يبدو العنوان طويلا وغريبا ولكن عدد الأسئلة والاحتمالات المفتوحة مع الأسف على المجهول لمستقبل البلاد القريب والمتوسط، يجعل من البديهي أن تصبح العناوين لوحدها جملة اسمية أو فعلية بلا نهاية. فإلى أين تمضي الثورة اليوم وقد ازدادت الطريق ضبابية وغموضا ؟. ففي أقل من أسبوع، تأتي إقالة النابلي من منصب محافظ البنك المركزي ثم استقالة حسين الديماسي من ترؤس وزارة المالية وهذا التزامن يستوجب نظرة أخرى بخمسة عيون للحدثيْن: تَجمَع التقني والاقتصادي والسياسي والثوري والخارجي إلى طاولة واحدة. وفي كل ما سبق قد يزايد الناقد (المعارضة) في نقده للحكومة، ويهرب المنقود (الحكومة) إلى أسلوب التخوين السهل. ويبقى المواطن البسيط يصرخ:لا ناقد ومنقود، نريد الحلول الحقيقية، نريد النقود ! التي تسمن وتُغني من جوع لا الأوراق النقدية الكثيرة التي لا قيمة فعلية لها في سوق الأسعار المجنونة. المنصَبان يعتبران عَصَبَيْ كل أجهزة الدولة وروحَيْ الفشل أو النجاح الاقتصادي والاجتماعي لأية حكومة. و«تداعيهما» دفعة واحدة يؤشّر على انعدام الرؤيا والرؤية لدى حكومة الترويكا. فالنابلي والديماسي شخصيتان مستقلتان وخروجهما يعني موضوعيا فشل «الترويكا» في تسويق نفسها على كونها حكومة كفاءات تتحكّم شرعيا في أجهزة الدولة من أجل الصالح العام بما يحيلنا آليا على حكومة محاصصة حزبية ضيقة لا يتجاوز سقف رؤيتها مع الأسف العمل على النجاح الساحق في الانتخابات المقبلة حتى وإن كان نِتاج نجاحها انهيار اقتصاد البلاد (وهذا ما لا نتمناه) على المدى المتوسط مع ما سيرافق هذا السيناريو من انفلاتات اجتماعية وأمنية لا يمكن التنبؤ بنتائجها. يقول الديماسي في بيانه الصحفي: «بينما كنت متشبثا كل التشبث بسلامة المالية العمومية، دفع أغلب أعضاء الحكومة في اتجاه منهج سياسي انتخابي نتج عنه تصاعد فادح ومفاجئ في نفقات الدولة مقارنة بمواردها». تقنيا هذا الكلام يعني انخرام توازن ميزانية الدولة لفائدة النفقات غير المنتجة لأية قيمة مضافة اقتصاديا مما يجعل مجال المناورة والتصرف طبقا لمختلف الوضعيات بما فيها سيناريو الأزمات شبه مفقود لدى «بهلوان» المالية (و هو الاسم الذي يُطلَق مجازا على وزراء المالية ) الذي يحاول المشي على حبل رفيع دون أن يفقد قدرته على مسك عصا النفقات والموارد من الوسط حتى لا تنهار توازنات الميزانية. على أنّ اللافت في هذه الجملة بالذات تطابقها بالكامل مع اختلاف في التفاصيل التقنية مع تصريحات المحافظ المُقال عن ضرورة استقلالية البنك المركزي في اختيار السياسة النقدية حفاظا على التوازنات العامة ونأيا بالبنك عن التجاذبات السياسية قصيرة المدى ذات الخلفية الانتخابية. فضخّ كتلة نقدية هائلة دون خلق انتعاشة اقتصادية حقيقية (أي دون خلق مواطن شغل إضافية تزيد في قوة الانتاج المؤدي إلى إيجاد فائض حقيقي للاستهلاك والادخار وتحفيز الاستثمار) سيؤدي عاجلا إلى خلق حالة اصطناعية من الحراك الاقتصادي والرضا الاجتماعي، وهذا الأخير سيتمظهر أيضا عاجلا في نتائج الانتخابات التي تدق على الأبواب. بعدها بفترة قصيرة ومع غياب القيمة المضافة لهذا الإسهال النقدي، ستفقد الأموال قيمتها الشرائية المفقودة أصلا وما يعنيه ذلك من تضخم هائل وغلاء «فاحش» للأسعار وعندها لا نعرف كيف سيواجه «الرابحون» موجة الاحتجاجات الاجتماعية العفوية ؟ هل سيكفيهم عندها التحجج بشرعية الصناديق لِلَجْمِها ومعالجتها (الاحتجاجات) بكل الوسائل التي تتيحها لهم سيطرتهم على أجهزة الدولة بما فيها الأمنية ؟. و الجامع أيضا بين الديماسي والنابلي تقني بالأساس :فلئن كانت المالية العمومية من مشمولات الأول، فإن ارتباطها وتأثيرها على السياسة النقدية (البنك المركزي) وثيق بلا «فِكاك»، فازدياد نفقات التصرف على حساب نفقات الاستثمار والموارد المتاحة سيؤدي إما إلى مزيد الاقتراض غير الاستثماري مع تكاليف إضافية للفوائد أو «الضغط» على البنك المركزي من أجل سياسة نقدية توسعية «فاضحة» بطبع عدد مهول من الأوراق النقدية الفاقدة لقيمتها الشرائية والمحتفظة فقط بقيمتها «الورقية». المتعارف عليه في حالة تصادمهما (المالية والبنك المركزي) «التضحية» بأحدهما لكن في الحالة التونسية السريالية كانت النتيجة رحيلهما معا !. وخارج منطق حدود مسؤولية كل منهما، يمكن القول أنهما وباعتبار خبرتهما الاقتصادية والمالية كان لهما نفس آليات التشخيص ونفس الاستنتاجات مما أدى إلى سرعة الترويكا في إقالة النابلي تماما كسرعة الديماسي في فهم الرسالة ليُقدم على الاستقالة ربما قبل إقالته التي تداولتها كواليس الحكومة!. ما يؤكد ذلك سرعة قبول الحكومة لاستقالته وكأنها ارتاحت من عبء التخلص منه بإقالته،كما أنها في ردها على بيانه الصحفي عملت تقريبا على «إدانته» بوضعه تلميحا ضد كل التفاهمات الاجتماعية التي أقامتها مع الجانب النقابي مع أن الديماسي خريج مدرسة اتحاد الشغل. وهذا الأسلوب شعبوي بامتياز ولا يجيب تقنيا على مؤاخذاته عليها، وهنا لا بد من القول وبقطع النظر عن صحة أو خطأ تشخيص الديماسي للوضع الاقتصادي، إنه كان مبدئيا في موقفه ولم يغيّره إرضاء للرأي العام ونتذكر هنا جيدا دعوته إلى ضرورة رفع أسعار المحروقات وما خلّفه ذلك من سخط شعبي عليه. ورجل الدولة عليه أن يقول حقيقة الوضع ولو كان مُرّا وغير شعبي مع الشجاعة في أخذ القرارات المؤلمة بعد تفسير غاياتها ونتائجها المستقبلية. سياسيا، تزامن الإقالة والاستقالة يزيد من خلق حالة الريبة بين فرقاء المشهد، فحتى التسريبات عن تحويرات وزارية قريبة قد تبقى مجرد تكهنات ستطول نقاشاتها حتى تصبح واقعا ملموسا. فالشخصيات المستقلة أو الحزبية من خارج الترويكا، والتي وقع تداول أسمائها للدخول في الحكومة قد تعيد حساب ربحها أو خسارتها من هذا الدخول في هذا الظرف الصعب. والمؤشرات الحالية إن كان لهذا التحوير أن يحدث، قد تسير نحو تغيير الأسماء بأخرى من داخل الترويكا نفسها. في هذه الحالة لو اقتنعت بأنها لن تنجح في كسر عزلتها التي بدأت تتشكّل تدريجيا، قد تزيد في سياسة الهروب إلى الأمام مما سيخلق لها مطبات تَرفع سقف المشاحنات والتشنج مع بقية الطيف السياسي والمدني إلى الأقصى. أما خارجيا، فإن تزامن رحيل النابلي والديماسي لن يزيد إلا في ريبة مؤسسات القرض العالمية والمستثمرين من الوضع الداخلي وفقدان ثقتهم في المسار السياسي بعد الثورة وقدرته على إعادة الاستقرار للبلاد. والحط لا قدّر الله مرة أخرى من الترقيم الائتماني للبلاد لن يُغلق أمامنا أبواب الأسواق المالية فحسب بل سيجعل الدول التي تعوّدت إقراضنا تراجع موقفها الداعم لثورتنا إما بالكف عن تعاونها أو بالترفيع المشط في سعر الفائدة أو خاصة «إجبارنا» لحاجتنا الملحة على قبول شروط قاسية قد تفقدنا استقلالية القرار الوطني أحد أهم شعارات الثورة. إن تواتر الصراعات السياسية المُربِكة في فترة قصيرة لا يطمئن المواطن البسيط حتى أن السؤال البديهي اليوم هو: أين السعي إلى تحقيق أهداف الثورة في كل ما يحدث بين السياسيين؟. يبدو أنّ الحروف المكوّنة لكلمة الثورة قد تفرّقت بين الأحزاب المتصارعة والكل يدّعي ملكيتها كاملة مع أنها لن تستعيد ألقها إلا إذا جلس الفرقاء إلى طاولة واحدة وجمّعوا حروفها الموزعة على «قبائلهم» لتسترجع الثورة مبدأها الأساسي التوافق، التوافق والتوافق، حتى لا نقول عنها بعد فوات الأوان: لقد قالتها ثلاثا، ثمّ... أجْهَشَتْ بالبكاء !