بقلم: شكري بن عيسى (*) لم أصدق الحقيقة كمّ مقاطع الفيدوات التي اعترضتني على شبكة التواصل الاجتماعي، مساء الجمعة المتعلقة ب"أسئلة" "منشطة" القناة الوطنية في حوار مع الرئيس المرزوقي، وحجم الاستنكار والاستهجان الذي تعلق بها حتى اني خلتها مركبة، واضطررت الحقيقة لانتظار اعادة البرنامج بعد منتصف الليل على "France 24" لأقف على حقيقة الانهيار الاعلامي العميق. الاستاذ توفيق مجيد شخصية اعلامية مرموقة، في اسمها وادبها الرفيع وحرفيتها المرتفعة واعلائها المعايير المهنية، وايقاع البرنامج معه في المبنى والمعنى يختلف عن كل البرامج، بنبرة صوته والمامه بالموضوع وتقديره لضيوفه وأسئلته المباشرة وتحكمه في نظام ونسق برنامجه، وبالفعل كان النشاز صارخا بجانبه بعد ان وجد نفسه في مأزق عميق، وبالفعل الوضعية بامتياز حالة تدرّس في الكليات (cas d'école)، لتفسير خرق الميثاق والمبادىء الاعلامية بل الفوضى الاعلامية. فلَمّا تعتمد منذ الانطلاق استراتيجية غارقة في الاستفزاز، ثم تسقط في أخطاء فاضحة صارخة، وتكرر المسألة لمرات وبنفس النبرة الاندفاعية، بعيدا عن التحكم الانفعالي وبعيدا عن الهدوء المستوجب، وتنساق في المناكفات والسجالات، وتتعمد بهذا التمشي وضع محاورك في عين التشنج، فهذا لا يسمى بحال اعلام ولا علاقة له بالحقيقة والحوار والجدل، وانما يدخل في خانة التشويه والتضليل وكل صنوف التحامل، والحمد لله ان كان البرنامج بحضور مجيد ليحد من الانفلات من حين لآخر، والا لوقفنا على نهاية الحصة منذ انطلاقها ببضع دقائق. والبداية كشفت الانحراف العميق بضوابط الحوار، فطلب "الاعتذار" من الشعب من الضيف منذالسؤال الاول، هو فعل اتهامي-مُدِين بالاساس لا يمكن لصحفي محترف ان يسقط فيه، واتجاه منحاز في مختلف مناحيه ان لم يكن عدواني، والامر يتأكد بتوجيه تهمة أن "الشعب" طلب نزع الجنسية، ثم في مرحلة اخرى التمسك بوجود "أغلبية"، ثم المرور الى وجود عرائض والايحاء بانها كبيرة، ثم توجيه تهمة الدعوة لانتخابات سابقة لاوانها، والاثارة كانت واضحة وكأن السائلة مكلفة بمهمة القصف العشوائي، لإلباس الضيف جملة من التهم والجرائم الجاهزة، وفي الحد الادنى تشنيجه واخراجه عن اداب اللياقة والاتزان، واثبات تهمة الغوغاء والفوضى عليه. والأمر تكرر بالنبش في سجل التهم النمطية الممجوجة، حتى لكأن الحوار تحوّل لعمليات استجواب بوليسي، من بوليس ينتمي لنظام فاشي يستنطقك ليدينك وليس ليبحث عن الحقيقة، مع احتكار الاسئلة المفترض ان تتوزع بالتساوي بين المنشطين، ، أكثر من ثُلثي الاسئلة (66 بين سؤال ومقاطعة وتدخل مقابل 31 سؤال) مع احتكار افتتاح الاسئلة واختتامها وحتى التعقيب على اسئلة المنشط الثاني ومقاطعته، كما أن عدم احترام صفة الضيف في مخاطبته باعتباره رئيس سابق للبلاد يظهر الاخلال العميق، وحدة الاسئلة وعنفها لم نلمحها في الحوارات السابقة مع امين عام اتحاد الشغل ووزيرة الشباب والرياضة، حيث فرض الاول الاسترسال في الاجابة واسكاتها عند التدخل، وفرضت الثانية اجابات من نوع "يحبوني في الجهات" والسائلة في حالة تماهي وفي بعض الاوقات انتشاء. وطبعا ضاعت المحاور والملفات الحارقة التي ينتظرها الشعب لمعرفة راي المرزوقي حولها، مثل الغياب الواضح لبرنامج حزب المرزوقي وافتقاد استراتيجية اتصالية للحزب والغياب الميداني في الجهات عبر الاجتماعات والنشاطات الحزبية، والمواقف من قضايا الساعة: المبادرة الرئاسية للتسوية الليبية والسياسة الخارجية عموما وقضايا الامن القومي، والاخطاء في الارقام التي قدمها الضيف في عدد البطالين الذي هو 632.5 الف وليس 630 الف، وبطالة اصحاب الشهائد التي هي في حدود نسبة 31.6% وليس 30%، وايضا حول ترقيم "فيتش رايتينغ" الذي نزل من BB (-) الى B (+) وليس من B (+) الى B (-)، وكذلك الحديث عن انتظار ترقيم "ستنادر اند بورز" في حين قطعت معها الحكومة التونسية، هذه الاخطاء لم تتفطن لها لانها على الاغلب "شحنتها" مركزة في مجالات محددة. ويبدو أن المبادىء الاعلامية المضمنة في الميثاق التحريري لمؤسسة التلفزة الوطنية، أساسا "خدمة المصلحة الوطنية" و"الاستقلالية" و"الحياد" و"الانصاف" و"الدقة"، ليست في وارد اطلاع العاملين بالمؤسسة من الصحفيين، او وضعت لتداس وتنتهك، وما شاهدناه كان بالمحصلة فضيحة اعلامية مجلجلة، من صحفية كانت ابعد ما يكون عن اداء الوظيفة الصحفية، بل سقطت (باحتكارها مجال الاسئلة ودخولها في الانفعال والتناوش وانتهاجها الاتهام والتشويه) في مربع التهجّم الواضح، وسقطت بذلك الى ما دون القاع، وجلبت لنفسها ولقناتها التي يمولها الشعب عبر الضرائب السخرية والتهكم على شبكات التواصل الاجتماعي، وسوقت للمتابعين في العالم العربي صورة قاتمة عن الاعلام التونسي، خاصة وان البرنامج يتم متابعته عبر قناة "France 24" على مستوى عربي واسع، وفوتت بذلك فرصة معتبرة للارتقاء بالمضمون والشكل للاعلام العمومي، المفترض ان يكون قاطرة حقيقية لتكريس الحرفية والعمق والانارة ورفع الوعي وتكريس التعدد والديمقراطية!! (*) قانوني وناشط حقوقي مقطع من الميثاق التحريري لمؤسسة التلفزة التونسية لابراز الخروقات الجسيمة من المنشطة في الصدد.