يكتبها: أبو يوسف لا يكاد يمرّ يوم دون أن تشهد البلاد حركة احتجاجية أو اعتصاما أو قطع طريق أو إضراب أو موجة عنف. هذه حالنا وحال البلاد بعد سنة ونصف من ثورة 14 جانفي 2011. فترة زمنية قصيرة ولكنّها كانت حبلى بعديد الأحداث ومنها الحدث الأهمّ على الإطلاق وهو انتخابات 23 أكتوبر 2011 وتشكيل حكومة شرعية تتكون من ممثلين عن الثلاثة أحزاب الفائزة بأغلبية المقاعد برئاسة أمين عام حركة النهضة حمادي الجبالي. وكنّا نأمل في تقلّص هذه المظاهر التي عانينا منها على مدى السنة الماضية والتي شلّت حركة التنمية وألحقت أضرارا فادحة بالاقتصاد الوطني مما حدا بالوزير الأوّل السابق الباجي قائد السبسي إلى توجيه اتّهامات مباشرة إلى أطراف لم يسمّها بالوقوف وراء الإضرابات وتحريك الاعتصامات التي عادت بعد تشكيل الحكومة الجديدة وفي بعض الأحيان بأكثر حدّة والتي، بقطع النظر عن مدى مشروعيتها، فقد زادت الأمور تعقيدا وأعاقت البدء في تنفيذ عدّة مشاريع منها ما كان مبرمجا في السابق ومنها ما تمّت برمجته في إطار الميزانية التكميلية التي صادق عليها المجلس الوطني التأسيسي مؤخّرا. فمن يعيق عملية التنمية ومن يقف وراء الاضربات والاعتصامات وتزايد حركة الاحتجاجات المطالبة بالتنمية وبالتشغيل? ولماذا لا تعطى الحكومة متّسعا من الوقت للشّروع في تنفيذ ما عزمت عليه وما برمجته من مشاريع في مختلف الجهات ? لا أحد بوسعه تقديم إجابات مقنعة في ظلّ المزايدات والمهاترات والتهم المتبادلة بين مختلف الأطراف الفاعلة في الميدان السياسي والاجتماعي. ومن المفارقات أنّ نفس الاتهامات التي كانت توجّهها الحكومة السابقة إلى أطراف مجهولة تحرك خيوط اللعبة تبنّتها الحكومة الحالية لتوجّه أصابع الاتهام إلى «أطراف لم ترضها نتائج الانتخابات» بالوقوف وراء كل تصعيد تشهده جهة من جهات البلاد أو قطاع من القطاعات. سوف لن نرهق النفس بالبحث عن الدوافع والأسباب وما إذا كانت منطقية ومشروعة ولا عن غايات وأهداف من يقفون وراء الستار للزجّ بالبلاد في أتون الاحتقان الاجتماعي والسياسي لنشير فقط إلى أنّ الخاسر الأكبر هو الشعب التونسي الذي لم يعد يعرف»كوعه من بوعه» وأصبح، بكلّ أسف، في وضعية le dindon de la farce أي تلك الشخصية المسرحية التي يضرب بها المثل في الغباء والاستهزاء والسخرية. هذا الشعب الذي كان بطلا لحدث جلل أطاح بنظام كامل، دون قائد ولا مرشد، صار في زمن قصير مجرّد كمبارس في مسرحية سيئة الإخراج. يحدث هذا وقد عرفت تونس في ظرف وجيز من الزمن تحوّلات سياسية عميقة لم تعرفها طيلة سنوات الاستقلال وكنّا نعتقد أنّها قد خطت خطوات كبرى في اتجاه تكريس المسار الديمقراطي خاصّة بعد اجتياز «اختبار» الانتخابات بنجاح، ولكن تبيّن أن الطريق إلى الديمقراطية لم يكن مفروشا بالورود وأنّ تحقيقها صعب بقدر صعوبة الوصول إلى توافق بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين. تنتقل من قناة إلى أخرىّ، تلفزية أو إذاعية كانت، فلا تشاهد ولا تسمع إلا حديثا في السياسة وعن السياسة والكلّ يضمر في ظاهره الخير للبلاد وللعباد لكنّ الله وحده عليم السرائر. وجوه ألفناها حتى مججنا رؤيتها وكأنّ ليس لها ما تفعل سوى الظهور باستمرار في الساحة الإعلامية. فحتىّ أعضاء الحكومة انخرطوا في هذه اللّعبة فأصبح البعض منهم دائم الحضور لا لبسط برامج وزارته وطرح مشاكلها ولكن للحديث في السياسة وللردّ على المعارضة وتبادل التهم معها وفي ذلك مضيعة للوقت وكان الأجدر بهم الانكباب على الملفّات وترك مثل هذا لممثلي الأحزاب الذين ينتمون إليها. ولا ندري هل يتمّ التنسيق مع رئيس الحكومة الذي، والحقّ يقال يفضّل العمل في صمت وهدوء، من طرف الوزراء الكثيري الظهور وهل أنّ هنالك تقاسما في الأدوار بينهم أم أنّ كل وزير «يعمل زي رأسه» بحثا عن التموقع في المشهد السياسي استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القادمة. ولكن نسي هؤلاء أو تناسوا أنّ الناخب سيصوّت في المرّة القادمة على الانجاز لا على النوايا. ثم أن الظهور المتواتر للوزراء ومداخلاتهم الإذاعية والتلفزية وتصريحاتهم لمختلف وسائل الإعلام لا تخلو أحيانا من الانفعال والتضارب والتهجّم على الخصوم السياسيين وعلى الإعلاميين ورجال الفكر والفن وهو ما يضعهم في موضع أبعد ما يكون عن موضع رجال الدولة الذين يفترض فيهم التواضع والحكمة والاتزان والالتزام بواجب التحفّظ حتى وإن تمّ استفزازهم.قد نجد للبعض منهم عذرا في قلّة الخبرة وعدم استيعاب ما يحصل لهم، إذ وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها في موقع المسؤولية السامية، ولكن ما لا يحتمل من لدن البعض الآخر هو هذا الحقد الدفين الذي لا يتوانون في إظهاره والتصريح به في العلن والأمثلة كثيرة، وكان على رئيس الحكومة لفت نظرهم لذلك ودعوتهم للابتعاد عن مثل هذا، كما أن المهاترات التي تزيد الأجواء تعكيرا والاحتقان اتساعا في حين أنّ المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة هو الوصول إلى توافق شامل حول مجمل القضايا المطروحة للخروج من الأزمة الراهنة. أما آن لهذا الاحتقان أن ينتهي ولهذا التطاحن السياسي أن يختفي لينخرط الجميع في خدمة تونس وشعب تونس الذي لطالما تغنوا به وتحدّثوا باسمه وأجزلوا له الوعود التي لا يزال في انتظار تحقيقها آملا أن لا تكون على شاكلة «غودو» في المسرحية العبثية للكاتب الايرلندي «صموئيل بيكت( 1906-1989) أي شيئا لا وجود له أصلا.