هذه الأغنية الشعبية للراحلة صليحة (1914 - 1958) صوت تونس الأعماق بيعت للمطرب الخليجي حسين الجسمي والذي كان اشترى من المطرب الشعبي الهادي حبّوبة (هاك دلالي). كذلك الشأن بالنسبة للمطرب الكويتي نبيل شعيل الذي اشتهر بأغنية «صباح الخير يا مدلل». فقد استحوذ على أغنية تراثية «ها للاي لالي» فحوّلها «يا شمس لا تغيبي». أما المطرب لطفي بوشناق فقد استحوذ على لحن من أمريكا اللاتينية وطلب من شاعره المفضّل الزجال الكبير فتحي بن عمر القاسمي شهر آدم فتحي أن يسقط على ذلك اللحن كلماته... «أنت شمسي ما تغيبيش» وقد تطول القائمة الإسمية للأغاني المسقطة أو التي كانت هدفا للسطو من طرف الفنانين المعاصرين الذين استعذبوا عملية السطو على مآثر المبدعين الراحلين فتمعشوا من رزق البيليك لكنهم تناسوا أن ذلك الرزق البيليك لا يعدو أن يكون تراثا لا يستباح نهبه بدعوى التهذيب مثلما فعل الزجال الكبير محمد المولدي شهر رضا الخويني بالنسبة ل«جاري يا حمّودة» التي مازال يقبض عائداتها المالية وحقوقه الأدبية وكأنها ملك من أملاكه أو عقار من عقاراته. وإذا كان الوزير السابق للثقافة والمحافظة على التراث الدكتور عزالدين باش شاوش وهو عالم أثري حرص على استرجاع الآثار الرومانية التي سلبها أفراد عائلة الطرابلسي أصهار الرئيس السابق وواصل حملته الصيانية للمعالم الحضارية حتى قيل أنه «وزير الحجر قبل البشر» فإن الوزير الحالي الدكتور مهدي المبروك وهو عالم اجتماع قد حرص من ناحيته على المحافظة على تراثنا اللامادي أي لوحات الرسام الراحل عمار فرحات التي لا تقاس بأي ثمن مثل «الجوكندا» أو أفلامنا القديمة مثل «عين غزال» أو جنازة «حبيبة مسيكة» أو «مجنون القيروان» الذي يعتبر أول فيلم غنائي تونسي لحن موسيقاه وأغانيه الموسيقار العميد محمد التريكي أو فيلم «جحا» الذي كان أول فيلم تونسي يمثل بلادنا في مهرجان «كان» الفرنسي لكننا لم نسترجع أي فيلم من أفلامنا القديمة التي ضاع معظمها مثل فانوس باب منارة الذي بيع بالمزاد العلني في لندن مثل ذلك المصحف القيرواني الذي لا يقدر بأيّ ثمن. كما أنه مطالب باسترجاع بعض قاعات السينما التي تحدثت عنها في مقال سابق نُشر ب«التونسية» بتاريخ 10 فيفري الجاري أو السعي لترميم رسومها الدارسة وأطلالها البائسة مثل قاعة (الشاشة) بحي الباساج على مرمى حجر من مسرح «ابن كاملة» الذي تحول إلى عطرية عصرية تعرف بالفضاءات الكبرى super marché de grandes surfaces ذلك أنّ التراث المادي مثل المعالم الأثرية كباب المنارة الذي «لا يضوى إلاّ على البرّاني» أو الآثار الرومانية مثل كوليزي الجمّ أو كذلك التراث اللامادي (immatériel) مثل الأغاني التراثية والأفلام الغنائية واللوحات التشكيلة لأعلامنا القدامى من المبدعين الراحلين الخالدين هو جزء لا يتجزأ من هويتنا الحضارية التونسية التي احتضنت التراكمات الحضارية على اختلاف مشاربها كالبونية والقرطاجنية والرومانية أو العربية الإسلامية بمساجدها وبيوتها التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه أو أضرحة الأولياء الصالحين التي دنستها الأيادي الآثمة. لذلك فإن الشأن يدعو إلى صيانة تلك المعالم الحضارية باعتبارها مقوما من مقومات الشخصية الحضارية التونسية. وعودا على بدء فإن أغنية «يا خليلة» ليست من ألحان صالح المهدي وهو رجل قانون شهر «زرياب» حتى يبيعها إلى حسين الجسمي ويقبض الملايين (اللهم لا حسد) من صفقة بيعها وقد باع ما يملك. كما أن الفنان صالح المهدي كان درس بالسنة الأولى معهد الحقوق الشرعية الإسلامية في زنقة الغار قرب منزل أستاذه (1903 - 1980) محمد الحبيب رحمه الله حيث كان يقضي ليلته بجانبه حتى يراجع له دروسه في الفقه الإسلامي وهو يعلم باعتباره قاضيا في محكمة الناحية بمدينة طبربة أن الجاهل لا يعذر بجهله. فكيف إذن والحال أن البائع هو رجل قانون؟ فأغنية «يا خليلة» لا هي من ألحانه ولا هي من ألحان أستاذه خميس الترنان (1890 - 1964) فهي منسوبة إليه خطأ وإنه يعلم وهو (موسيقار عظيم) لحن السمفونيات إلى جانب الأغنيات والمعزوفات والنوبات أن تلك الأغنية هي مأخوذة لحنا من أغنية زكار وطبال قرقنة المرحوم علي واردة ومازالت ملء السمع والبصر يتغنى بها الشعب التونسي بأكمله وهي بعنوان ناري على المحبوبة الساكنة منوبة التي احترق مقامها الشريف مثل مريدها سيدي بوسعيد الباجي الذي سلبت أيضا أغنيته الشهيرة «رايس الأبحار» من طرف المغني الهادي فنينة شهر الهادي دنيا. وأدعو في ختام هذه المقولة أهل الاختصاص للمقارنة لحنا بين «يا خليلة» التي حولها صالح الخميسي إلى «يا بخيلة» وبين أغنية «ناري على المحبوبة» وسأبسط القول في خصوص عدة مآثر منهوبة من طرف إخواننا بالخليج العربي مثل ثروتنا الحيوانية كالغزال والحبارة والتي أبادوها: حتى يدركوا أن كنوزنا التراثية المادية واللامادية لا تباع على الشياع».