«بسم الله الرحمان الرحيم نحن نوّاب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي، بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب، وتدعيما لأركان استقلال الدّولة وسيادة الشعب، وسيرا في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجهة المجلس في تسطير الدستور، نتخّذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالا: أوّلا : نلغي النظام الملكي إلغاء تاما. ثانيا : نعلن أن تونس دولة جمهورية. ثالثا : نكلف رئيس الحكومة السيد الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور حيز التطبيق ونطلق عليه لقب رئيس الجمهورية التونسية. رابعا : نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري كما نكلف كلا من رئيس المجلس، والأمين العام لمكتب المجلس والحكومة بإبلاغ هذا القرار إلى الخاص والعام». هذا نص إعلان الجمهورية الذي تلاه المرحوم جلولي فارس رئيس المجلس القومي التأسيسي بقصر المجلس بباردو، كان ذلك يوم الخميس 25 جويلية 1957 على الساعة السادسة مساء، منهيا 252 سنة من حكم بايات الدولة الحسينية التي أسّسها الحسين بن علي سنة 1705. إعلان مقتضب ولكنه غزير بالمعاني والعبر، أردت التذكير به وتونس تعيش فترة مخاض عسير، في انتظار صياغة دستور جديد من طرف المجلس التأسيسي الثاني في تاريخها المنتخب يوم 23 أكتوبر2011، أي 54 سنة ونيّف بعد انتخاب المجلس الأول المتكون آنذاك من 98 عضوا، مقابل 217 عضوا للمجلس الحالي، قلّة منهم ما يزالون على قيد الحياة نذكر منهم السادة أحمد بن صالح المقرر العام لدستور غرّة جوان 1959 و أحمد المستيري وزير العدل في أوّل حكومة تونس المستقلة برئاسة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ومصطفى الفيلالي، وليعذرني من نسيت ذكرهم . لم يكن يدور بخلد محمد لمين باي أّنّه بإصداره الأمر العلي يوم 29 ديسمبر 1955 بغية انتخاب مجلس قومي تأسيسي «لإعداد دستور لمملكتنا» قد أمضى بذلك على قرار نهايته ونهاية حكم العائلة الحسينية. فقد تسارعت الأحداث بشكل غير ما كان ينتظره الباي الذي تم تجريده رويدا رويدا من صلاحياته لفائدة الوزير الأكبر الحبيب بورقيبة لتبدأ، وبصفة جلية، مرحلة الإعداد إلى ما بعد حكم البايات الذي اقترن بدخول الاستعمار الفرنسي سنة 1881 ، ودون الخوض في اغمار تلك الحقبة من تاريخ تونس، فالمؤرخون والباحثون أولى بهذا الأمر، أكتفي بالإشارة إلى ما تناقله الذين عايشوا تلك الفترة كما المؤرخون من أنّ النيّة كانت في البداية متّجهة إلى صياغة دستور لملكية دستورية، إذ أنّ المشروع الأوّلي للدستور الذي تمّ إعداده يوم 9 جانفي 1959 نصّ في فصله الرابع على أنّ «الدولة التونسية دولة ملكية دستورية»، ولكن الشرعية الشعبية التي كان يحظى بها المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما له من «نفوذ كامل يستمدّه من الشعب» كانت هي المنتصرة في النهاية «فكان من الشرعي إذن من ناحية النظرية الدستورية ومن الطبيعي من ناحية تاريخ البلاد وتخلّصها بالاستقلال من الحماية التي تعرقل سيادتها أن تلغي الملكية وتعلن الجمهورية من قبل ممثلي الشعب صاحب السيادة يوم 25 جويلية 1957»، كما ورد في بعض الدراسات. ولئن كان للرئيس الحبيب بورقيبة تأثير على مجرى الأحداث، وهو الذي لم يخف كرهه للبايات ولا ميله لإلغاء الملوكية وتعويضها بنظام جمهوري، فإنّ اعتبار إعلان الجمهورية قرار شخصي له «للاستئثار بالحكم وتأسيس نظام هو مزيج بين الملوكية والجمهورية اصطلح الظرفاء على تسميته بالجملوكية» كما ورد في مقال للمؤرخ عدنان منصر(الناطق الرسمي الحالي لرئاسة الجمهورية) المنشور في موقع الجزيرة نت بتاريخ 12 سبتمبر 2010 تحت عنوان: «تونس، اليأس من الجمهورية يعيد الحنين إلى الملوكية»، وللتذكير فإنّ أول من استعمل مصطلح الجملوكية هو الرئيس الحالي محمد المنصف المرزوقي. ويضيف صاحب المقال أنّ «هؤلاء يتناسون أو ينسون أنّ القرار كان قد صدر عن المجلس القومي التأسيسي المنتخب من طرف التونسيين والذي كان ممثّلا للسيادة الشعبية غداة الاستقلال، رغم أنّ صلاحياته الدستورية كانت تتوقف أصلا على وضع دستور للبلاد الخارجة توا من استعمار فرنسي دام ثلاثة أرباع قرن». فالنظام الجمهوري، كما جاء فيما بعد في توطئة دستور غرة جوان 1959»هو خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات»، اقترن بعدّة قيم منها بالأساس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وكذلك بمبدإ التفريق بين السلط وتوفير مقوّمات العيش الكريم لكافة المواطنين، وهو نظام إنما يهدف للتأسيس « لمشروعية جمهورية حديثة عقلانية قانونية، للمواطن فيها حقوق وواجبات تقطع مع المشروعية القديمة (دينية، قبلية، شخصية)». ولئن عرف المسار الجمهوري عدّة انحرافات لعل أكثرها ضررا كان إعلان الرئاسة مدى الحياة سنة 1975 وفرض هيمنة السلطة التنفيذية على بقية السلط الأخرى وتدجين مؤسسات الدولة واستعمالها لضرب الخصوم السياسيين والتخلّص من المعارضين ولخدمة مصالح الفئة الحاكمة، مما حاد بالنظام الجمهوري عن أهدافه الأساسية ومبادئه الأصلية، وقد قيل الكثير في هذا الموضوع ونشرت عديد المقالات والدراسات حول الزيغ بالجمهورية وإدخالها في أنفاق كادت تعصف بالبلاد ، فإنّه، أي النظام الجمهوري، حقّق للبلاد عدّة مكاسب منها على سبيل الذكر لا الحصر تعميم التعليم ودمقرطته ومجانية الصحة وإصدار مجلّة الأحوال الشخصية التي أعطت للمرأة التونسية حقوقا لا مثيل لها في البلدان العربية والإسلامية وتوحيد القضاء وتونسة الإدارة والأمن والجيش وتحقيق الجلاء التام كما الجلاء الزراعي...وإذ يتزامن احتفالنا اليوم بذكرى الجمهورية، والذي نتمنىّ أن يكون في مستوى الحدث لا كذلك الاحتفال الباهت بعيد الاستقلال، مع قرب الانتهاء من صياغة دستور الجمهورية الثانية، فإننا نأمل أن يأخذ أعضاء المجلس التأسيسي الحالي العبرة من روّاد المجلس التأسيسي الأوّل وأن يتحلّوا بنفس الإرادة فيأتوننا بمثل ما أتى به أسلافهم أو بأفضل منه، وأن يتخلّصوا من انتماءاتهم الضيّقة ليرتقوا إلى مستوى الرهانات المطروحة على البلاد، متحلّين في ذلك بروح الوفاق مع الحرص على تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية. فالنظام الجمهوري له استحقاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والحضارية ولا يمكنه إلا أن ينصهر في المسار التاريخي للبلاد وفي صيرورة التحوّل الديمقراطي الذي تشهده بما يقتضيه ذلك من تطوّر في جميع المجالات ومن دعم للحرّيات وضمان لممارستها وتكريس لحق المواطنة دون إقصاء لهذا أو ذاك قطعا مع ماض بغيض. ويفترض أن يعكس الدستور الجديد تطلّعات الشعب التونسي للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا أن يكون» دستور حزب أو مجموعة أحزاب أو دستور فئة دون غيرها بل دستورا يجتمع حوله الجميع، يحافظ على المكتسبات وفي مقدّمتها الطابع المدني للدولة والمساواة بين الرجل والمرأة ويحفظ الكرامة والمواطنة ويفرض مكانة مميزة للحريات والحقوق ويقطع مع الاستبداد»، والكلام للسيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وكم نتمنى أن يحصل التوافق حول هذا. فعسى أن نستلهم معاني هذه الذكرى الخالدة ونستقرئ دلالاتها ونستبطن مقاصدها وأن يشكّل الاحتفال بها مناسبة لتجاوز الخلافات التي طغت على الساحة السياسية وانعكست على أعمال المجلس الوطني التأسيسي وتكون فرصة لنبذ التفرقة والانقسام، بل لتعزيز التفاهم وتجديد الالتزام الذي قطعه الجميع على أنفسهم وأمام الشعب يوم أدائهم اليمين على» حماية مصالح الوطن والدولة بقوانينها ومؤسساتها». فما أحوجنا اليوم بالذات إلى خطاب يجمع ولا يقسّم، يوحّد ولا يفرق، خطاب يؤسس لمصالحة حقيقية بين أبناء الشعب الواحد بعيدا عن التشفي و الانتقام، فالتحديات كبيرة والرهانات أكبر ولا أحد بمقدوره رفعها لوحده، حتى نقي البلاد السير نحو المجهول ونعيد للشعب تفاؤله وللشباب نضارته ونفتح أمامه أبواب الأمل من جديد، ذلك الأمل الذي راوده ذات الرابع عشر من جانفي 2011.