التونسية- كتب: منير بو رمضان بعد مرور ثمانية أشهر من استلام حركة «النهضة» الحكم، ما زال المشهد السياسي العام وخاصة لدى الأحزاب اليسارية والعلمانية، والنخب القريبة أو المرتبطة بها يغلب عليه الخوف وعدم الثقة من الإسلاميين، ويرون فيها تهديدا لمدنية الدولة، وللمكاسب المجتمعية التي تحققت خلال دولة الاستقلال، وهي مخاوف لم تنجح ««النهضة»» في الحد منها، بل أنها تجذرت أكثر بسبب الأداء السياسي للنهضة في الحكم، اذ يرى فيها خصومها أنها تعمل بالليل والنهار على «أسلمة» كل مفاصل الدولة، وتخطط للبقاء في السلطة لسنوات بل عقود طويلة. ما جعل الحياة السياسية تعيش على وقع مشهد يشبه «الرمال المتحركة»، وسمته الأساسية الانقسام والضبابية، وبالتالي الخوف من سيناريوهات المستقبل، التي تبقي مفتوحة على كل الاحتمالات، وذلك بالنظر الى ما تحمله –عادة- الفترات الانتقالية من مخاطر. بعيدا عن حالة التجاذب والاستقطاب السياسي والإيديولوجي، يستبعد المراقبون للشأن التونسي حصول «ردة» في المسار الانتقالي الديمقراطي، في مرحلته التأسيسية التي دشنت بعد انتخابات 23 أكتوبر، برغم تراجع «الوفاق» وغياب أطر الحوار بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. ويرجعون ذلك بالأساس الى وجود حركة اجتماعية وسياسية قوية جعلت من الديمقراطية «مطلبا اجتماعيا» والى الظرف الإقليمي والدولي المشجع والمناسب لحصول التغيير الديمقراطي. وتبقى تطورات المشهد السياسي رهينة تطورات داخلية في المقام الأول، ومتوقفة على حصول توافق بين «النهضة» وخصومها، كشرط لتجسير الفجوة بين الطرفين. الإسلاميون و«محنة» الحكم ومثلما كان متوقعا، فان الأشهر الثمانية السابقة بينت أنه ليس من اليسير على الحكم الجديد في تونس تهدئة جبهات الضغط الكثيرة، بسبب عمق التباينات بين مشاريع الحكم والنمط المجتمعي لكل من السلطة والمعارضة. فقد واصلت المعارضات «اليسارية» وكذلك «الدستورية» –ممثلة في حزب نداء تونس- تحريك مواقع الضغط والاحتجاج، من داخل الساحة النقابية العمالية أو الساحة الطلابية. وهو ما برز في أكثر من مناسبة سواء عند تشكيل الحكومة أو بمناسبة جلسات المجلس التأسيسي.وقد استطاعت هذه الأطراف «إحراج» «النهضة»، بفضل قدرتها على التعبئة في صفوف المجتمع المدني وفي الإعلام، وقدرتها أيضا على «تصيد» أخطاء الإسلاميين الذين يفتقدون إلى الخبرة والتجربة في إدارة الشأن العام. إن التحديات التي تواجه حركة «النهضة» كثيرة ومتنوعة، وهي امتحان و»محنة» بالمفهوم الاسلامي، لمعرفة مدى خلو خطابها من وعظ الناس إلى تقديم حلول لمشكلاتهم الاجتماعية والأمنية، وابتعادها عن تكرار الأخطاء التي انزلقت إليها التجارب الإسلامية الحديثة في الحكم في كل من السودان وإيران، حيث انقلبت على الديمقراطية وأسست لاستبداد باسم الدين. وهي أيضا مطالبة بالعمل أكثر على «تأطير» الساحة الإسلامية، من أجل محاصرة بعض المظاهر المنسوبة لتيارات إسلامية وخاصة السلفية. وبرزت مظاهر هذا الخطر من خلال جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمدت إلى محاولات تستهدف المس من الحريات الفردية التي هي «مقدسة» بالنسبة للتونسيين. وبرغم رفض «النهضة» للعنف ولتحركات السلفية فان خصومها يتهمونها بالتساهل مع هذا التيار، بل «تمكينه من غطاء سياسي وقانوني» وهذا ما جعله يتحرك ويضرب هنا وهناك دون وجود أي رادع من قبل أجهزة الدولة، في اشارة دالة على كون «النهضة» لم تحسم أمرها في التعاطي مع الورقة السلفية، بل هناك من يذهب الى حد القول بأن المؤتمر الأخير أفرز نتائج انتخابية في صالح التيار السلفي وبينت حجم حضور قوي له في هياكل الحركة القاعدية وفي مجلس الشوري الذي يمثل أهم سلطة بعد المؤتمر. ما يجعل من «السلفية» التي تعد من أبرز التحديات التي تواجه حكم «النهضة»، وامتحان قدرتها على التحول الى حزب سياسي مدنى. «رفض» لحكم الإسلاميين كما تبين من خلال الثمانية اشهر الفارطة، أن وصول حزب إسلامي لرئاسة الحكومة في تونس ، مثل ولا يزال يمثل «مفاجأة» و«صدمة» بالنظر لحركة التحديث الشاملة التي عرفتها البلاد بقيادة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. على أن العديد من الدراسات التي تناولت بالبحث الحركة الإسلامية في تونس، تلتقي عند التأكيد على خصوصياتها بالمقارنة مع تجارب أخرى. وهي خصوصية استمدتها من بيئتها الوطنية. ومن خصوصية الواقع التونسي نفسه ومدى تغلغل أفكار التحديث فيه، ومن خصوصية علاقتها بالغرب، القائمة على القرب وشدة التأثر الثقافي. وهذا ما جعل بعض الملاحظين وخاصة من الدارسين لتجربة الحركة الإسلامية في تونس. يرون بأن حزب حركة «النهضة» أقرب إلى الاستلهام من التجربة «الأردوغانية» –نسبة لرجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية- ، بسبب استيعابهم وادراكهم لخصوصيات المجتمع التونسي. وتفاعلهم مع ما تحقق من لبنات أسست لانتقال ديمقراطي، يقوم على التعددية والتداول على السلطة والإقرار بمدنية الدولة. وإذا لم يحصل التفاعل الايجابي، في هذه المرحلة، فان «الإسلامية السياسية» ستكون ظاهرة عابرة في التاريخ التونسي، نظرا لقوة وتجذر التجربة التحديثية. اختبار حكم «النهضة» إن التحديات التي يمكن امتحان «النهضة» فيها ليست سياسية، حيث من المستبعد بل من المستحيل أن تتنكر للخيار الديمقراطي التعددي، وللتداول على السلطة عبر الانتخابات، فليس أمامها خيار أخر. بل أن التحدي الرئيسي الذي واجه ويواجه «النهضة» وحركات الإسلام السياسي، لا في تونس فقط بل في العالم العربي، يتمثل في السياسة الاقتصادية والاجتماعية. وقد طرح مشكل «البرنامج» بقوة بعد تشكيل «النهضة» للحكومة، حيث كان بيان رئيس الحكومة أمام المجلس التأسيسي، مجرد «خطاب نوايا» وليس برنامج عملي لبلد يعاني من تحديات عديدة واستحقاقات ثورة. ما طرح التساؤل عن مدى قدرة حزب حركة «النهضة»، على إحداث قطيعة مع البنية السياسية سابقة. وهو ما برز من خلال أداء «النهضة» خلال الثمانية أشهر الفارطة، هو أن الاسلاميين يبدون أكثر فأكثر يمثلون حزب الاستمرارية لا القطيعة، لكن ليس لدرجة أو حد إعادة إنتاج الدكتاتورية. تبديد «المخاوف» برغم بعض مظاهر»الليونة» التي تعامل بها الإسلاميون قبل وبعد الانتخابات وأثناء ممارسة الحكم، فان أزمة الثقة ما تزال تميز علاقاتهم بالعديد من قوى المجتمع وخاصة النخب. ما يجعلهم مطالبون بتفنيد كل «التخوفات»، عبر التعاطي بايجابية وبتفاعل عقلاني مع المجتمع التونسي، من خلال الانتصار إلى «إسلام حركي تونسي» يأخذ في المقام الأول خصوصية التجربة التحديثية التونسية التي تعود إلى حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر وتعد دولة الاستقلال استمرارا لها. والعمل من أجل التأسيس لتوافق بين هوية المجتمع و علمانية الدولة، على غرار التجربة التركية التي تحظي بالإعجاب لدى «النهضة». و الابتعاد عن الأخطاء القاتلة التي طبعت تجارب حكم الإسلاميين في السودان وإيران وأفغانستان. ولعل الضمانة في عدم الوقوع في مثل هذه التجارب، تكمن في كون المجتمع التونسي له من الحصانة ما يجعله قادرا على حماية مكاسبه. وبالتالي التأكيد على أن «النهضة» تطورت ضمن السياق التاريخي والاجتماعي التونسي، ممّا أدّى إلى «تونسة» «النهضة» لا «أسلمة» تونس.