ليس ضحية الأمراض المزمنة هم المرضى وحدهم بل ضحاياها أيضا الساهرون على توفير أبسط ضرورات وحاجيات مرضاهم من مأكل ومشرب وأغطية وملابس وإنارة وتهوئة وأدوية إذا توفرت وذلك بشكل متواصل قد ينتهي بحماة ورعاة مرضاهم إلى العجز والقلق والملل واليأس والإحباط وخاصة إذا كانوا (الحماة) ممن تقدموا في السن وبلغوا مرحلة العجز مثلما هو الحال في قضية الحال التي غيرت مجرى حياة أربعة أفراد وقلبتها رأسا على عقب. ابن عليل وخطير جدا وأبوان عاجزان وابنة انقطعت عن الدراسة اضطراريا لتنخرط في منظومة الحضائر المسترسلة لتوفر لقمة العيش لأبويها العاجزين ولأخيها المختل عقليا في ظل تغافل الجهات المختصة والمسؤولة في الشأن الاجتماعي عن مثل هذه الحالات وضلوعها في العصف بحقوق وأمثال هؤلاء الضحايا وهم كثر في مختلف أنحاء جهة سيدي بوزيد. قضية الحال دلنا عليها فاعل خير ورافقنا في زيارتنا إلى العائلة التي تقطن بمنطقة المزارة في معتمدية بئر الحفي التابعة لولاية سيدي بوزيد، فما إن وطأت أقدامنا بهو المنزل حتى سمعنا حديثا متواصلا ينبعث من داخل غرفة مغلقة بابها حديدي وشباكها حديدي أيضا وبعد أن سلمنا على أهلها دنا صاحب البيت صحبة زوجته من الباب الحديدي وفتحاه فإذا بجسم يتحرك تحت خرقة سوداء بالية وسط بقايا أغطية وأقمشة وبقايا فضلات وأتربة متناثرة على كامل الغرفة يتحدث بلا انقطاع وينطق بكلمات غير مفهومة. وما إن توجهت له والدته بالكلام حتى هاج وماج وانتفض قائما عاريا تماما وانهال علينا قذفا بالخرق والتراب والفضلات لكنه ظل يتحرك في مكان محدود لأنه كان «مشدودا» بحبل أو بسلسلة حديدية موثوقة في وتد متصل بأرضية المنزل. حينئذ سارعت والدته بإحكام غلق الباب من جديد خوفا منه وحفاظا علينا من مقذوفاته المتنوعة. لماذا قيدوه ؟ «لما انسدّت الأبواب أمامنا ولمّا ذاقت بنا جميع السبل ولم ير فلذة كبدنا «سالم» الفرج منذ سنة 1987 بداية تاريخ أزمته النفسية وانقطاعه عن الدراسة في السنة الخامسة ثانوي (نظام قديم) من معهد بنعون آنذاك ودخوله في مرحلة اللاوعي وكثرت اعتداءاته على كل من يعترضه من قريب أو من بعيد بما في ذلك الحيوانات الأليفة وغيرها ولما أصبحنا عاجزين عن التحكم فيه وفي حركاته (ضرب، لطم، جرح وعض وتمزيق اللحوم وقلع الشعر وغيرها) لم نجد بدّا من شده بوثاق فربطناه من يديه ورجليه اجتنابا لمضاره المتفاقمة ودرءا لما قد يحصل مع العابرين من حولنا من تلاميذ وجيران وحيوانات». هكذا حدثنا أبوه وهو يمتقع حسرة وأسى وألما وبكلمات متقاطعة من حين لآخر ليواصل كلامه قائلا «اضطررنا منذ سنوات إلى المطالبة بإيوائه بالمستشفيات المختصة طمعا في شفائه وعلى الرغم من استجابة السلطات القضائية لمطلبنا فإن الجهات الصحية لم تنصفنا ولم تهتم بحالته كثيرا واقتصر دورها على تمكينه من أدوية مهدئة أو منومة لا غير معتبرة أن حالته ميؤوس منها ولا أمل في شفائها وهذا ما زاد في تعكير صفو حياتنا وأزم وضعنا. أضف إلى ذلك أن مصالح الشؤون الاجتماعية التي لم تعرنا أهمية ولم تبحث في حلول جدّية للحد من معاناة المريض وإنقاذنا مما نحن عليه من احتياج خاصة أني ووالدته نعاني من أمراض مزمنة فضلا عن تقدمنا في السن». أفضل الحلول عندنا... ثم تقدمت الأم منا باكية لتقول «اضطررنا إلى ربط ابننا سالم مرغمين من يديه ورجليه لأنه أصبح يمثل خطرا على من يلتقيه أو يقترب منه ولأننا عجزنا عن مداواته ربطناه حتى نتمكن من تنظيفه وإطعامه وتنظيف غرفته. جماعة بورقيبة وبن علي يعرفون وضعنا المزري لكنهم تجاهلونا ولم يعينونا على تجاوز محنتنا، جماعة بن علي لم يمكنونا من إعانة ولا بطاقة مرافق ولا من النقل المجاني إلى المستشفيات الجامعية بسوسة والمهدية وصفاقس وتونس إلى أن أصبحنا عاجزين تماما على كل ما يلزم مريض عقلي أصبح لا هو من عداد الموتى ولا من الأحياء كما ترون بل أصبح مصدر قلق وخطر على الآخرين إلى جانب معاناته الذاتية وفقدانه الأمل في أن يحيى معافى وينعم بحنان أبويه وعائلته رغم تجاوزه سن الأربعين...». أمنيات تمنى والدا سالم أن تنظر الجهات الفاعلة والمتنفذة إليهما بعين الرحمة والشفقة وتوفر لإبنهما مكانا بمستشفى الأمراض العقلية للحد من معاناته وإن كان لا يدركها ولا يحس بها من ناحية وحتى تتمكن العائلة من إنهاء بقية حياتها على حد تعبير الوالدين في مأمن وتتجنب حدوث كارثة – لا قدر الله – في حال تمكن ابنها المريض من فك وثاقه والخروج من الغرفة التي يوجد بها. تدخل وناشد الأبوان كل من وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ووالي سيدي بوزيد الحالي أن يتدخلا بصفة عاجلة لإيجاد الحل المناسب لابنهما المريض ومحاولة إيوائه بمستشفى الأمراض العقلية أو بأحد مراكز الشؤون الاجتماعية للمسنين والعجز وفاقدي السند من جهة ومحاولة مكافأة الأبوين على صبرهما ومنحهما جراية المعوزين والمرضى والمحتاجين. فهل تستجيب الجهات المختصة جهويا لصرخة هذين الأبوين؟