لا تكذب بقدر بزوغها ضوءا أخضر مشجِّعا للحكومة أو أحمرَ مُحتجّا على توجهاتها التنموية؟ الإجابة واضحة ولكن مع الأسف اختار بعض «السياسويين» إجابة أخرى «شعبويّة» تشير بأصابع الاتهام للبنك وخصوصا للمحافظ. وهذا الموقف الذي يَنْظُرُ ويُنَظِّرُ فقط لحظوظه في الانتخابات المقبلة تناسى عمدا أنّ المنصب الأوّل في القانون المؤقت لتنظيم السلطات يعود لرئيس الوزراء أساسا (و بالنتيجة للحكومة) وهو منبع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بامتياز، إلاّ إذا تغيّرتْ المفاهيم التقليدية ليصبح منصب محافظ البنك المركزي سياسيا وأقوى من منصب رئيس الوزراء! هل كان على «الترويكا» في هذه الحالة التفاوض حول مَنْ سيكون المُحَافِظ لِيُحافِظَ على ... الْمَحَافِظ الوزارية لقياداته السياسية؟ . ما قادنا لِلُعبة الكلِمات، هو ما قاله بعض مستشاري الرئيس والوزراء. فأيوب المسعودي مستشار المرزوقي تذكّر الآن أنّ المسار الثوري مازال متواصلا ولا بدّ من قرارات ثورية تقطع مع المنوال الاقتصادي الجديد/القديم بما فيها إعفاء محافظ البنك المركزي وتعليق خلاص الديون. لا نعرف لماذا بعد أن واجه رئيسُه مُخالفيه بشرعيته التأسيسية أو بعد أن أكد لطفي زيتون أنّ مرحلة الثورة انتهت وأننا اليوم أمام مرحلة بناء المؤسسات الشرعية بالانتخابات، لماذا رجع المسعودي إلى أيام تاريخية لا يمكن استعادتها لأنّ لحظة «قَطْفِها» لم تجد أيادِِ غير مرتعشة للحسم. ألم يكن الحُكْمُ على قارعة الطريق بعد هروب بن علي؟ فلماذا لم يقتنص ثوّار تلك المرحلة اللحظة لتكوين مجلس للحكم وإقامة العدالة الانتقالية سريعا و«تثوير» الخيارات الاقتصادية والاجتماعية؟ إنّ ما طرحه لا يخرج عن إطار الخطاب «الثورجي» بعد فوات الأوان. إذ لا يمكن أن يكون البنك المركزي ثوريا في تقنياته النقدية والمصرفية دون حكومة ثورية في خياراتها ! وأم كلثوم كفيلة بإجابته (عايزنا نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع للزمان!). كما أنّ وزير المالية حسين الديماسي في برنامج «الصراحة راحة» خص محافظ البنك المركزي بملاحظات شخصية بقوله «هو شخص ليس اجتماعيا، وهو صعب المراس وجِدّي، دقيق ويحاسب بالتفاصيل كل من يشتغل معه، إنّ شخصيّته قويّة جدّا !». ثمّ وضّح الديماسي كلامه قائلا حرفيا «لقد اشتغلتُ معه سابقا وقلتُ له أنت تصلح لأن تكون وزيرا ألمانيا أو يابانيا، لكننا من طبيعة البحر الأبيض المتوسط الذي نُطِلّ عليه وأنت خارج طبيعته!!». للتذكير، ألمانيا بعد سقوط الحكم النازي وكل العقوبات التي تواصلت إلى الآن عليها، أصبحت القوّة المُحَدِّدَة لتوجّهات الاتحاد الأوروبي أمّا العقل الياباني فالمعجزة المتواصلة بعد هزيمتها المدوّية في الحرب العالمية الثانية. فكم نرحب بمسؤول في جدية الألمانيين ودقّة اليابانيين!! وبخلاصة ، إنّ البنك المركزي لو فقد استقلاليته التسييرية، يدخل نطاق العمل السياسي وهو ليس من اختصاصه! ويخرج من خدمة الدولة إلى خدمة الحزب (أي حزب). كما أنّ مؤسسات الترقيم لا تعتمد الاحصائيات والأرقام فحسب، بل تحليل المعطيات السياسية والأمنية والاجتماعية ولا نجد محافظ البنك مسؤولا عن الانفلاتات المختلفة. قد يذهب هذا المحافظ أو يبقى، ليس مهما الشخص ولا ما سيتمخض عن اجتماع مجلس إدارة البنك الذي قد ينعقد اليوم بصفة عاجلة، فالأهم حفاظ البنك على استقلاليته خدمة لمؤسسة الدولة وعلى أي سلطة ممارسة نقدها الذاتي عوض رمي نتائج خياراتها على من لا يملك سلطة تقريرية هي حكر عليها دون سواها.