بقلم حامد الماطري في الولاياتالمتحدةالأمريكية، و أثناء الحرب العالمية الثانية (بالرغم من أن وقعها على أمريكا كان أقل مما كان عليه الحال في أوروبا، مع فرنسا، انجلترا أو ألمانيا)، كان كل شيء يصلح للتصنيع يحول مباشرة إلى المجهود الحربي.. حتى المقالي وأدوات الطبخ صنعوا منهم خوذات للعسكر..! وللتاريخ، طوال 3 سنوات، كانت التماثيل المهداة للفنانين في حفلات الأوسكار من الخشب، على أساس إن كل ما هو معدني يفترض أن يستغل في دعم الصناعات العسكرية (من باب الرمزية على الأقل)... في قرطاج القديمة، و قبيل الحرب البونيقية الثالثة، قصت نساء المدينة شعورهن لتصنع منها الحبال للسفن الحربية... هذا هو ما يصطلح بتسميته "المجهود الحربي"... جيشنا صمد أمام الإرهابيين، و طردهم أهالينا بن قردان و كذبوا آمال الدواعش الذين ظنوا أنهم سيلاقونهم بالزهور و الترحاب... لجيشنا و لاهلنا في الجنوب كل الشكر و العرفان... لكن ماذا بعد؟ هل سيكون دعم القوات المسلحة في حربها بالأغاني و التعليقات الفيسبوكية فقط..؟ مر أسبوع على بداية الأحداث في بن قردان، و بسرعة (تفاوتت حسب المنابر الإعلامية)، ألقينا بشعارات الوحدة الوطنية وراء ظهورنا وعدنا إلى سجالات الإتهام و تحميل المسؤوليات التي لا تستند إلى مقاربات عقلانية بقدر ما هي محمولة على رياح مشحونة بالكراهية.. عاد سيرك المقارعات و خطاب التقسيم وإنعدام الإحترام للدولة ومؤسساتها.. اتهامات بالضلوع في الإرهاب وتحاليل "بسيطية" تعكس ضحالة مستوى اصحابها، ولكنها للأسف تواصل التشويش على بوصلة الشعب التونسي. أما من رحم الناس وجنبهم هذا العرض القذر، فقد إنصرف إلى الرثائيات في حق الشهداء و إستعراض أطوار الملحمة. هذا جميل، ولكنه يحمل نوعاً ما قراءة منقطعة مع الواقع. نحن ربحنا المعركة، ولكننا لم نربح الحرب بعد.. وربما ما شهدناه من عنف العدوان على بن قردان لهو مقدمة لما سيكون عليه قادم صراعنا مع هؤلاء الهمج والمجرمين في المواقع القادمة. في المقابل، كيف كانت نوعية التفاعل الرسمي مع الأحداث؟ لن أتوقف عند الإقتراح الممعن في الغباء الذي خرج به إجتماع الرباعي الحاكم يوم بداية الأحداث، بالخروج في مسيرات التنديد. لكنني سأقف عند صورة السيد الرئيس وهو يتبرع بشهريته لمؤازرة أسر شهداء الأحداث... شخصياً استحسنت أنه نزل إلى وسط المدينة (و إن وقع اخلاؤها من ازدحامها المعتاد بمناسبة الزيارة) و لم يختصر الطريق بالذهاب إلى مكتب بريد بجهة قرطاج... أعجبني أيضاً أن تنساق الإدارات والنقابات في "نداءات" لتخصيص يوم عمل.. نداءت نعلم إن أغلبها سيحمله الريح ولن يرى النور مع برود الأحداث وأنقضاء الأيام... للأسف، أعتقد أنه -و وراء الخطابات الرنانة- يحمل واقعنا الحقيقي عدداً من الأوجه القبيحة كذلك الذي تجلى في رفض سواق حافلات النقل إصطحاب الجنود و أعوان الأمن، بل وضربهم حتى بقرار الوزير عرض الحائط... مع مزيد التفكير والتأمل في ردة فعل التونسيين، أعتقد أن الشعب التونسي لا يدرك في نهاية الأمر حقيقة ما يترصده من تهديدات، و أعتقد صدقاً أن الدولة لا تفعل الكثير لتغيير ذلك. بينما انقضت الأيام و لم نشهد أي قرار "قوي" أو "محوري" يغير المعادلات القائمة، ما راعني هو أن تنساق الحكومة ومجلس النواب في ذات الخطاب المنادي بالتبرع للمؤسستين العسكرية و الأمنية، وكانهم وجدوا الحل المنشود -الذي كان غائباً عن الإذهان- في مسألة التبرع..! يوم عمل عن كل تونسي... "قداش معناها"؟ 10، 20، 50 مليار؟ ماذا يعني هذا المبلغ؟أي زيادةً في الميزانية المخصصة للأمن والدفاع، المقدرة ب 4990 مليار، بنسبة تتراوح بين... 0،2 إلى 1% ؟؟ أم هو صندوق لدعم الشهداء؟ هل كان هؤلاء معاقين أو ضحايا لكوارث طبيعية حتى نستنهض روح التراحم عند التونسيين لمساعدتهم والتكفل بهم؟؟! وماذا سنفعل مع قادم الأحداث والشهداء؟ صناديقاً أخرى؟ فرنسا لا تزال تدفع الجرايات إلى اليوم لكل من ساهم في قتال المحتل النازي في الحرب العالمية، ونحن لا نزل إلى اليوم لا نعرف إذا كنا سنبقي جراية الشهيد كاملة أم أننا سنصرف لذويه النصف فقط؟! لا يعقل أن تستجدي الدولة مواطنيها للمساهمة في محاربة الإرهاب.. هذه مقاربة فلكلورية وتعكس شحاً في البصيرة وإبتذالاً في الأفكار. علاوة على ما في ذلك من سطحية في قراءة الأمور و قصور في الرؤية التي يحملها من هم في الحكم تجاه حجم هذا الصراع. والأدهى أن هذه المقاربات تمرر القراءة السطحية إلى باقي مكونات الشعب، و من ثم نعود و نلومهم إن هم عادوا إلى حمى الإضرابات و الإعتصامات بعد اسابيع -أو أيام- قليلة... كذلك يبقى عجيباً أن في هذه البلاد، سنة ستة عشر بعد الألفين، لا زلنا غير قادرين على تقدير مدى فاعلية الخطوة قبلإقرارها، أو أن نحكم دراسة جدوى الإقتراح قبل المضي فيه. دعم المجهود الحربي يكون بالإقتطاع، لا بالأستجداء... هو فرض عين لا مساهمة طوعية. و يجب أن يكون ذلك من أصحاب الثروات و الشركات الكبرى و المتوسطة لا من الأجراء... يكون بسياسة حرب، تكسر جمود و المقاربات الضعيفة والركيكة للحالات العادية. لقد أخفقنا أيام الثورة في تحقيق سياسة ثورية تكون فاعلة في تحقيق الإصلاح والتغيير. ربما تكون حربنا ضد الإرهاب اليوم فرصتنا ما بعد الأخيرة لفرض سياسات إقتصادية وقضائية و تربوية تصلح ما أفسدته سنوات ما قبل الثورة وما بعدها. هذا ليس بمستحيل، هو فقط يحتاج إلى أرادة و قوة واستقلالية في القرار، ثم إلى أفكار عميقة و خطط عمل حقيقية، تحمل رؤيا واضحة و تستند إلى مقومات النجاح العلمية من إمكانيات و منهجية و أهداف مرحلية. من المحبط (ولست من دعاة التشاؤم) أننا لم نر شيئاً من هذا على إمتداد الأزمات التي لا زالت تعصف ببلادنا منذ سنين. أنا على قناعة أننا منتصرون على الإرهاب لا محالة، إن آجلاً أو عاجلاً.. لكن على قدر حسن إدارة الحرب يكون النصر أقرب و أقل كلفة. وفي قراءة عكسية، على قدر الإرتجال و سوء التصرف، ستكون المعركة أطول و أصعب وأغلى تكلفة. ربما حان الوقت لنبدأ في التفكير من خارج الصندوق الضيق الذي نقبع فيه منذ التسعينات. Publié le: 2016-03-14 16:07:18