منذ وضع ماكيا فيلي كتابه «الأمير» الذي يعتبر دستور السياسيين لحكم الجماهير واخضاعها للسلطة بات شعار «الغاية تبرّر الوسيلة» منهج عبدة السلطة واللاهثين وراء الكراسي يتوخون العمل به بكل ما يتطلب ذلك من خبث ودهاء ومناورات وكذب ونفاق لإقصاء الآخر والانقلاب عليه أو تشويه صورته في عيون الجماهير لغاية في نفس يعقوب أو خدمة لأجندات خفية تحقق أهدافهم وطموحاتهم من وراء السلطة. ولم تخل الثورات التي شهدها العالم على مرّ السنين من الدسائس والفتن التي أغرقت كثيرا من البلدان في بحور من الدّماء، خاصة البلدان التي شهدت ثورات مسلحة كان جوهرها عزم قوي على كسر إرادة الآخر واقصائه من طريق السلطة. لكن هناك بلدان شهدت «ثورات هادئة» تم خلالها انتقال السلطة بأقل التكاليف ومع ذلك بقي صراع الارادات فيها «نارا تحت الرماد» تتأجج من حين لآخر في شكل انتفاضات وهزات اجتماعية أو سياسية تعرض أمن البلاد للخطر. في هذا النوع من البلدان التي ثارت على الدكتاتورية ودخلت عالم الديمقراطية والتعددية، لا يغيب الصراع على الكرسي بين الأطياف السياسية المتواجدة على الساحة لكن في غياب السلاح يستنجد الفرقاء السياسيون بأسلحة أخرى لمواجهة خصومهم. ولعل أقوى الأسلحة التي باتت الأحزاب السياسية تعوّل عليها خاصة في تونس سلاح «الفايسبوك» وأشرطة الفيديو نظرا لما تضمنه باعتمادها على تكنولوجيات الاتصال الحديثة من مساحات للتأثير في الرأي العام. «التونسية» تستعرض في هذا التحقيق أهم «حروب الفيديو» التي شهدتها البلاد منذ حدوث الثورة ومدى خطرها على المجتمع. من بين التسجيلات المسربة التي أثارت ردود أفعال مختلفة، بين متشفّ ومعارض نذكر فيديو علي العريض وزير الداخلية الحالي، الذي تم ترويجه لأغراض حزبية سياسية بحتة نمّت عن انحطاط أخلاقي دنيء. وسرعان ما تبيّن بعد عرض شريط الفيديو على أخصائيين في الاعلامية أن المقطع المسجل مركب وقد وقعت فبركته باستعمال تقنية الميكساج واتضح وقتها أن تسريب الفيديو المشبوه حدث مباشرة بعد قرار وزير الداخلية تطهير الوزارة من العناصر المتهمة بالاجرام في حق الشعب. وقد أثار الفيديو موجة استنكار في أوساط الشارع والحلقات السياسية ورفع مختلف رموز المعارضة وقتها شعار «نحن لسنا مع العريض لكننا ضد هتك الأعراض». في حملة مضادة ندّدت بالفيديو في وقت عمدت أطراف مجهولة الى بث البلبلة وإشاعة الاضطراب وإشعال البلاد ومحاولة زعزعة الحكومة! الرّاجحي والقنبلة السياسية ولا زال السواد الأعظم من الشعب يتذكر الفيديو «القنبلة» الذي ظهر فيه القاضي ووزير الداخلية الأسبق فرحات الراجحي في حوار صحفي مسجل خفية وهو ينتقد الوزير الأول وقتئذ الباجي قائد السبسي وكمال لطيف رجل الأعمال المعروف الى جانب كشفه عن سيناريو يطبخ على نار هادئة حسب قوله. وأهم ما ورد على لسانه أن سبب تعيينه وزيرا للداخلية كان من أجل تحسين صورة الحكومة لدى الشعب وخصوصا لتبييض صورة وزارة الداخلية وأضاف بأن كمال لطيف يسعى في الخفاء لابقاء الحكم في الساحل باعتبار أن هذه المنطقة مسقط رأس الرؤساء السابقين للبلاد، الى جانب نعته «السبسي» ب «الكذّاب». وقد أثار الفيديو وقتها عديد الاحتجاجات والاضطرابات في صفوف المجتمع والسياسيين بشكل عام. فيديو «أبو عياض» أما فيديو أبي عياض زعيم الحركة السلفية الجهادية فقد ظهر فيه وهو يهدّد علي العريض وزير الداخلية بالانتقام منه «طال الزمان أم قصر» قائلا له: «الزم بيتك... الزم جحرك واعرف قدرك» وجاء هذا ردّا على تهديد العريض بشن حملة اعتقالات في صفوف الشباب السلفي ردا على أعمال العنف التي يقومون بها وتكفير الناس. وأضاف أبو عياض في الفيديو المسرب أن أنصار التيار السلفي مجرّدون من أسباب القوة المادية إلا أنهم يستمدون قوتهم «من ربّ العالمين وأن الشباب السلفي سيكون الحصن الذي يمنع صعود الكفر على سدّة الحكم في تونس «أحبّ من أحبّ وكره من كره». وقد اعتبرت عديد الأطياف السياسية والحقوقية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها أن مثل هذه التهديدات تمس من هيبة الدولة في حين استحسنت أطرافا أخرى كلام «أبو عياض» واعتبرته نضالا جائزا! بين السّبسي والجبالي وقد تم مؤخرا تسريب فيديو مصور يعرض جلسة خاصة لرئيس الحكومة حمادي الجبالي صحبة زعيم حزب «نداء تونس» ورئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي قبل تسليمه السلطة تطرّفا فيه لعديد المواضيع وعقبا على عديد النقاط. وفي بداية الحديث أشار السبسي بأن هناك حسابا جاريا وواصل حديثه قائلا «الفلوس الأخرين إليّ خلاهملي تلقاهم موجودين» وأجابه الجبالي بأنه حريص على ضمان وضعية مخاطبه المادية وأن ذلك «حقّه». ثم تحدث الطرفان عن وزير الداخلية الأسبق فرحات الراجحي بتهكم وقال السبسي «سرقولو كبّوطو وعطاووه طريحة». وأشار الى أن الراجحي كان مخاطبا بمن وصفهم «جماعة البوكت» في إشارة الى حزب العمال الشيوعي. وأضاف بأن الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين تتدخل في شؤون الدولة... ثم انتقل الطرفان للحديث عن موضوع السلفيين وقال السبسي حرفيا «السلفيون محسوبون عليكم وأنا نعرف إلي إنتموما أبرياء» كما انتقد تصريحات وزير التعليم العالي الحالي منصف بن سالم الذي انتقد بدوره فترة حكم الزعيم الحبيب بورقيبة. وقد أثار ما جاء في الفيديو استياء الأشخاص الذين تناولتهم مقابلة السبسي والجبالي، علما أن البعض يرى أن هذا الفيديو المسرب مفبرك والغاية من ترويجه اشاعة عدم الاستقرار وافتعال الفتن. أبو أيوب يعلن الحرب على المرزوقي أما عن الفيديو المتعلق بأبي أيوب وهو الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» بتونس فقد قال خلاله انه يستجيب لدعوة أيمن الظواهري مؤخرا، على خلفية عرض اللوحات الفنية في معرض العبدلية في ضاحية المرسى، حيث أعلن رسميا بداية «الزحف والحرب المقدسة على الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي» متهما إياه بالرّدة. وخاطب من سماهم العلمانيين قائلا: «نحن نكفر بكم ونكفّركم...» معلنا بداية «الزحف من أجل إقامة دولة الإسلام في تونس». وقد أثار الفيديو موجة استنكار في الأوساط السياسية بالبلاد نظرا لما تحتويه مدلولاته من زرع الفتنة في صفوف التونسيين وما قد يصاحب ذلك من لجوء للسلاح لتحقيق الأغراض. الغنوشي والسلفيون أكد زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوسي في الفيديو المسرّب بالصوت والصورة أن العلمانيين لم يتوقعوا وصول «النهضة» للسلطة قائلا: «ظل الباجي يؤكد لسنة كاملة بأن الإسلاميين لن يحصلوا في أقصى الحالات إلا على 20٪ ودعا السلفيين للتعقل مع ضرورة اتباع سياسة المراحل للهيمنة على كافة دواليب الدولة باعتبار أن وزارات السيادة تحت سيطرة «النهضة» وقد أثار هذا الفيديو ردود فعل كبيرة في أوساط السياسيين. واذا كان هناك من ذهب الى القول بأن الشريط يكشف الوجه الحقيقي ل «النهضة» التي تروّج للاعتدال والتسامح فإن قياديي «النهضة» أكدوا أن الفيديو «مفبرك» متسائلين عن سبب توقيت التركيز عليه. فيما أكد زعيم الحركة أن الجلسة التي ضمته ببعض الشباب السلفي هي جلسة حقيقية لكنه أشار الى أنه تم التلاعب بالجمل وتركيبها بطريقة تسيء اليه وإلى «النهضة» بصفة عامة. وذهب شق ثالث الى التأكيد على أن مرّوجي «الفيديو» بتلك الطريقة هم السلفيون وذلك ارضاء لهم نظرا لغضبهم من تنازلات «النهضة» حول الشريعة. لهذه الأسباب يقع تسريب الأشرطة أكد عبد الستار بن موسى رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أنّ تسريب هذه الفيديوهات خلال هذا التوقيت بالذات يثير الكثير من الجدل والريبة واستغرب من انتشار هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة. وقال عبد الستار بن موسى إنّ الهدف من تسريب هذه الأشرطة هو التأثير على مجريات بعض الأحداث وكذلك توجيه الرأي العام خلال شغل التونسيين بمثل هذه الأشرطة عن المشاكل الجوهرية التي تعيشها البلاد. وأفاد رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن هذه الفيديوهات تعكس وقائع صحيحة مشيرا إلى موقف حركة «النهضة» من الشريط الأخير حيث أكدت قيادات الحركة أن كل هذه الوقائع صحيحة. وأشار بن موسى إلى أن اختيار التوقيت يثير نقاشا واسعا في أوساط الساحة السياسية واعتبر أن خطورة هذه الأشرطة تكمن في إثارة أو تأليب الرأي العام مشيرا إلى أنّ الخطر الأكبر لهذه الأشرطة المسربة يتمثل خاصة في المسّ من حرمة الأشخاص والتعدّي على حقوقهم مثلما حدث بالنسبة للشريط الذي وقع تسريبه حول وزير الداخلية علي العريض. ودعا بن موسى إلى مزيد من الشفافية وتوضيح المواقف متسائلا: «لو كانت النوايا صادقة وواضحة فلم لا يقع بث هذه اللقاءات مباشرة بدل تسريبها؟». وأفاد بن موسى أن تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية يدفع بالكثيرين إلى توجيه اهتمامات الشعب التونسي نحو مثل هذه الأشرطة. كل التقديرات تجاوزات إرادة السياسيين من جهته أكّد أستاذ القانون الصادق بلعيد أن كل التقديرات تجاوزات بكثير إرادة السياسيين. واعتبر الصادق بلعيد أن الهدف من تسريب هذه الأشرطة هو «استعراض عضلات لا أكثر» مشيرا إلى أنّ بعض البارعين الذين يُتْقنون الأنترنات يحاولون النفاذ إلى المعطيات الشخصية لبعض الأطراف السياسية. وأضاف الصادق بلعيد إنّ التوصّل إلى مستخدمي الأنترنات الذين يقفون وراء هذه التسريبات أمر صعب جدا ملاحظا أنّ «الّي يسرق يغلب إلّي يحاحي» مشيرا إلى أنّ هؤلاء الأشخاص لديهم براعة وعبقرية فنية متميّزة. وأفاد بلعيد أنّ هناك أشرطة مسرّبة تهدف إلى تحقيق مآرب سياسية وإيديولوجية من أجل خلق نوع من الاضطراب. وذكر بلعيد أن هذه الأطراف البارعة في استخدام الأنترنات والتي تقف وراء تسريب أشرطة الفيديو عادة ما تتقاضى أموالا هامة مقابل ترويج هذه الأشرطة أي أن هنالك عملية (بيع وشراء). واعتبر بلعيد أنّ الهدف كذلك هو الوصول إلى نتيجة معينة تتمثل بالأساس في تعريض بعض الأطراف سواء حكومية أو سياسية إلى مواقف محرجة. وحول الشريط الأخير الذي جمع كلا من الجبالي والسبسي قال بلعيد إن هذه الأشرطة لا تمثل خطورة بل إنّ الخطورة تكمن في تسريب أسرار ووثائق سرية تتعلق بعمل الحكومة. وأضاف بلعيد أنه بإمكان مستخدمي الأنترنات الولوج إلى أدق التفاصيل والمعطيات المتعلقة بالشخصية المستهدفة.