بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفعولٌ بهم
نشر في باب نات يوم 18 - 02 - 2016


بقلم حامد الماطري
بالرّغم من خلفيّتي اليساريّة (يسار الحقيقي، يسار العدالة الاجتماعية التّقدمي،ذلك المنسجم مع محيطه و مع ثقافته، لا يسار الكافيار و عقد الانتساب و شيزوفرينيا الهويّة)، لاتزال الكثير منالمصطلحات والمفاهيم التي أصبحنا نستعملها في تونس منذ الثورة عصيّة على فهمي، و إن كانت متداولة بكثرة في وسائل الإعلام، نكرّرها جميعاً من دون امعان...
ماذا تعني مثلاً كلمة "معطّلون عن العمل"؟
ما معنى ان تكون "معطّلاً عن العمل"؟؟ صيغة المفعول به تقترح انّ يكون المعني بالأمر هو أصلاً صاحب عمل و لكن وقع "تعطيله" عن القيام به. او انه -على الأقلّ- توصّل الى الحصول على موطن شغل، اثبت جدارته به، لكن هم (من هم؟) عطّلوه... "الغير"، المبني للمجهول، هو الذي منعه من العمل...أمّا "بطل القصّة"، فهو ليس حاملاً لأيّ مسؤولية في الموضوع.
لا يجادل أحدٌ في أن الاختيارات التربوية و الاقتصادية و التّنمويّة الفاشلة هي التي تسببت في انتاج جيل كامل من خرّيجي الجامعات، يحمل كثير منهم شهادات لا يمكن تصريفها بشكل عمليّ في سوق الشغل، و يفتقر كثير منهم الى القيمة العلميّة و الثّقافيّة التي يفترض ان توفره إياها هاته الشهادة، بل أنّه كثيراً ما يكون صاحب الشّهادة الجامعيّة في حاجة الى دورات اضافيّةمن التّكوين حتّى يصير مؤهّلاً لبعث مشروع أو حتى لطلب شغل يفترض أنّه أصلاً في صلب تكوينه.
كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر مسؤوليّة العديد من الخيارات العموميّة، الفكرية أو السياسية، في انتشار الوظائف الهشة، و في الحؤول دون تحقيق تقدّم اقتصادي حقيقي يحلّ -و لو جزئياً - مشكلة البطالة.. و لا نجادل قطعاً في أن الفساد و المحسوبية، و عدم تطبيق القانون، كانوا قد أسهموافي تفاقم الوضع، و في وأد أحلام المهمّشين، و نسف أملهم في التّغيير و في تحقيق واقع أفضل...
في المقابل، لطالما تراوح الخطاب في تونس، سياسيّاً كان او اجتماعيّاً (أو حتى كرويّاً)، بين الوعود السّخيّةو تبسيط المشاكل وقت الحملات الانتخابيّة و التّعبئة، و من ثمّ خطاب "الواقع المرّ"، التّبريرات، و استجداء الصّبر،مباشرةً بعد تسلّم المسؤوليات... مع تقلّد المسؤوليّة يتغيّر المزاج، و تتغيّر معه قراءةالأمور، فينفض المسؤول ثوب الثّوريّة، و يأخذ مسافة مع الواقع لينغمس في بيروقراطيّات الادارة.و تجده يردّد ذات الاحصائيّات الرّكيكة و الجمل المركّبة التي كان هو نفسه يرفضها في السّابق، تلك التي يصّرّف اغلبها في المستقبل...
ثنائيّة الكذب و الفساد منعت بلادنا على مرّ عقود من تحقيق نهضة اقتصادية و اجتماعية حقيقية، كانت تبدو في المتناول. للأسف، سقطت أكثر محاولات النّهضة الفكريّة و الاقتصاديّة في بلادنا تحت وطأة الحسابات الشخصية و القطاعية و الجهوية الضيقة، و تغلّبت منظومات المحسوبية و الفساد مراراً على كل الشعاراتالبرّاقة و الوعود و صكوك التّوبة التي تملأ السماء مع كلّ أزمة، و التي اشترت بها منظومة الحكم"تعقّل الشارع و صبره" لوقت طويل.
لكن، هل يكفي هذا لتبرير فوضى الاحتجاج أو أن يقع رهن الدّولة و مقدّراتها من طرف كلّ غاضب أو صاحب مطلب؟
لا شكّ في ان سياسة الدّولة أثّرت في واقع المواطنين و مصائرهم، و من السهل القول بأن المسؤولية تقع على طبقة سياسية لم تزل تثبت فشلها منذ عقود. الاكتفاءبمثل هذه القراءات السطحيةلا يصلح الا للسجالات و المقارعات (و ما أكثر هواة المقارعات بيننا) و لا بدّ من مقاربة فلسفيّة و نفسيّة فيتشخيص الوضع في تونس.
الواقع الذي نرفض مواجهة أنفسنا به، هو تبنّي التونسيّين جميعاً مواطنين و نخباً-في علاقتهم بدولتهم، لمقاربةٍ "ريعيّةٍ" خالصة، عمادهاالتنصّل من المسؤوليّة، و رمي الكرة باستمرار في ملعب "الدّولة" كامتداد لما هو مبني الى المجهول.
البطالة مثلاً، و سواء كانت مؤقّتةً أو مطوّلة، هي بالأساس فشل شخصي قبل كلّ شيئ.. فشل ينطلق من الخيارات الدراسية و ينتهيبعدم القدرة على التكيّف مع العراقيل و الصّعوبات الذي يتعرّض لها الباحث عن عمل.
عندما اختارت تونس تعليم أبنائها منذ الاستقلال، فهي لم تبرم معهم عقداً خصريّاً بوجوب تشغيلهم...كانت الفكرة بالأساس هي أنّ الشّابّ المتعلّم هو أقدر على الابتكار و التّكيّف مع تحدّيات سوق الشّغل و التّعامل مع الظّروف الصّعبة.. و هو من المفروض أن يكون بعقله المتفتّح قادراً على تحمّل قدر أكبر من المسؤوليّة في ايجاد حلول لنفسه، عبر بعث المشاريع الصّغرى، أو تطويع نفسه و تكوينه للتلاؤم مع متطلّبات سوق الشّغل و حاجيّاتها في محيطه.
لا أنكر مسؤوليّة الدّولة في البحث عن حلول لدفع ديناميكيّة التشغيل، و من أجل تنمية المناطق المهمّشة لتحسين فرص التشغيل هناك، هذا ممّا لا جدال فيه. و لكن عدم الاستعداد لتحمّل و لو "جزء من المسؤوليّة" في ما هو بالأساس فشل و قصور شخصي، فهذا لا يبدو بالنّسبة لي حالةً صحّيّة أو موقفاًيستحقّ الدّعم.
منذ أيّام، و على هامش تحرّك الأمنيين المعزولين (الكثير منهم متورّط في تجاوزات خطيرة كسرقات أو تهريب) لاعادتهم الى السّلك الأمني، حضر أحد هؤلاء الأمنيين الى أحد بلاتوهات التلفزة، و قضّى مدّة الحوار يراوح بين المسكنة و الشّكوى للأوضاع الانسانيّة الصّعبة التي انجرّت عن تسريحهم، ثمّ التّلويح (أو التّهديد المبطّن) بخطر استقطاب هؤلاء من قبل الحركات الارهابيّة! أليس مثل هذا الابتزاز حريّاً باعادة صاحب هذا الخطاب الى السّجون بتهمة ارهاب المواطنين، بدل مناقشة عودته الى منصبه في السّلك الأمنيّ؟
لنا في بعض من العاطلين عن العمل في بعض مناطق الجنوب المعنيّة بالتهريب مثال صارخ... فالشّاب المتورّط في التهريب يبرّر سلوكه بانعدام فرص الشغل في منطقته، و لكن العديد من هؤلاء لا يعتبر نفسه معنيّاً بوظيفة أو "شغل طبيعيّ" على اعتبار أن "شهريّته" لن تضاهي ما يجنيه في يوم واحد من التهريب..!
من اللافت للنّظركيف سقط الجميع في حمّى "المطالبة"، و كيف أصبح الجميع يرى نفسه في صورة المحتاج و الأجدر بالعون و الرّعاية، ثمّ كيف تحوّل خطاب "الاستجداء" بعد الثورة و بعد سقوط حاجز الخوف، الى خطاب مطالبة عنيف و متشنّج..أي أن العمليّة أصبحت عبارة عن إنقضاض محموم على جسد "الدّولة"، و عمليّة نهب و قطع طريق مقنّعة، ينفّذها الكلّ، سواء كان ذلك بوعي أو من دون وعي، متشجّعين بكونه أصبح ظاهرة جماعيّة شبه شاملة.
و بقدر ما يذهلك حجم الانتظارات التي لا تنتهي من "الدّولة"، تصدمك موجة الجحود تجاههها، تلخّصها ربّما عبارة:"هذه الدّولة لمتعطني (أو تعطنا) شيئاً". عبارة كانت صادمة في البداية، حتّى تعوّدت عليهامسامعنا تدريجيّاً. و صرنا لا نسمعها فقط من قبل "المحتاجين" أو "أصحاب المطالب"، بل أصبحت دارجةً على لسان مثقفين و اطباءو موظفين و فنانين و رياضيين.. يعبّرون بها عن تذمّرهم من مستوى الخدمات التي تقدّمها الدّولة لهم، أو من حجم الواجبات (الأداءات) التي تفرضها عليهم...
لنا حقّاً أن نستغرب مثل هذا الجحود و نكران الجميل، اذ ينكر هؤلاء حقّ المجتمع عليهم اذ رعاهم و حماهم، ثم درّسهم –و ربّما فضّلهم على غيرهم- حتى يصبحوا اليوم على ما هم عليه من المستوى العلمي أو المالي أو الاجتماعي.
حين يصبح النجاح شخصيّاً، يدفع التونسي الى أن يبحث عن السّبل للتّهرّب من مشاركة غلّته مع المجتمع (عبر العمل الاجتماعي أو حتّى عبر دفع الضرائب)، بينما يقع الرّميبمسؤوليّة الفشل كاملةً على الدّولة (سواء من ناحية الأسباب التي قادت للفشل، أو من ناحية تحمّل تبعاته) فهذا يعكس خللاً حقيقيّاً في المفهوم الفلسفي للدّولة عند التّونسيّ، و منطقاً جماعيّاً مريضاً يقوم على الأنانية و الانتهازيّة في علاقتنا بالمجتمع.
يبدو أنّ التونسي غير قادر على استيعاب مفهوم الدّولة في صيغتها الديمقراطيّة، التّشاركيّة و المسؤولة، و يرفضأن ينظر لنفسه في صورة المواطن الفاعل، و هومصمّم –اختياراً- علىالتّشبّث بصفة الرّعيّة في علاقته مع الدّولة...
أنا لا أنكر على الشباب العاطل أو للمهمّشين سعيهم في تحسين وضعيّاتهم و ايجاد حلّ لكمّ المشاكل المركّبة التي يقبعون فيها. و لكنني أقول أن الحلّ لا يمكن أن يبدأ بالتنصّل من أيّ مسؤوليّة و اعتبار "مشكلتي" عهدةً في ذمّة الدّولة و مسؤوليها.
شخصياً، لا أوافق السّياق العامّ في تحميل المسؤولية حصراً الى الطبقة السياسية، قبل الثورة او بعدها، فهي -شأن التّونسيّ نفسه-نتاج طبيعيّ لخلفيّة فكرية و ثقافية بالأساس. السّياسيّون هم كباقي القطاعات، فيهم الوطنيّ و الصّادق، و فيهم الفاسد و الكاذب، و لكن اختيارات التونسي هي التي أتت بمن هم في الحكم، باليوم أو بالأمس.
لا يسعنيإلّا ان احمّل التونسي جزءاً كبيراً من المسؤوليّة، فهو الذي يؤمن بمقولة "تبّع السّارق لباب الدّار"، و كانّي به يبحث عن "شمّاعة" يعلّق عليها مسؤولية خيباته، اكثر من بحثه عن عملية حقيقية و جديّة للاصلاح.
الكذب هو ليس فقط كذب السياسيين و المسؤولين، بل هو ايضاً كذب المواطنين على انفسهم.التونسي، و ان كان ضحية الكذب و التسويف، فهوه على الأقل مسؤولٌ على كونه يأبى إلا أن يصدّق الكاذب و إن جرِّب، و يفضّل دائماًالاعتماد على الآخر، أو تحميل المسؤوليّة على الآخر...
ثقافتنا هي ثقافة "عشرة الحاكم".. تلك التي تدفعنا إلى بذل أقلّ مجهود ممكن و تمنعنا من السّعي للتّميّز أو الابداع أو التّفوّق على الذّات. نحن لا نحبّ مراجعة النّفس أو الاعتراف بالتّقصير، بل نفضّل لعن الحكّام و شتم المسؤولين و الاختباء وراء شتّى الأعذار..
ثقافتنا هي ثقافةالربح السّهل من تجارة إلى "قشارة"، إلى تسوّل، أو حتّى تحيّل...
ثقافة"رزق الحاكم" و "البيليك"..
ثقافة "المفعول به" دائماً...
نحن فقط تطوّرنا من مرحلة الاستجداء الى مرحلة المطالبة، الى مرحلة الافتكاك، و هوللأسف ليس بالتّطوّر الايجابيّ.
سنة 2013، قمت بتحليل دراسة احصائية قام بها مركز امريكي متابع للشان التونسي (IRI)، و فتحت عيناي وقتها على واقع ثقافي مؤلم... باختصار يقول سبر الآراء هذا وقتها ان اغلب التونسيين يضعون الشأن الاقتصادي و القدرة الشرائية و مسالة البطالة على رأس الاولويات في تونس..أغلب العاطلين عن العمل "يفضّلون" الوظيفة العمومية... بينما تعتقد ذات الشّريحة المستجوبة من العاطلين عن العمل –و في الوقتنفسه- أن حلّ مشكلة البطالة يكمن في تمكين الدولة للشباب من منح و قروض تمكّنهم من ارساء مشاريعهم الخاصة!
امّا في الحلول الاقتصادية الوطنية، فيكاد يجمع المستجوبون ان الحلّ الامثل يكمن في دعم اجنبي يقدّم تمويلات واسعة لتونس!! أي أنّ التّواكل و عقليّة "هات يدّك نحنّيلك" يكاد يكون العنوان الرّئيس لقراءة التونسي لعلاقته بالدّولة، بل و بالعالم بأسره! ما الذي يجعلنا نعتقد أننا نستطيع تحصيل الهبات (من الدّولة أو من الخارج) من دون مقابل و الى ما لا نهاية؟
نحن "نطالب" الدّولة بكل شيء تقريباً.. نطالبها بالرّعاية الصّحّيّة و التّعليم و البنية التّحتيّة و كفالة المعوزين... لكننا لا نحبّ دفع الضرائب، و نجتهد فيالتّهرّبمن الجباية، يتساوى في ذلك أصحاب المهن بأصحاب المليارات.
نحن نحاول باستمرار أن نتحدّى القوانين و أن نتحايل على المسالك الطّبيعيّة. نشجب الفساد كثيراً، و لكننا سريعاً ما نجد لأنفسنا التّبريرات لدفع رشوة (أو قبول رشوة) ما إن وجدنا أنفسنا تحت الضّغط.
نحن ندرك أن التّهريب ينخر الاقتصاد، و لكنّنا نتعاطى التّهريب و نبرّره، و نشتري السّلع المهرّبة من دون حرج..
نحن نعيش مسرحيّة كبرى تحت سقف مفتوح، فكما العاطلون مدركون أنّ الدولة غير قادرة على استيعاب الجميع، و لكنّهم يواصلون القفز في قارب هو أصلاً آخذ في الغرق..كذلكتستجيبلهم الدّولة بوضع استراتيجيّات و آليّات سخيفة و مستهلكة، يدرك الجميع، و أصحابها في المقدّمة، أنها مجرّد مسكّنات غير قادرة على حلّ المشكل، لا جذريّاً و لاجزئيّاً.
ثقافة التواكل و الطمع و عدم تحمل المسؤولية، لن تلبث الا ان تتحوّل بنا إلى الانتهازيّة ثم الى اللّصوصية، انتهاء بثقافة قطع الطرق، و كم آسف و انا اعاين اننا قد قطعنا بالفعل شوطا في هذه الطريق... و في الأثناء يتجنّب الجميع الخوض في أصل الدّاء الذي لا يختلف عليه اثنان: الفساد...ربما لأنّه أصبح رياضة وطنيّة أولى في تونس، يكاد يتعاطاها الجميع.
لا يمكن لدولة ينخر جسدها الفساد كحالبلادنا أن تدوم... و علينا الآن أن نختار: إمّا أن نغسل وجوهنا بماء بارد و نبدأ حالاً في الاصلاح، اصلاح الجباية و اصلاح الادارة و اصلاح الماليّة العموميّة و اصلاح المنظومات التّربويّة و التّكوينيّة، و إصلاح المؤسّسات...لا بدّ أن نعيد للعمل قيمته، و للقانون هيبته، و ننطلق في حملة تطهير ضدّ الفساد و الفاسدين.
إمّا هذا أو أن نستعدّ للسّقوط الحرّ، و الذي لا بدّ أن ينتهي بطريقة مؤلمة.
أعلم أن كلامي هذا في أغلب جوانبه لا يأتي بجديد، و أن الكثيرين يجدون التّشخيص بديهيّاً، و لكنّهم ينتظرون أن أقدّم لهم وصفة الحلّ السّحريّة... الحلّ بسيط بقدر ما هو مركّب، و يجب أن يتشارك فيه الجميع، السّياسيّ و المواطن.
أولاً لا بدّ من تنقية المشهد السّياسيّ من الأوليغارشيا و من الشّعبويّات، و أنا أنظر هنا الى المعارضة الديمقراطيّة الاجتماعيّة المشتّتة، أن تنفض المشاكل الزّعاماتيّة الضيّقة و توحّد جهودها في تقديم طرح جديد، و هي تتحمّل اليوم مسؤوليّة تاريخيّة تفرضها عليها مرجعيّتها النّضاليّة ضدّ الفساد و الاستبداد. لا بدّ أن يجدالتّونسيّونَ بديلاً سياسيّاً كاملاً و متكاملاً، يصارحهم و لا يتردّد في مجابهتهم بالحقيقة، يقدّم العمل و الكدّ كعمادلبنياننا المجتمعي، بديلاً سياسيّاً يدعم التراحم و الايثار و ثقافة المصير المشترك، و يحارب الأنانيّة و الانتهازيّة و الفساد.
لقد كلّفتنا الخطابات و البرامج الشّعبويّة الكثير على امتداد العقدين الأخيرين، و قد بدأت العجلة في التّوقّف تحت وطأة التّكلّس الإداري و الاجتماعي، و هي لن تعود للدّوران بمجرّد "التّفاؤل". المسألة ليست مرهونة بهويّة الأحزاب، بقدر ما هي مقترنة بالتّوجّهات التي تقرّر المسير فيها، و بثباتها على هذه الخيارات. تحتاج تونس إلى مسار مستدام لا يكون مرهوناً الى دعم مراكز النفوذ. مسار واضح المعالم و الأهداف، يخلق على الأقلّ ديناميكيّة ايجابيّة تمهّدنا للاقلاع.
و على التّونسيّ أيضاً أن يتحمّل مسؤوليّته في حسن اختيار ممثّليه...فإذا واصلنا التّطبيع الشّعبي مع انتشار الفساد في المنظومة السّياسيّة،و اخترنا أن نصطنع الغباء في تصديق الوعود الفارغة، فلن يكون مصيرنا مختلفاً عن كثير من الدّول الافريقيّة الفاشلة.
منذ عقود، نحن نعيش شيزوفرينيا فريدة... من المعلوم أن تونس انخرطت في اقتصاد السوق بشكل تدريجيٍّ منذ السّبعينات، لكننا لازلنا نعتمد خطاباً، و مقاربة، و منظومات ادارية و قانونية اقرب الى الاقتصاد المغلق و "الدّولة المعيلة". نحن نحبّ مظاهر الليبرالية من مجتمع استهلاكي و إنفاق و كماليّات، لكننا نكره المغامرة، و نريد سياسة اجتماعية تحمينا، تتكفّل بنا و ترعانا... نحن اذا نظرنا إلى سعر البنزين، نتذمّر و نقارن أنفسنا بليبيا و الجزائر، بينما اذا تحدّثنا عن جودة الخدمات، نتذمّر أيضاً و نقارن أنفسنا بأوروبا...نحن نحبّ أن ندّعي البحبوحة، و نفترض أن "خزائننا المخبّأة" لا تنبض، و أيّاً كان السّياق، نرفض أن نعترف بحقيقة كوننا بلداً فقيراً، و أنّ العمل يبقى سبيلنا الوحيد لتغيير واقعنا، مجتمعاً أو أفراد.
الحلّ بالنّسبة لي هو في الوعي بحساسيّة الموقف. كلمة السّرّهي تطبيق القانون، و الوصفة السّحريّة هي العمل.و على الجسد المريض أن يأخذ ما يحتاج من الوقت ليبرأ من أمراضه و ينقّي نفسه من السّموم التي تنتشر في عروقه، قبل أن يستعيد عافيته و يصبح قادراً لمجابهة ما أمامه من تحدّيات. و هذا ما لا مناص من أن يدركه و يتّحد حوله كلّ التونسيّون، ابتداءً بأصحاب المطالب.. ما نيل المطالب بالتمنّي، و هو قطعاً ليسبالصّراخ أو بالصّرعات الطّفوليّة.
أجد تشابهاً كبيراً بين تطوّر التونسي في سلوكيّاته و الطفل المدلّل، الذي كبر و تحوّل من رضيع مسلوب الارادة، إلى طفل يبحث عن ذاته، الى مراهقة مشوّشة متمرّدة. الواقع هو أنّ مسلك الهروب الى الأمام الذي سرنا فيه لعقود قد بلغ اليوم آخره، و لا بدّ من توضيح التّوجّه و الانخراط في برنامج جماعي من أجل النّهوض بالبلاد. و لا بدّ حتماًللتونسي أن يكبر و أن يمرّمن مراهقته المتأخّرة الى مرحلة الرّشد و المسؤوليّة.
Publié le: 2016-02-18 10:05:59


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.