بقلم: مصطفى قوبعة إذن بعد مخاض عسير استقرّ حال الحكومة الجديدة فنالت ثقة المجلس الوطني التأسيسي وأدى أعضاؤها الجدد اليمين أمام رئيس الجمهورية وبدأت مراسم التسلم والتسليم في الوزارات التي شملها التغيير في أجواء تراوحت بين مبالات الرأي العام ولا مبالاته. فكيف يمكن قراءة هذه الحكومة الجديدة من حيث الشكل ومن حيث الانتظارات ومن حيث أهم الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها؟ أولا من حيث الشكل: يحسب لهذه الحكومة من حيث الشكل مقارنة بسابقاتها أنها قلصت نسبيا في حجم تضخم عدد وزرائها وكتّاب الدولة. ويسجل في هذا الاطار إلغاء خطتي الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالاصلاح الاداري والوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقة مع المجلس الوطني التأسيسي، وكذلك ادماج وزارتي التنمية والتعاون الدولي في وزارة واحدة هي وزارة التنمية والتعاون الدولي بما يسمح بالاستغناء عن منصبي وزير وكاتب دولة، فضلا عن إلحاق وزارة البيئة بوزارة التجهيز والاسكان وما ترتب عنه من تحويل وزارة البيئة إلى كتابة دولة، مع الاشارة كذلك الى اقتصار وزارة الخارجية على كتابة دولة واحدة عوضا عن ثلاث. وباستثناء هذه التعديلات حافظت الحكومة من حيث الشكل على عمودها الفقري السابق، أي أن القائمين على حظوظها فشلوا في توسيع قاعدة التحالف السياسي مثلما كان مؤملا واكتفوا بتثبيت التوازنات السياسية القائمة بين أحزاب «الترويكا» وتطعيم الحكومة الجديدة بوجوه غير متحزبة والتخلي لصالح هؤلاء عن وزارات السيادة الحارقة المتنازع عليها بين أحزاب «الترويكا» على امتداد أشهر عديدة. هذا مع توقع قيام رئيس الحكومة الجديد بإعادة تنظيم فريق مستشاريه برتبتي وزير وكاتب دولة من خارج حصة أعضاء الحكومة المعلن عنهم. ثانيا: من حيث الانتظارات: لئن كان الملاحظون لا ينتظرون الكثير من الوجوه التي تمت اعادة تكليفها سواء في مواقعها القديمة أو في مواقعها الجديدة والتي تراوح أداؤها في السابق بين المتوسط والرديء ولا ينتظرون الكثير من بعض الوجوه الجديدة التي التحقت بالحكومة على غرار الدكتور سالم لبيض وزير التربية الجديد ونوفر الجبالي وزير التشغيل الجديد، فإنّ كل الأنظار متجهة إلى وزارات الدفاع الوطني والداخلية والعدل والخارجية والتي أسندت على التوالي الى السادة رشيد الصباغ ولطفي بن جدو ونذير بن عمو وعثمان الجارندي. فبالنسبة للسيد رشيد الصباغ يأمل الملاحظون أن يكون هذا الأخير خير خلف لسلفه الدكتور عبد الكريم الزبيدي الوزير الوحيد تقريبا في الحكومة المتخلية الذي توفق في تحقيق الاجماع حوله ومن ورائه الاجماع حول المؤسسة العسكرية في دورها وفي أدائها وفي حياديتها في هذه الأجواء الملغمة بالتجاذبات السياسية. وبالنسبة للسيد لطفي بن جدو، فإنه يجد نفسه أمام تحدّيات كبيرة وفي مقدمتها التعاطي الشفاف والجدي والفعّال مع ملف اغتيال الشهيد شكري بلعيد ومعالجة الأوضاع الأمنية المتدهورة أمام تفشي مظاهر الجريمة بكل أشكالها والتمييز بين متطلبات ضمان الأمن للمواطن وبين حق الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني في تنظيم الأنشطة والتحرّكات الجماهيرية وفي حمايتها فضلا عن التعامل بكل حكمة مع الملفات ذات الأولوية التي تهم العاملين في مختلف الأسلاك الأمنية. أما السيد عثمان الجارندي التكنوقراطي بامتياز فيعلّق عليه أعوان واطارات وزارة الشؤون الخارجية آمالا كبيرة في اعادة الروح الى الوزارة والى بعثاتنا الديبلوماسية بعد الوطهن الذي أصابها خلال فترة الحكومة المتخلية. فإلى جانب تصحيح العديد من التسميات في البعثات الديبلوماسية وفي المصالح المركزية للوزارة، فإن الكثير من الملفات الشائكة تستوجب المعالجة المتأكدة في انتظار الوزير الجديد منها ملف الأسرى التونسيين في السجون العراقية وملف المقاتلين التونسيين في سوريا وخاصة منهم الأسرى والقتلى وتداعياته الديبلوماسية والجيوسياسية. من جهته لن يكون نذير بن عمّو، هذا الحقوقي الغريب عن أروقة وزارة العدل بمنأى عن الراحة، فوزارة العدل طرف رئيسي في الوصول الى الحقيقة الكاملة لاغتيال الشهيد شكري بلعيد ووزارة العدل مطالبة بتصحيح الأوضاع المحيّرة والغريبة داخل المؤسسة السجنية وبتدارك تعثر اصلاح منظومة القضاء وخاصة منها الاسراع بحلحلة تعقيدات مشروع الهيئة المستقلة للقضاء، بما يرضي العائلة القضائية عموما. وإذ نقرأ حسن النية لدى هذه الوجوه الجديدة المذكورة آنفا فإن نجاحها وتوفقها في انجاز ما يتعين انجازه على المدى القصير يبقى أولا وأخيرا رهين هامش المبادرة التي ستتمتع بها هذه الشخصيات. وفي ما عدى ذلك فمن غير المتوقع أن يقدم بقية أعضاء الحكومة الجديدة الاضافة المرجوّة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي خاصة وأنّ كل الدلائل تشير على الأقل حتى الوقت الحاضر الى اتجاه الأوضاع المعيشية نحو مزيد من التأزم. ثالثا: من حيث أهم الاستنتاجات يستنتج من تركيبة الحكومة الجديدة أن السيد نورالدين البحيري سيكون رجلها القوي بعد أن استأثر بالملفات السياسية، وتوحي المسؤولية الجديدة للسيد نورالدين البحيري لدى البعض: 1 أن هذا الاخير قد حظي فعلا بثقة مجلس شورى حركة «النهضة» لتولي رئاسة الحكومة مثلما تسرب سابقا، غير أن بعض الاعتبارات التي لا يفهم سواها إلا أصحاب القرار النهائي داخل قيادة الحركة حالت دون تكليفه بترأس الحكومة إما لحسابات «تكتيكية» أو استجابة لاعتراض شديد من رئيس الجمهورية. 2 قد يكون في تكليف السيد نورالدين البحيري بالملفات السياسية رغبة ما في توظيف دهائه السياسي لتحجيم هامش المبادرة المتوفر مبدئيا لدى الشخصيات الغير متحزبة المعيّنة على رأس الوزارات «السياسية». 3 لم تتأخر تداعيات الاعلان عن الحكومة الجديدة على التماسك الداخلي لأحزاب «الترويكا» عن البروز، إذ نسجل هنا بالخصوص: انشقاق الأمين العام لحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» وهو ثاني انشقاق في هذا الحزب بعد انسحاب السيد رؤوف العيادي ومجموعته، وفضلا عن زوجته، من المنتظر أن يجرّ السيد محمد عبّو وراءه العديد من اطارات ونشطاء هذا الحزب. ويظهر أن السيد محمد عبّو لم يكن جاهزا لتلقي الضربة القاضية التي تلقاها من داخل حزبه بتحالف أعضاء المكتب السياسي للحزب «المنصّبين» من طرف رئيس الجمهورية (عزيز كريشان وعدنان منصر وطارق الكحلاوي) مع أعضاء المكتب السياسي المعروفين بتقرّبهم من حركة «النهضة» (عماد الدايمي وسليم بن حميدان وعبد الوهاب معطر). توسع رقعة التململ والاستياء داخل ما تبقى من حزب «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، ولئن لاتزال تبدو قيادة هذا الحزب متماسكة فإن العديد من هياكلها الوسطى والقاعدية مرشحة لمزيد من التفكك خلال المرحلة القادمة. لا يمكن أن تمر أول استقالة في هذا الظرف من مجلس شورى حركة «النهضة» الصادرة عن السيد أمان اللّه الجوهري في الخفاء، فهذه الاستقالة تنضاف الى التراكمات الحاصلة صلب حركة «النهضة» بعد التصريحات الأخيرة المثيرة للشيخ عبد الفتاح مورو ومضامين نص استقالة السيد أبو يعرب المرزوقي من المجلس الوطني التأسيسي وآخر تلميحات الشيخ الحبيب اللوز للشيخ راشد الغنوشي بمناسبة تعليقه على بيان حركة «النهضة» بخصوص بعض ما جاء في الحوار الذي أدلى به الى احدى الصحف اليومية والمتعلق بختان البنات. يظهر في الأخير أن تصويت نواب حزب «المبادرة» لصالح الحكومة لم يكن مجانيا بالمرة، وقد يتفاجأ أنصار حركة «النهضة» قبل غيرهم بالكلفة السياسية المترتبة عن هذا التصويت خاصة في ما يتعلق بمشروع قانون تحصين الثورة في مضمونه وفي مآله بما يوحي بأن قيادة حركة «النهضة» تكاد تكون قد حسمت أمرها نهائيا في ضوابط وفي مقاييس تمييزها بين التجمعيين / الدساترة «الشرفاء والنظاف« وغيرهم من التجمعيين والدساترة «الغير شرفاء والغير نظاف».