بعد معاناة طويلة ووعود كاذبة وأخرى مؤجلة رأى فيلم نضال شطا «السراب الأخير» النور في عرضه العالمي الأول في سهرة الثلاثاء الماضي بقاعة الكوليزي. لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يهبّ أحباء السينما بذلك الشكل من أجل فيلم لمخرج غير معروف إعلاميا، فنضال مخرج منفرد بطبعه، إذ درس في كلية العلوم ببريطانيا - التي أقام بها لسنوات - وتخصص في الغوص والتصوير تحت الماء، ويحمل نضال ثقافة سينمائية مغايرة للثقافة السائدة في تونس فمرجعياته ليست في كل الحالات السينما الفرنسية وربما أتاح له إتقانه اللغة الإنقليزية قراءة وكتابة التعمق في السينما الأمريكية وما جاورها.. حرم نضال شطا من التفاعل مع الجمهور في فيلمه الطويل الأول «حب محرم» قبل أكثر من عشر سنوات لأن الفيلم عانى من مصاعب مالية حكمت عليه بقانون الصمت، ويبدو أن حظ نضال ليس مثاليا فقد عانى هو والمنتج المفوض ل«السراب الأخير» عبد العزيز بن ملوكة الذي كان شريكا فعليا في الفيلم منذ الفكرة وتحمّل مع نضال نصيبا من الآلام ليس أقلها أن وزارة المالية أرسلت له تنبيها تعلمه بضرورة إعادة منحة الدعم أو أنها ستضطر لإجراء عقلة على الشركة.. صحيح أن المحافظة على المال العام أمر مقدس ولكن الحادثة كانت مؤلمة لرجل مثل عبد العزيز بن ملوكة الذي تدور كل حياته في عالم السينما. ففيه أصدقاؤه وأحبته ومواعيده ونقاشاته ونوبات ثورته منذ كان في «الساتباك» حتى فتح شركته الخاصة لينتج أفلام جل المخرجين، مفيدة التلاتلي، النوري بوزيد، محمد دمق، سلمى بكار، إلياس بكار، مختار العجيمي، معز كمون، شوقي الماجري، مديح بلعيد.. كان إنجاز «السراب الأخير» مغامرة متفردة فالفيلم غريب عما ألفناه من السينمائيين التونسيين إذ هو خارج خانة سينما المؤلف، يعود نضال إلى احتلال العراق سنة 2003 ونهب متحف بغداد حيث يشتغل الدكتور أسامة الباحث الأركيولوجي التونسي الذي يحاول إنقاذ مخطوط فريد يؤكد أسبقية العرب في اكتشاف نظرية التطور قبل داروين بقرون طويلة.. يلتجئ الدكتور أسامة إلى صديقه العراقي ليهرب هذا المخطوط وتنتهي الرحلة بسقوط الطائرة العراقية في قلب الصحراء التونسية حيث تنطلق مطاردة بوليسية أطرافها باحث غريب الأطوار «ليفنقستون»(قام بالدور الأمريكي الفرنسي جان مارك بار) ومفتش الشرطة(سي عبد الله) قام بالدور عبد المنعم شويات والطبيب (لطفي الدزيري الذي غاب عن العرض بسبب أزمة صحية ونحن نرجو له الشفاء العاجل) وسليمة (إبنة الدكتور أسامة) التي قامت بدورها المغربية الفرنسية إليزا توفاتي.. في ديكور طبيعي خلاب لم تستغله السينما التونسية سابقا وبديكورات مثيرة لتوفيق الباهي تحركت كاميرا نضال شطا بين لقطات طويلة وأخرى متناهية الكبر ومقربة وكبيرة ومقربة جدا رصد نضال شطا حركات شخوصه وانفعالاتهم ولم يكد يفلت همسة أو لمسة.. أما عن حوار الفيلم ولئن سقط أحيانا في الثقل والتفسير المدرسي –رغبة من المخرج في تيسير عملية الفهم لدى المشاهد- فقد كان واقعيا وذا مصداقية، فكل شخصية لها معجمها الخاص والتي تضاجع صديقها لا يمكن أن يكون خطابها محافظا فالجنس لا يمكن أسره في الفراش بل هو ساكن في كل إشارة وكل كلمة، أما الطبيب اللامبالي الباحث عن الثروة والمتعة فلا يتردد في ترك المريض على طاولة العمليات في مشهد غير مسبوق في الأفلام التونسية ليواصل حديثه وهو ينفث دخان سيجارته.. ظل الجمهور ليلة الثلاثاء الماضي متشبثا باكتشاف «السراب الأخير» الذي نجح في الإفلات من أسر الظرفية السياسية بعدم الوقوع في الشعارات القومية المساندة للعراق كما وفق في الارتقاء عن أن يكون مجرد فيلم بوليسي.. نجح نضال شطا ومعه المنتج عبد العزيز بن ملوكة وذلك الفريق الرائع من التقنيين (محمد مغراوي مديرا للتصوير، مساعد مخرج أول محمد عجبوني، مهندس الصوت معز الشيخ، مونتاج فخر الدين عمري وسيف الدين بن سالم، في إدارة الإنتاج ميمون مهبولي وزوجته هالة مهبولي..) في تقديم فيلم مختلف سيسجل حضوره في ذاكرة السينما التونسية والعربية، وكم تمنى الراحل نبيل كيلة – وهو صديق لنضال شطا- أن يقوم طارق بن عمار-رئيسه السابق- بخطوة وعد بها في البداية وهي المساهمة في إنتاج الفيلم، خطوة موعودة سافر من أجلها نضال إلى مهرجان «كان» قبل سنتين لملاقاة طارق بن عمار في يخته.. ولكن الوعود أجهضت واندلعت الثورة فتوقف كل شيء وكاد الفيلم يضيع لولا عزيمة الرجال.. في انتظار أن يكتشف الجمهور التونسي «السراب الأخير» نقول لقد قدّم هذا الفيلم شهادة مولد مخرج سينمائي كبير يمسك بأدوات عمله ويتميز بلغة سينمائية متفردة إسمه نضال شطا..