التكهن بما ستِؤول إليه الأمور في المستقبل القريب صعبا خاصة في ظلّ التناحر السياسي بين الأحزاب مما جعل التونسيين يعيشون حالة من الحيرة والإنتظار المقلق خاصة أن الغموض يلف مستقبل الأزمة . «التونسية» حاولت تحليل مآل الأحداث الجارية في البلاد مع الدكتور رياض الصيداوي الباحث في العلوم السياسية والمتخصص في العالم العربي والحركات الإسلامية. حاورته : ريم بوقرة كيف تنظر إلى الأزمة السياسية في البلاد ؟ تعيش تونس الأزمة اقتصادية واجتماعية حادة جدا ورغم كل هذا الانشغالات منصبة على الإيديولوجي والسياسي وحتى النخب السياسية تتجاهل واقع البلاد من الناحية الإقتصادية في حين أن الشعب التونسي ثار على البطالة وعلى التهميش الإجتماعي وقد انطلقت هذه الثورة من بؤرة الفقر المدقع في تونس وذلك من سيدي بوزيد والمكناسي وتالة والقصرين وقبلها الرديف وكان حينها الشعار الأول الشغل. بعد ذلك نظمت انتخابات وفاز ائتلاف حاكم رغم انه من الناحية السياسية والإيديولوجية متناقض . الشيخ راشد الغنوشي قال حرفيا «لقد اخترنا اقتصاد السوق وذلك لا رجعة فيه» ثم قال إن الله غني ويحب الأغنياء ثم هدد الصادق شورو المتظاهرين في سليانةوسيدي بوزيد والقصرين بقطع الأيادي والأرجل .الإشكال أن الشعب التونسي عندما ثار كان الكيلوغرام من اللحم ب 10 دنانير واليوم أصبح سعره يفوق العشرين دينارا.أهداف الثورة من تشغيل لم تتحقق بل حدث انكماش اقتصادي على الصعيد الداخلي وانهارت القدرة الشرائية للمواطن وارتفعت الأسعار.لقد كانت كل الخيارات خاطئة ولقد تمت سرقة الثورة الإجتماعية ثورة الفقراء لصالح فئات جديدة لم تلتزم بمنهج الثورة لأن الثوار كانوا يريدون أمرا إسمه «الدولة الراعية إجتماعيا» وحتى وإن قبل الشعب بالرأسمالية فلا بد من توزيع الضرائب حسب الثروات .الحكومة الموجودة الآن لم تفعل ذلك بل ضاعفت من حدة الأزمة الإجتماعية والإقتصادية وأنهكت البلاد في صراعات سياسوية حزبية لا علاقة لها بالثورة لأن لا احد الآن يستطيع أن يقول أنه يمثل الثورة والترويكا الحاكمة لم تكن هي صاحبة الثورة ولم تساهم فيها . فقياداتها كانت في الخارج تنعم بحياة رغدة في باريس ولندن والدوحة وحين عادت وجدت كل شيء جاهزا . ماهي أسباب الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي في تونس حسب رأيك ؟ لم يتم التفطن للسلم الإجتماعي والحكومة الحالية لم تستجب لمطلب الثورة الإجتماعية وهي محاربة الفقر وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل عن طريق محاسبة الأغنياء وسياسة ضرائب عادلة . هناك اتجاه من الترويكا الحاكمة إلى التحالف مع الأغنياء واستقطابهم بدل محاسبتهم .على المستوى الدولي الحكومة الحالية وخاصة حركة «النهضة» وجدت حصارا كبيرا من قبل دول لم تقبل بها على غرار فرنسا التي طلبت من الإتحاد الأوروبي عدم مساعدة تونس . إذن الحكومة فشلت في الداخل ولم تستجب لتطلعات الفقراء أصحاب الثورة بل عادتهم وضربت حتى الطبقة المتوسطة وأصبحنا نتحدث عن انهيار فعلي للطاقة الشرائية .و فشلت الحكومة كذلك على المستوى الدولي حيث لم يساعدها احد وحتى صندوق النقد الدولي الذي قدم مساعدة بسيطة قدرت بمليار دولار فرض شروطا مجحفة منها التخلي عن الفقراء والزيادة في الأسعار وهو يريد أن يصبح ثمن الخبزة الواحدة أكثر من دينارين على غرار بعض الدول الأوروبية لأنه لا يقبل بالدعم .و كنا ننتظر أن تمد قطر يد المساعدة لكن لم تدخل أموال جادة منها حيث استثمرت في تونس سنة 2012 مبلغ 248 مليون دينار وهو مبلغ تافه بسيط جدا خاصة أن الاقتصاد التونسي يحتاج إلى 10 مليارات دولار ليقوم بعملية إقلاع حقيقية . لماذا وصلت الأزمة السياسية في تونس إلى هذا الحد؟ هي نتيجة لغياب الثقافة الديمقراطية لدى الجميع ونتيجة أيضا لعدم احترام الحكومة الحالية للمواعيد الإنتخابية وموعد الإنتهاء من كتابة الدستور .الحكومة لا تريد إنهاء كتابة الدستور ولكأنها تكتب في رسالة دكتوراه .هذا التمطيط في المجلس التأسيسي عمقته حكومة لم تحترم المبادئ الديمقراطية في تونس.المتفق عليه في كل ديمقراطيات العالم أن الديمقراطية تبدأ بالانتخابات المحلية إذ لا بد من انتخاب الوالي والمعتمد لا أن يعينوا ثم نصل إلى انتخابات المركز.في تونس حدث العكس فالبلاد مازالت تتعامل بمفهوم السلطنة العثمانية أي أن من يحكم تونس العاصمة ينصب أنصاره في كافة أجهزة الدولة وفي شتى المناصب وبالتالي من الناحية الديمقراطية كل الولاة والمعتمدين المعينين في تونس غير شرعيين . اللعبة أصبحت واضحة والحكومة الحالية تريد السيطرة على دواليب الدولة في غياب الثقافة الديمقراطية وهناك خلط منهجي في فهم 3 مصطلحات ألا وهي الحكومة والدولة والنظام . فالحكومة ليست الدولة ولا النظام ولا الحزب الحاكم .و هذا الأمر كان يعتمده بن علي حين كان يدمج بين كل المفاهيم والحكومة الحالية تسعى إلى إعادة نفس التجربة ودمج هذه المفاهيم الثلاثة بلا تمييز ومن يطالب بإسقاط الحكومة كأنه يطالب بإسقاط الدولة وهذا خطأ منهجي. فالدولة التونسية حدودها معروفة وشعبها معروف .تونس تعيش بثلث ديمقراطية وليس بديمقراطية كاملة. إن إسقاط الحكومات مسألة عادية جدا في كل الديمقراطيات. ففي إيطاليا على سبيل المثال في الثمانينات كل بضعة أشهر تسقط حكومة وتتشكل حكومة جديدة بينما الدولة مستمرة والإقتصاد مستمر والنظام الجمهوري الديمقراطي مستمر .إذن المطالبة بحل حكومة ليس بكارثة سياسية بل هو أمر طبيعي جدا في الديمقراطيات .فحينما تحدث أزمة حادة من المفروض أن تستقيل الحكومة وهي غير مقدسة في الديمقراطيات . تشبث الحكومة بالبقاء غير مبرر سيما وأنها فشلت على المستوى الأمني والإقتصادي والإجتماعي . المتفق عليه في كل الديمقراطيات أنه عند حدوث أزمة لا بد من تنظيم انتخابات قبل أوانها حتى يتم إعادة تجديد الشرعية الإنتخابية لكن الإشكال في تونس هو الحديث عن انتخابات لم تحترم المواعيد الإنتخابية وهو سبب كل هذه المشاكل علاوة على أن كل الخيارات السياسية والإقتصادية رديئة جدا . إن كل هذه المماطلة هي محاولة لإعادة نموذج التجمع الدستوري الديمقراطي ودولة بن علي. هل أن المعارضة التونسية قادرة على تقديم بديل جيد؟ تونس تملك نخبا جيدة على مستوى الإدارة والدولة ونحمد الله أنه لولا الإدارة التونسية التقليدية لانهار كل شيء .يمكن أن يطبق النموذج السويسري في تونس باعتبار تكوين حكومة وحدة وطنية بين الأحزاب الكبرى القوية .حتى وإن شكلت المعارضة حكومة فإن حركة« النهضة» وحلفاءها سيقومون بتعطيل مهامها ونعود إلى نفس الأزمة .إن الديمقراطية بكل بساطة مبنية على الوفاق ولا بد من تعاون كل الأطراف.الصندوق ليس مقدسا إلا في إطار الإتفاق والوفاق وهذا الأمر لم يفهم في تونس فهناك كما أسلفت حالة غياب للثقافة الديمقراطية لدى جميع الأحزاب تقريبا وهذا الأمر طبيعي لأن تونس في سنة أولى ديمقراطية لكن الخوف كل الخوف من إعادة الدكتاتورية بشكل جديد حتى وإن وصلت عن طريق الإنتخابات. وقد أعطانا التاريخ أمثلة عديدة عن دكتاتوريات أوصلها الصندوق إلى السلطة على غرار هتلر.إن الديمقراطية مبنية على دوران النخب في الحكم وتجديد الشرعية ,لكن التونسي يعاني خلطا كبيرا بين مفهوم الحكومة والدولة والنظام. تعيش البلاد هذا الأسبوع على وقع أحداث «أسبوع الرحيل »الذي يدعو إلى إقالة الحكومة وتشكيل حكومة إنقاذ وطني في ظل تمسك السلطة الحالية بمقاعدها فهل تظن أنه بالإمكان حدوث تصادم وإعادة السيناريو المصري في تونس لا سمح الله ؟ السيناريو المصري لا يمكن تكرّره في تونس نظرا لعدة أسباب منها طبيعة المؤسستين العسكريتين في مصر وفي تونس. فالجيش المصري هو في الواقع من أسس الجمهورية بعد أن قام بثورة 23 جويلية 1952 واسقط النظام الملكي وقد أفرز نخبا سياسية عسكرية تعمل في كل دواليب الدولة وقد خاض تجربة العمل السياسي وإدارة البلاد منذ أكثر من 60 سنة بالإضافة إلى أن هذا الجيش لديه وضع متميز اقتصاديا إذ انه يملك مؤسسات عملاقة وهو يدير ربع الإنتاج في مصر. الجيش التونسي لا يملك مثل هذه الخاصيات فمنذ الإستقلال تم إبعاده عن السياسة وميزانيته ضعيفة جدا ولم يتم الإهتمام به في عهدي بورقيبة وبن علي ولا يملك طموحات سياسية لذلك من المستبعد أن يعيد السيناريو المصري .لكن في حالة الفوضى العارمة بين الأحزاب السياسية بإمكان ان نرى السيناريو المصري في تونس سيما إن فشلت الأحزاب في التوافق حينها ستصبح المعارك في الشوارع بين الميليشيات وستسيل الدماء لا قدر الله وفي هذه الحالة القوة المسلحة هي الوحيدة التي تتدخل وسنكون حينها أمام مشكلة تواجد الأجهزة الأمنية الثلاثة أي الجيش والشرطة والحرس الوطني.و هذا الأمر سيكون في آخر مرحلة أي عندما تدخل البلد في فوضى تامة.و أقول أن هذا الأمر مستبعد فالأحزاب السياسية ربما تكون واعية حتى لا تصل إلى هذه المرحلة . كيف تقرأ التعيينات الأخيرة في الجيش التونسي ؟ على ما يبدو أن الترويكا الحاكمة سعت في السنتين الأخيرتين إلى إطالة مدة الحكم لتستطيع الهيمنة على أجهزة الدولة وفي اعتقادهم أن من يهيمن على المؤسسة العسكرية والأمنية يحافظ على السلطة بينما في الديمقراطيات المسألة العسكرية خاضعة لقانون البلد قبل السلطة السياسية بما معناه أن هذه القوات لو تلقت أوامر ضد الدستور والقانون لن تنفذها. في الديمقراطيات العريقة جسم الدولة يتكون من التكنوقراط وهم يعملون مع كافة السياسيين ولا يتغيرون مع تغير الأنظمة فالإدارة لا بد لها أن تكون مستقرة.و أقول أن كل الولاة والمعتمدين الذين عينوا غير شرعيين بالمعنى الديمقراطي إذ لا توجد ديمقراطية في العالم تعين السلطة المحلية . كيف ينظر الغرب الى تونس اليوم ؟ بالنسبة لأوروبا الغربية ثمة مخاوف من فشل التجربة التونسية باعتبار أن التجربة المصرية انتهت إلى مطب وهناك انقسام كبير في اعتبار الحركات الإسلامية ديمقراطية وشمولية في جوهرها وبين من يرى أنها لن تقبل باللعبة الديمقراطية .إذن هناك تردد وانقسام في التعامل معها . هل أن ما يحدث في الشعانبي وفي تونس عموما يعد إرهابا مكتمل المعالم ومستفحل في كل البلاد وبإمكانه الإستمرار لسنوات طوال؟ من الناحية السوسيولوجية وكعالم سياسة مختص في هذا المجال أقول أن معالم الإرهاب في تونس واضحة أولها دخول السلاح من ليبيا وهذا عامل موضوعي خارج عن إرادة التونسيين وفوضى السلاح في ليبيا تؤثر سلبا على العملية الديمقراطية وعلى الإرهاب في تونس .و الأمر الذي تورّط فيه جزء من الحكومة التونسية وجزء من النهضة هي سوريا فقد أرسلوا إليها شبابا تونسيا مسالما ليرجع بعد ذلك إرهابيا .هم شباب تم غسل أدمغتهم من قبل شيوخ وعلى أجهزة الإستخبارات التونسية البحث في هذه الأمور . وعندما سمعت تصريح وزير الداخلية حينما قال إنهم منعوا قرابة 5 آلاف تونسي من الذهاب إلى سوريا تساءلت عمّن مولهم ومن جندهم وقد وردت مؤخرا معلومات تفيد أن إسرائيل تتولى تدريب المقاتلين في سوريا أي أن كل من يسافر لما يسمى الجهاد في سوريا يعمل لصالح أمريكا وإسرائيل ويتم تجنيدهم بغباء شديد.إن شبكات تجنيد الشباب التونسي شبكات إرهابية خارجية تعمل على تجنيد شباب مغفل مريض نفسانيا .ووزارة الداخلية لم تحارب هذه الشبكات علاوة على أن الخطاب في تونس أصبح خطابا عنيفا وهناك أيمة يدعون إلى القتل, وبلعيد والبراهمي قتلا بالكلمة قبل الرصاصة.و الدعوات إلى القتل كثيرة جدا على الفايسبوك. تونس لم تنتج قوانين لمكافحة الإرهاب باسم الدين أو أية إيديولوجيا أخرى .كل هذه العوامل ووجود السلاح والأزمة الإقتصادية والإجتماعية قنبلة موقوتة بإمكانها إدخال البلاد في دوامة الإرهاب المزمن الذي لن تستطيع البلاد تحمله مدة أطول.