بقلم حامد الماطري في أواخر التسعينات، كنت طالباً بأحد المعاهد التحضيرية لتكوين المهندسين، وصادف أن زارنا وقتها وزير التعليم العالي فكان لنا معه نقاش مفتوح. أحد الأسئلة التي طرحت عليه كان حول تضاعف عدد الجامعات التي فتحت شعباً جديدة إختصاص إعلامية فتحت شعب للإعلامية وقتها، وهل اننا لما نمرّ في ظرف وجيز من مدرسة واحدة تخرّج 100 مهندس سنويّاً، إلى ستة أو سبعة مدارس يخرّجون سبعمائة او ثمانمائة في السنة، الا يحمل ذلك خطراً بإغراق سوق الشغل في ظرف سنوات وجيزة. كان ردّ الوزير آنذاك غريباً جدّاً جدّاً... قال: "هذا الإختصاص سيكون مطلوباً جدّاً في المستقبل القريب وستتضاعف طاقة استيعاب السّوق المحلّيّة".. وأضاف: "وفوق من هذا فرنسا طالبة وألمانيا طالبة"..! عرفت لاحقاً أن "سياسة الدّولة" هذه لا تقتصر على الإعلاميّة، ولم تكن يوماً مسألة ظرفية أو وقتيّة. منذ أربعين عاماً، انطلقت الدولة التونسية في برنامج "تعاون دولي" ترسل بموجبه الدولة التونسية الأوائل من النّجباء في امتحانات البكالوريا العلمية والتقنية إلى كلّ من فرنساوألمانيا (وفي فترة ما كان أيضاً ترسل بعثات لتركيا والولايات المتحدة). أتساءل عن أيّ "تعاون" نتحدّث، وأيّ الأطراف هو الرّابح في الموضوع... يناهز عدد المنتفعين بهاته المنح المائة طالب سنويّاً، وهي بالفعل منحة محترمة تسمح لصاحبها التفرّغ للدراسة من دون ضيق. قبل سفرهم، يمضون على التزام يتعهّدون من خلاله، لا بالعودة إلى البلاد، بل بإعادة المصاريف التي تحمّلتها الدولة لتعليمهم..! الدولة التونسية تدرّس أبناءها مجاناً، على حساب المجموعة الوطنيّة، تستثمر في تعليم التونسيين على أمل أن ينجحوا ويحسّنوا من المستوى المعرفي العامّ، لنحقّق سويّاً نهضة اجتماعية واقتصادية وحضارية. ومع كلّ جيل يجهز، تأخذ خيرة ما أنجبت البلاد وأكثر أبنائهاً تميّزاً وتألّقاً لترسلهم إلى الخارج في رحلة غالباً ما تكون رحلة ذهاب بلا عودة (على الأقلّ مهنيّاً وعلميّاً). أي، وبلغة أخرى، وعلى امتداد السّنين، نحن "نهدي على طبق" نخبة أدمغتنا لأوروبا وأمريكا.. نفعل ذلك بكلّ وعي ومع سبق الإصرار والتّرصّد. نحن نتحدّث عن آلاف العقول المتميّزة، الواعدة، التي كانت ستغيّر واقع البلاد إن كانت أكثر ارتباطاً بها، وإذا أتيحت لهم الفرصة ليساهموا بطريقة أكبر في خدمتها. روى لي أحد أصدقائي ممّن أرسل إلى ألمانيا وهو شابّ صغير، في منحة تميّز منذ عشرين عاماً، أنّ الدولة التونسية لم تراسله قطّ، لا مطالبةً باسترجاع تكاليف الدّراسة، ولا حتى لتسأل عنه أو لتعرض عليه العودة أو حتّى للإطمئنان عليه.. طبعاً هو في الأثناء قد قضّى نصف عمره هناك، فتحصّل على الجنسيّة الألمانيّة وانخرط في الحياة المهنيّة هناك، ولم تعد تونس تمثّل له إلا زيارة الأهل وأصدقاء الطفولة، والمصطاف السنوي. وهو يعترف أنّه، ومع كلّ سنة إضافيّة يقضّيها هناك، هو يبتعد أكثر عن العودة إلى تونس. أنا طبعاً لا يمكن أن أشكّك بوطنيّة هؤلاء. هم بالعكس بينهم من هو أحرص على خدمة البلاد ممّن يعيشون فيها، وهم يفعلون ذلك اختياراً وطوعاً وحسّاً بالمسؤوليّة. بل أنّ منهم من يعيى وهو يدقّ الأبواب من دون مجيب، محاولاً مدّ يد المساعدة، أو طارحاً مشروعاً أو فكرة، قبل أن يقفل راجعاً تتنازعه مشاعر الإحباط والألم. المسألة لا تنحصر في هؤلاء. نعلم جميعاً أن عدداً كبيراً من الأدمغة التونسية –إن لم يكن أغلبها فربّما أحسنها- تهاجر إلى أوروبا وأمريكا وكندا لتدرس وتعمل هناك. هذا يتواصل منذ عشرات السّنين، وإن كان الأمر قد أخذ نسقاً أكبر بكثير في السّنوات الأخيرة. الظّاهرة تفاقمت وتوسّعت ولا تزال الدّولة التّونسيّة تلازم موقع المتفرّج فيما يحدث من دون أن يكون لها أيّ موقف أو ردّة فعل. بل أن من بين "حمقى" السياسة والحاكمين من يفتخر بكوننا نصدّر أعداداً كبيرة من الأطباء والمهندسين نحو الضّفّة الشّماليّة للمتوسّط، وهناك من ذهب حدّ اقتراح "تنظيم" هذا القطاع و"التربّح" منه! ربما كان في الأمر حكمة ما يوم بدأ هذا البرنامج في السبعينات، ولكن أستغرب أن التوجّهات ذاتها تبقى سائدة لنصف قرن من دون أن تكون موضع مراجعة. طوال سنوات، عرفنا إسهالاً من الشعارات والصّراخ والمعارك الدونكيشوتية حول مسألة الثروات الطبيعيّة. أغلب من تحدّثوا في الموضوع لا يفقهون منه شيئاً فخاضوا صراعات هامشيّة ضدّ أعداء وهميّين (المواطن الحقيقية للفساد عموماً ما كانت في مواقع مختلفة تماماً عن تلك التي شكّلت محور الجدال، من عقود وعدّادات وكلام فارغ).. إذا كان هناك نزيف يضرّ ببلادنا ويستنزف ثرواتها الحقيقيّة، فهو هنا. الثروة الحقيقية لتونس هي في شبابها وعقولها ونخبتها الحقيقية. هذه النخبة التي تترك البلاد منسحبة، تاركة إيّاها فريسةً للانتهازيين والمتشعبطين والفاشلين -الا من رحم ربي.. نحن في القرن الواحد والعشرين يا سادة... أدرك أنّ هجرة الأدمغة هي ظاهرة عالميّة لا يمكن إيقافها، لكن دول العالم، بمن فيها الهند وكينيا ودول أفريقيا السمراء وضعت السياسات للتصدّي لذلك، أو على الأقلّ الحدّ منه. وأشكّ أن تكون أي دولة محترمة يمكن أن تكون راعية لسياسة ممنهجة نحو التّخلّي عن خيرة عقولها. بلا، نحن في تونس نفعل ذلك بقرار رسمي معيب، وبتواطئ شعبي أقرب إلى البلاهة.