عادل البوغانمى منذ سنة 2011، يشهد الاقتصاد حالةً من التدهور. تمحورت اهم مظاهرها في عجز في ميزان الدفوعات وعجز في الميزانية ونسبة نمو ضعيفة وانهيار للدينار وركود الاستثمار، وارتفاع التضخم، هذا الشخيص لا يعد لافتا باعتبار معرفة الجميع بهذه الازمة. غير أن ما يُضفي طابعاً مأسوياً على الدراما التونسية هو أن عدداً كبيراً من المشكلات التي تعاني منها البلاد راهناً هو انعكاسٌ طبيعي لسياسة الحكومات المتعاقبة قبل سنوات واعتمادها على الحلول السهلة لمجابهة الاحتجاجات وضعف الدولة في تطبيق القانون ولا تأخذ في الاعتبار الدروس المستمدّة من تجارب البلدان التي عرفت نفس المشاكل. ازمة حوكمة في تصريف الشأن العام في ظل هذه المتغيرات لا تزال الحكومة تعمل بنفس الأساليب وبنفس الهيكلة القديمة سوآءا بالوزارات او بالهياكل التابعة لها من مؤسسات وإدارات بمعنى ان طرق التصرف والحوكمة لا تزال تحكمها ضوابط وتراتيب وإجراءات قديمة منذ عقود تتمحور حول كيفية تصريف الشأن العام واعلام الشعب والناخبين بالنتائج دون تحديد واضح للمسؤولية ودون مساءلة تعتمد على تقييم كمي ونوعي للأداء ضمن منظومة متكاملة انطلاقا من تحديد الاستراتيجية والأهداف ومدى تحقيق الهدف العام المنشود. فلكل وزارة كفاءاتها القطاعية و مرجعياتها في العمل و طرق التسيير و التعديل و التدخل و لها برامجها التي تحددها مهمتها في اطار قانون احداثها لكن يبقى الاشكال في إيجاد التوزان و غياب الديناميكية و وحدة الهدف بين كل هذه الوزارات ما يجعل العمل الحكومي غير متوازن و غير مهيكل و لا يتجه نحو هدف معين في غياب التنسيق لمواجهة مشاكل كبيرة و مستعصية أحيانا اقتصادية و اجتماعية و سياسية متداخلة و مترابطة و تتطلب توحيد الرؤية و الهدف و التعاون في بين عديد الوزارات لإيجاد الحلول فكل القطاعات نجد انها مترابطة مع بعضها البعض و تؤثر في بعضها البعض كالنقل و الصحة و التجهيز و البيئة و السياحة و الفلاحة الخ ....و هو ما يدعو الى إيجاد تصور جديد لضمان التناسق و خلق الديناميكية الازمة فيما بينها ما يمكن من توحيد الجهود و جمع الطاقات و سرعة الإنجاز باقل التكاليف و بالسرعة المطلوبة هذا بالإضافة الى وضع عالمي متغير و يشهد تحولات كبرى تسير بسرعة كبيرة و متشعبة و متداخلة بين منظمات غير حكومية و منظمات مالية و هيئات دولية في نظام معولم ما يدفع الى مراجعة عديد المفاهيم المتعلقة بالتموضع و مفهوم الدولة والسيادة الوطنية و الديبلوماسية الخارجية و التدخلات الإقليمية و التحالفات الجديدة. فالدولة اليوم في مازق تنازع على الامتيازات والمواقع مع تقلص دورها في التدخل وعجزها في أحيان كثيرة تحت الضغوطات الداخلية والخارجية مما يجعل شرعية الحكومة مهترئة وامام هذه الوضعية تبقى تونس دائما في حاجة الى الدولة التي لا تتخلى عن دورها التنموي والاجتماعي والقاطرة لدفع النمو والمحافظة على السلم الاجتماعي. فبلادنا في حاجة ملحة الى حكومة مسؤولة متنوعة الاختصاص ومتضامنة من اجل تسيير الشأن العام تتمتع بالشرعية والمشروعية تعمل بكل شفافية وبالنجاعة المطلوبة في إطار عام ديمقراطي يقبل الاختلاف والنقد والمحاسبة وهو ما يفرض خلق ديناميكية وروح جديدة وإرساء طرق تصرف حديثة ومزيد من الشفافية وارساء نظام مؤسساتي قوى لمكافحة الفساد والتهريب وتشجيع المبادرات الخاصة والتنمية الجماعية. مرض الوهم والمقارنات المغلوطة نحن نعيش مرض الوهم والمقارنات المغلوطة وليس المطلوب أن تشكّل لنا بعض البلدان نموذجاً اقتصادياً يقتدي به، بل يجب أن تكون بمثابة دراسة حالة لاستخلاص العبر حول ما ينبغي الامتناع عن القيام به عند محاولة تطبيق إصلاحات اقتصادية فنحن لسنا في حاجة الى صندوق النقد الدولي كي يدفعنا الى العمل و الإنتاج و لسنا في حاجة اليه ليقوم بالتشخيص او إيجاد الحلول فمشاغلنا معروفة و الحلول متوفرة و لا يمكن باي حال من الأحوال تطبيق نموذج للحكم الرشيد بنجاح في ظل غياب و تنامى ظاهرة الفساد و المنافسة غير المشروعة و البيروقراطية و الاقتصاد الموازي. فالوضع الاقتصادي المتردي وتبعاته الاجتماعية الخطيرة تهدد الديمقراطية الوليدة، خاصة وأن اصحاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية لن تخاطر بالاستثمار في السوق التونسية في ظل هذا الوضع بالرغم من حاجة بلادنا الى ضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية والقطاعات الأساسية الإنتاجية والتعليمية بقيمة لا تقل عن مليار دولار سنويا على مدى خمس إلى عشر سنوات قادمة. مراجعة الهيكلة وطرق التسيير لذا وجب العمل على اعتماد مراجعة شاملة للسياسات العمومية تقوم على تحديد اولويات التدخل والتقسيم الجديد لمختلف الادوار والمهام للتركيبة الحكومية وتحديد مواطن التدخل من جديد وتوجيه هذه السياسات بطريقة فعالة من خلال التأكيد على الأداء والمساءلة الفردية بدلا من الإجراءات العامة المعمول بها حاليا والتي تساهم في عدم تحديد المسؤولية بالرغم من المساءلة الصورية. هذا التوجه الجديد المتمثل في ارساء أساليب الإدارة الجديدة يتطلب التفصيل والتجزئة في كافة المراحل وتكون الاستراتيجيات مفصلة مع تحديد للأهداف ومؤشرات التقييم للاقتصاد الكلى والاقتصاد القطاعي ومراجعة بعض السياسات على غرار سياسة السكن والفلاحة والصحة والبيئة والنقل والتكوين المهني .... هذا التوجه الجديد سيمكن من تحديد الرؤية المستقبلية التي تعتمدها الحكومة في عملها وتصبح من الثوابت العامة التي لا تتأثر بتغير الحكومات وهو ما يجعل من وضعنا الدولي أكثر وضوحا ومصداقية ويسهل عمليات التفاوض مع شركائنا خاصة دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا لخبرتها في تحديث ولايات ألمانيا الشرقية السابقة من اجل المساعدة وربما التوجه نحو إطار جديد يمكن تسميته "مشروع مارشال أوروبي تونسي" باعتبار اهمية بلادنا على عديد المستويات بالنسبة للاتحاد الأوروبي وبالتالي الانطلاق في إعادة هيكلة الاقتصاد للخروج من الازمة الحالية.