موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    عاجل/ مصدر مأذون من رئاسة الجمهورية: سيتمّ اتّخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدّ هؤلاء..    قفصة: حجز كميات من لحوم الدواجن في مخازن عشوائية قبل رأس السنة    وداعًا لأسطورة الكوميديا الأمريكية بات فين    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة: برنامج مباريات الجولة العاشرة    مدرب منتخب الكاميرون: "حققنا الفوز بفضل القوة الذهنية والانضباط التكتيكي"    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    الدورة العاشرة من المهرجان الدولي للابداع الثقافي من 26 الى 28 ديسمبر الجاري    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    السجن لطالب بتهمة ترويج المخدرات بالوسط الجامعي..#خبر_عاجل    عاجل/ انتشال جثامين 14 شهيدا فلسطينيا من تحت الأنقاض في خان يونس..    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    صامويل تشوكويزي: كأس افريقيا يجب أن تحظى بنفس درجة إحترام كأس العالم    هذه أقوى عملة سنة 2025    لكلّ تونسي: مازال 5 أيّام اكهو على آخر أجل بش تخلّص ''الزبلة والخرّوبة''    عاجل: عاصفة مطرية وثلوج تتجه نحو برشا دُول عربية    كيفاش نقول للآخر ''هذا الّي قلّقني منّك'' من غير ما نتعاركوا    تحذير خطير للتوانسة : ''القفالة'' بلا ورقة المراقبة يتسببلك في شلل و نسيان    عاجل/ كأس أمم أفريقيا: الاعلان عن اجراء جديد يهم جميع المباريات..    الاتحاد الإنقليزي يتهم روميرو بسوء التصرف بعد طرده أمام ليفربول    سهرة رأس العام 2026.. تفاصيل حفل إليسا وتامر حسني في هذه الدولة    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    عاجل: تقلبات جوية مرتقبة بداية من هذا التاريخ    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    نيجيريا: قتلى وجرحى في هجوم على مسجد    بداية من اليوم: تحويل حركة المرور في اتّجاه المروج والحمامات    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    قرار لم يكن صدفة: لماذا اختار لوكا زيدان اللعب للجزائر؟    مصر.. دار الإفتاء تحسم الجدل حول حكم تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد    عاجل : اليوم نشر القائمة الاسمية لرخص'' التاكسي '' بأريانة بعد شهور انتظار    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    عاجل: توافد حالات على قسم الإنعاش بسبب ال GRIPPE    بعد حادثة ريهام عبد الغفور.. نقابة المهن التمثيلية تعلن الحرب على مستهدفي نجوم مصر    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    اليوم العالمي للغة العربية ... الاحتفاء بلغة الضاد ضرورة وطنية وقومية لحماية الهوية الثقافية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    تحت شعار «إهدي تونسي» 50 حرفيّا يؤثّثون أروقة معرض هدايا آخر السنة    نجاح عمليات الأولى من نوعها في تونس لجراحة الكُلى والبروستاتا بالروبوت    الليلة: الحرارة تترواح بين 4 و12 درجة    هيئة السلامة الصحية تحجز حوالي 21 طنا من المواد غير الآمنة وتغلق 8 محلات خلال حملات بمناسبة رأس السنة الميلادية    تونس 2026: خطوات عملية لتعزيز السيادة الطاقية مع الحفاظ على الأمان الاجتماعي    اتصالات تونس تطلق حملتها المؤسساتية الوطنية " تبرّع المشجعين"    الديوانة تكشف عن حصيلة المحجوز من المخدرات خلال شهري نوفمبر وديسمبر    القصور: انطلاق المهرجان الجهوي للحكواتي في دورته الثانية    تزامنا مع العطلة المدرسية: سلسلة من الفعاليات الثقافية والعروض المسرحية بعدد من القاعات    عاجل/ بعد وصول سلالة جديدة من "القريب" إلى تونس: خبير فيروسات يحذر التونسيين وينبه..    حليب تونس يرجع: ألبان سيدي بوعلي تعود للنشاط قريبًا!    تونس: حين تحدّد الدولة سعر زيت الزيتون وتضحّي بالفلاحين    صفاقس: تركيز محطة لشحن السيارات الكهربائية بالمعهد العالي للتصرف الصناعي    مع بداية العام الجديد.. 6عادات يومية بسيطة تجعلك أكثر نجاحا    دعاء السنة الجديدة لنفسي...أفضل دعاء لاستقبال العام الجديد    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفعولٌ بهم
نشر في باب نات يوم 18 - 02 - 2016


بقلم حامد الماطري
بالرّغم من خلفيّتي اليساريّة (يسار الحقيقي، يسار العدالة الاجتماعية التّقدمي،ذلك المنسجم مع محيطه و مع ثقافته، لا يسار الكافيار و عقد الانتساب و شيزوفرينيا الهويّة)، لاتزال الكثير منالمصطلحات والمفاهيم التي أصبحنا نستعملها في تونس منذ الثورة عصيّة على فهمي، و إن كانت متداولة بكثرة في وسائل الإعلام، نكرّرها جميعاً من دون امعان...
ماذا تعني مثلاً كلمة "معطّلون عن العمل"؟
ما معنى ان تكون "معطّلاً عن العمل"؟؟ صيغة المفعول به تقترح انّ يكون المعني بالأمر هو أصلاً صاحب عمل و لكن وقع "تعطيله" عن القيام به. او انه -على الأقلّ- توصّل الى الحصول على موطن شغل، اثبت جدارته به، لكن هم (من هم؟) عطّلوه... "الغير"، المبني للمجهول، هو الذي منعه من العمل...أمّا "بطل القصّة"، فهو ليس حاملاً لأيّ مسؤولية في الموضوع.
لا يجادل أحدٌ في أن الاختيارات التربوية و الاقتصادية و التّنمويّة الفاشلة هي التي تسببت في انتاج جيل كامل من خرّيجي الجامعات، يحمل كثير منهم شهادات لا يمكن تصريفها بشكل عمليّ في سوق الشغل، و يفتقر كثير منهم الى القيمة العلميّة و الثّقافيّة التي يفترض ان توفره إياها هاته الشهادة، بل أنّه كثيراً ما يكون صاحب الشّهادة الجامعيّة في حاجة الى دورات اضافيّةمن التّكوين حتّى يصير مؤهّلاً لبعث مشروع أو حتى لطلب شغل يفترض أنّه أصلاً في صلب تكوينه.
كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر مسؤوليّة العديد من الخيارات العموميّة، الفكرية أو السياسية، في انتشار الوظائف الهشة، و في الحؤول دون تحقيق تقدّم اقتصادي حقيقي يحلّ -و لو جزئياً - مشكلة البطالة.. و لا نجادل قطعاً في أن الفساد و المحسوبية، و عدم تطبيق القانون، كانوا قد أسهموافي تفاقم الوضع، و في وأد أحلام المهمّشين، و نسف أملهم في التّغيير و في تحقيق واقع أفضل...
في المقابل، لطالما تراوح الخطاب في تونس، سياسيّاً كان او اجتماعيّاً (أو حتى كرويّاً)، بين الوعود السّخيّةو تبسيط المشاكل وقت الحملات الانتخابيّة و التّعبئة، و من ثمّ خطاب "الواقع المرّ"، التّبريرات، و استجداء الصّبر،مباشرةً بعد تسلّم المسؤوليات... مع تقلّد المسؤوليّة يتغيّر المزاج، و تتغيّر معه قراءةالأمور، فينفض المسؤول ثوب الثّوريّة، و يأخذ مسافة مع الواقع لينغمس في بيروقراطيّات الادارة.و تجده يردّد ذات الاحصائيّات الرّكيكة و الجمل المركّبة التي كان هو نفسه يرفضها في السّابق، تلك التي يصّرّف اغلبها في المستقبل...
ثنائيّة الكذب و الفساد منعت بلادنا على مرّ عقود من تحقيق نهضة اقتصادية و اجتماعية حقيقية، كانت تبدو في المتناول. للأسف، سقطت أكثر محاولات النّهضة الفكريّة و الاقتصاديّة في بلادنا تحت وطأة الحسابات الشخصية و القطاعية و الجهوية الضيقة، و تغلّبت منظومات المحسوبية و الفساد مراراً على كل الشعاراتالبرّاقة و الوعود و صكوك التّوبة التي تملأ السماء مع كلّ أزمة، و التي اشترت بها منظومة الحكم"تعقّل الشارع و صبره" لوقت طويل.
لكن، هل يكفي هذا لتبرير فوضى الاحتجاج أو أن يقع رهن الدّولة و مقدّراتها من طرف كلّ غاضب أو صاحب مطلب؟
لا شكّ في ان سياسة الدّولة أثّرت في واقع المواطنين و مصائرهم، و من السهل القول بأن المسؤولية تقع على طبقة سياسية لم تزل تثبت فشلها منذ عقود. الاكتفاءبمثل هذه القراءات السطحيةلا يصلح الا للسجالات و المقارعات (و ما أكثر هواة المقارعات بيننا) و لا بدّ من مقاربة فلسفيّة و نفسيّة فيتشخيص الوضع في تونس.
الواقع الذي نرفض مواجهة أنفسنا به، هو تبنّي التونسيّين جميعاً مواطنين و نخباً-في علاقتهم بدولتهم، لمقاربةٍ "ريعيّةٍ" خالصة، عمادهاالتنصّل من المسؤوليّة، و رمي الكرة باستمرار في ملعب "الدّولة" كامتداد لما هو مبني الى المجهول.
البطالة مثلاً، و سواء كانت مؤقّتةً أو مطوّلة، هي بالأساس فشل شخصي قبل كلّ شيئ.. فشل ينطلق من الخيارات الدراسية و ينتهيبعدم القدرة على التكيّف مع العراقيل و الصّعوبات الذي يتعرّض لها الباحث عن عمل.
عندما اختارت تونس تعليم أبنائها منذ الاستقلال، فهي لم تبرم معهم عقداً خصريّاً بوجوب تشغيلهم...كانت الفكرة بالأساس هي أنّ الشّابّ المتعلّم هو أقدر على الابتكار و التّكيّف مع تحدّيات سوق الشّغل و التّعامل مع الظّروف الصّعبة.. و هو من المفروض أن يكون بعقله المتفتّح قادراً على تحمّل قدر أكبر من المسؤوليّة في ايجاد حلول لنفسه، عبر بعث المشاريع الصّغرى، أو تطويع نفسه و تكوينه للتلاؤم مع متطلّبات سوق الشّغل و حاجيّاتها في محيطه.
لا أنكر مسؤوليّة الدّولة في البحث عن حلول لدفع ديناميكيّة التشغيل، و من أجل تنمية المناطق المهمّشة لتحسين فرص التشغيل هناك، هذا ممّا لا جدال فيه. و لكن عدم الاستعداد لتحمّل و لو "جزء من المسؤوليّة" في ما هو بالأساس فشل و قصور شخصي، فهذا لا يبدو بالنّسبة لي حالةً صحّيّة أو موقفاًيستحقّ الدّعم.
منذ أيّام، و على هامش تحرّك الأمنيين المعزولين (الكثير منهم متورّط في تجاوزات خطيرة كسرقات أو تهريب) لاعادتهم الى السّلك الأمني، حضر أحد هؤلاء الأمنيين الى أحد بلاتوهات التلفزة، و قضّى مدّة الحوار يراوح بين المسكنة و الشّكوى للأوضاع الانسانيّة الصّعبة التي انجرّت عن تسريحهم، ثمّ التّلويح (أو التّهديد المبطّن) بخطر استقطاب هؤلاء من قبل الحركات الارهابيّة! أليس مثل هذا الابتزاز حريّاً باعادة صاحب هذا الخطاب الى السّجون بتهمة ارهاب المواطنين، بدل مناقشة عودته الى منصبه في السّلك الأمنيّ؟
لنا في بعض من العاطلين عن العمل في بعض مناطق الجنوب المعنيّة بالتهريب مثال صارخ... فالشّاب المتورّط في التهريب يبرّر سلوكه بانعدام فرص الشغل في منطقته، و لكن العديد من هؤلاء لا يعتبر نفسه معنيّاً بوظيفة أو "شغل طبيعيّ" على اعتبار أن "شهريّته" لن تضاهي ما يجنيه في يوم واحد من التهريب..!
من اللافت للنّظركيف سقط الجميع في حمّى "المطالبة"، و كيف أصبح الجميع يرى نفسه في صورة المحتاج و الأجدر بالعون و الرّعاية، ثمّ كيف تحوّل خطاب "الاستجداء" بعد الثورة و بعد سقوط حاجز الخوف، الى خطاب مطالبة عنيف و متشنّج..أي أن العمليّة أصبحت عبارة عن إنقضاض محموم على جسد "الدّولة"، و عمليّة نهب و قطع طريق مقنّعة، ينفّذها الكلّ، سواء كان ذلك بوعي أو من دون وعي، متشجّعين بكونه أصبح ظاهرة جماعيّة شبه شاملة.
و بقدر ما يذهلك حجم الانتظارات التي لا تنتهي من "الدّولة"، تصدمك موجة الجحود تجاههها، تلخّصها ربّما عبارة:"هذه الدّولة لمتعطني (أو تعطنا) شيئاً". عبارة كانت صادمة في البداية، حتّى تعوّدت عليهامسامعنا تدريجيّاً. و صرنا لا نسمعها فقط من قبل "المحتاجين" أو "أصحاب المطالب"، بل أصبحت دارجةً على لسان مثقفين و اطباءو موظفين و فنانين و رياضيين.. يعبّرون بها عن تذمّرهم من مستوى الخدمات التي تقدّمها الدّولة لهم، أو من حجم الواجبات (الأداءات) التي تفرضها عليهم...
لنا حقّاً أن نستغرب مثل هذا الجحود و نكران الجميل، اذ ينكر هؤلاء حقّ المجتمع عليهم اذ رعاهم و حماهم، ثم درّسهم –و ربّما فضّلهم على غيرهم- حتى يصبحوا اليوم على ما هم عليه من المستوى العلمي أو المالي أو الاجتماعي.
حين يصبح النجاح شخصيّاً، يدفع التونسي الى أن يبحث عن السّبل للتّهرّب من مشاركة غلّته مع المجتمع (عبر العمل الاجتماعي أو حتّى عبر دفع الضرائب)، بينما يقع الرّميبمسؤوليّة الفشل كاملةً على الدّولة (سواء من ناحية الأسباب التي قادت للفشل، أو من ناحية تحمّل تبعاته) فهذا يعكس خللاً حقيقيّاً في المفهوم الفلسفي للدّولة عند التّونسيّ، و منطقاً جماعيّاً مريضاً يقوم على الأنانية و الانتهازيّة في علاقتنا بالمجتمع.
يبدو أنّ التونسي غير قادر على استيعاب مفهوم الدّولة في صيغتها الديمقراطيّة، التّشاركيّة و المسؤولة، و يرفضأن ينظر لنفسه في صورة المواطن الفاعل، و هومصمّم –اختياراً- علىالتّشبّث بصفة الرّعيّة في علاقته مع الدّولة...
أنا لا أنكر على الشباب العاطل أو للمهمّشين سعيهم في تحسين وضعيّاتهم و ايجاد حلّ لكمّ المشاكل المركّبة التي يقبعون فيها. و لكنني أقول أن الحلّ لا يمكن أن يبدأ بالتنصّل من أيّ مسؤوليّة و اعتبار "مشكلتي" عهدةً في ذمّة الدّولة و مسؤوليها.
شخصياً، لا أوافق السّياق العامّ في تحميل المسؤولية حصراً الى الطبقة السياسية، قبل الثورة او بعدها، فهي -شأن التّونسيّ نفسه-نتاج طبيعيّ لخلفيّة فكرية و ثقافية بالأساس. السّياسيّون هم كباقي القطاعات، فيهم الوطنيّ و الصّادق، و فيهم الفاسد و الكاذب، و لكن اختيارات التونسي هي التي أتت بمن هم في الحكم، باليوم أو بالأمس.
لا يسعنيإلّا ان احمّل التونسي جزءاً كبيراً من المسؤوليّة، فهو الذي يؤمن بمقولة "تبّع السّارق لباب الدّار"، و كانّي به يبحث عن "شمّاعة" يعلّق عليها مسؤولية خيباته، اكثر من بحثه عن عملية حقيقية و جديّة للاصلاح.
الكذب هو ليس فقط كذب السياسيين و المسؤولين، بل هو ايضاً كذب المواطنين على انفسهم.التونسي، و ان كان ضحية الكذب و التسويف، فهوه على الأقل مسؤولٌ على كونه يأبى إلا أن يصدّق الكاذب و إن جرِّب، و يفضّل دائماًالاعتماد على الآخر، أو تحميل المسؤوليّة على الآخر...
ثقافتنا هي ثقافة "عشرة الحاكم".. تلك التي تدفعنا إلى بذل أقلّ مجهود ممكن و تمنعنا من السّعي للتّميّز أو الابداع أو التّفوّق على الذّات. نحن لا نحبّ مراجعة النّفس أو الاعتراف بالتّقصير، بل نفضّل لعن الحكّام و شتم المسؤولين و الاختباء وراء شتّى الأعذار..
ثقافتنا هي ثقافةالربح السّهل من تجارة إلى "قشارة"، إلى تسوّل، أو حتّى تحيّل...
ثقافة"رزق الحاكم" و "البيليك"..
ثقافة "المفعول به" دائماً...
نحن فقط تطوّرنا من مرحلة الاستجداء الى مرحلة المطالبة، الى مرحلة الافتكاك، و هوللأسف ليس بالتّطوّر الايجابيّ.
سنة 2013، قمت بتحليل دراسة احصائية قام بها مركز امريكي متابع للشان التونسي (IRI)، و فتحت عيناي وقتها على واقع ثقافي مؤلم... باختصار يقول سبر الآراء هذا وقتها ان اغلب التونسيين يضعون الشأن الاقتصادي و القدرة الشرائية و مسالة البطالة على رأس الاولويات في تونس..أغلب العاطلين عن العمل "يفضّلون" الوظيفة العمومية... بينما تعتقد ذات الشّريحة المستجوبة من العاطلين عن العمل –و في الوقتنفسه- أن حلّ مشكلة البطالة يكمن في تمكين الدولة للشباب من منح و قروض تمكّنهم من ارساء مشاريعهم الخاصة!
امّا في الحلول الاقتصادية الوطنية، فيكاد يجمع المستجوبون ان الحلّ الامثل يكمن في دعم اجنبي يقدّم تمويلات واسعة لتونس!! أي أنّ التّواكل و عقليّة "هات يدّك نحنّيلك" يكاد يكون العنوان الرّئيس لقراءة التونسي لعلاقته بالدّولة، بل و بالعالم بأسره! ما الذي يجعلنا نعتقد أننا نستطيع تحصيل الهبات (من الدّولة أو من الخارج) من دون مقابل و الى ما لا نهاية؟
نحن "نطالب" الدّولة بكل شيء تقريباً.. نطالبها بالرّعاية الصّحّيّة و التّعليم و البنية التّحتيّة و كفالة المعوزين... لكننا لا نحبّ دفع الضرائب، و نجتهد فيالتّهرّبمن الجباية، يتساوى في ذلك أصحاب المهن بأصحاب المليارات.
نحن نحاول باستمرار أن نتحدّى القوانين و أن نتحايل على المسالك الطّبيعيّة. نشجب الفساد كثيراً، و لكننا سريعاً ما نجد لأنفسنا التّبريرات لدفع رشوة (أو قبول رشوة) ما إن وجدنا أنفسنا تحت الضّغط.
نحن ندرك أن التّهريب ينخر الاقتصاد، و لكنّنا نتعاطى التّهريب و نبرّره، و نشتري السّلع المهرّبة من دون حرج..
نحن نعيش مسرحيّة كبرى تحت سقف مفتوح، فكما العاطلون مدركون أنّ الدولة غير قادرة على استيعاب الجميع، و لكنّهم يواصلون القفز في قارب هو أصلاً آخذ في الغرق..كذلكتستجيبلهم الدّولة بوضع استراتيجيّات و آليّات سخيفة و مستهلكة، يدرك الجميع، و أصحابها في المقدّمة، أنها مجرّد مسكّنات غير قادرة على حلّ المشكل، لا جذريّاً و لاجزئيّاً.
ثقافة التواكل و الطمع و عدم تحمل المسؤولية، لن تلبث الا ان تتحوّل بنا إلى الانتهازيّة ثم الى اللّصوصية، انتهاء بثقافة قطع الطرق، و كم آسف و انا اعاين اننا قد قطعنا بالفعل شوطا في هذه الطريق... و في الأثناء يتجنّب الجميع الخوض في أصل الدّاء الذي لا يختلف عليه اثنان: الفساد...ربما لأنّه أصبح رياضة وطنيّة أولى في تونس، يكاد يتعاطاها الجميع.
لا يمكن لدولة ينخر جسدها الفساد كحالبلادنا أن تدوم... و علينا الآن أن نختار: إمّا أن نغسل وجوهنا بماء بارد و نبدأ حالاً في الاصلاح، اصلاح الجباية و اصلاح الادارة و اصلاح الماليّة العموميّة و اصلاح المنظومات التّربويّة و التّكوينيّة، و إصلاح المؤسّسات...لا بدّ أن نعيد للعمل قيمته، و للقانون هيبته، و ننطلق في حملة تطهير ضدّ الفساد و الفاسدين.
إمّا هذا أو أن نستعدّ للسّقوط الحرّ، و الذي لا بدّ أن ينتهي بطريقة مؤلمة.
أعلم أن كلامي هذا في أغلب جوانبه لا يأتي بجديد، و أن الكثيرين يجدون التّشخيص بديهيّاً، و لكنّهم ينتظرون أن أقدّم لهم وصفة الحلّ السّحريّة... الحلّ بسيط بقدر ما هو مركّب، و يجب أن يتشارك فيه الجميع، السّياسيّ و المواطن.
أولاً لا بدّ من تنقية المشهد السّياسيّ من الأوليغارشيا و من الشّعبويّات، و أنا أنظر هنا الى المعارضة الديمقراطيّة الاجتماعيّة المشتّتة، أن تنفض المشاكل الزّعاماتيّة الضيّقة و توحّد جهودها في تقديم طرح جديد، و هي تتحمّل اليوم مسؤوليّة تاريخيّة تفرضها عليها مرجعيّتها النّضاليّة ضدّ الفساد و الاستبداد. لا بدّ أن يجدالتّونسيّونَ بديلاً سياسيّاً كاملاً و متكاملاً، يصارحهم و لا يتردّد في مجابهتهم بالحقيقة، يقدّم العمل و الكدّ كعمادلبنياننا المجتمعي، بديلاً سياسيّاً يدعم التراحم و الايثار و ثقافة المصير المشترك، و يحارب الأنانيّة و الانتهازيّة و الفساد.
لقد كلّفتنا الخطابات و البرامج الشّعبويّة الكثير على امتداد العقدين الأخيرين، و قد بدأت العجلة في التّوقّف تحت وطأة التّكلّس الإداري و الاجتماعي، و هي لن تعود للدّوران بمجرّد "التّفاؤل". المسألة ليست مرهونة بهويّة الأحزاب، بقدر ما هي مقترنة بالتّوجّهات التي تقرّر المسير فيها، و بثباتها على هذه الخيارات. تحتاج تونس إلى مسار مستدام لا يكون مرهوناً الى دعم مراكز النفوذ. مسار واضح المعالم و الأهداف، يخلق على الأقلّ ديناميكيّة ايجابيّة تمهّدنا للاقلاع.
و على التّونسيّ أيضاً أن يتحمّل مسؤوليّته في حسن اختيار ممثّليه...فإذا واصلنا التّطبيع الشّعبي مع انتشار الفساد في المنظومة السّياسيّة،و اخترنا أن نصطنع الغباء في تصديق الوعود الفارغة، فلن يكون مصيرنا مختلفاً عن كثير من الدّول الافريقيّة الفاشلة.
منذ عقود، نحن نعيش شيزوفرينيا فريدة... من المعلوم أن تونس انخرطت في اقتصاد السوق بشكل تدريجيٍّ منذ السّبعينات، لكننا لازلنا نعتمد خطاباً، و مقاربة، و منظومات ادارية و قانونية اقرب الى الاقتصاد المغلق و "الدّولة المعيلة". نحن نحبّ مظاهر الليبرالية من مجتمع استهلاكي و إنفاق و كماليّات، لكننا نكره المغامرة، و نريد سياسة اجتماعية تحمينا، تتكفّل بنا و ترعانا... نحن اذا نظرنا إلى سعر البنزين، نتذمّر و نقارن أنفسنا بليبيا و الجزائر، بينما اذا تحدّثنا عن جودة الخدمات، نتذمّر أيضاً و نقارن أنفسنا بأوروبا...نحن نحبّ أن ندّعي البحبوحة، و نفترض أن "خزائننا المخبّأة" لا تنبض، و أيّاً كان السّياق، نرفض أن نعترف بحقيقة كوننا بلداً فقيراً، و أنّ العمل يبقى سبيلنا الوحيد لتغيير واقعنا، مجتمعاً أو أفراد.
الحلّ بالنّسبة لي هو في الوعي بحساسيّة الموقف. كلمة السّرّهي تطبيق القانون، و الوصفة السّحريّة هي العمل.و على الجسد المريض أن يأخذ ما يحتاج من الوقت ليبرأ من أمراضه و ينقّي نفسه من السّموم التي تنتشر في عروقه، قبل أن يستعيد عافيته و يصبح قادراً لمجابهة ما أمامه من تحدّيات. و هذا ما لا مناص من أن يدركه و يتّحد حوله كلّ التونسيّون، ابتداءً بأصحاب المطالب.. ما نيل المطالب بالتمنّي، و هو قطعاً ليسبالصّراخ أو بالصّرعات الطّفوليّة.
أجد تشابهاً كبيراً بين تطوّر التونسي في سلوكيّاته و الطفل المدلّل، الذي كبر و تحوّل من رضيع مسلوب الارادة، إلى طفل يبحث عن ذاته، الى مراهقة مشوّشة متمرّدة. الواقع هو أنّ مسلك الهروب الى الأمام الذي سرنا فيه لعقود قد بلغ اليوم آخره، و لا بدّ من توضيح التّوجّه و الانخراط في برنامج جماعي من أجل النّهوض بالبلاد. و لا بدّ حتماًللتونسي أن يكبر و أن يمرّمن مراهقته المتأخّرة الى مرحلة الرّشد و المسؤوليّة.
Publié le: 2016-02-18 10:05:59


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.