ساعات قليلة تفصلنا عن حلول شهر البركة.. ساعات قليلة تفصلنا على رؤية الهلال الذي تسعى كل الدول العربية والإسلامية لترصده ورغم تباعد الدول العربية جغرافيا فإنها تحاول جاهدة توحيد بداية الصوم فالسعودية التي تقع في القارة الأمريكية تتمنى ولو لسنة الصوم مع ليبيا التي تقع في استراليا في نفس اليوم ولكن ما نيل المطالب بالتمني.. وسنة العراق وشيعتها يتحدان للبحث عن اثر هلال رمضان ولكن لسوء الحظ يظهر الهلال في سماء العراق السنية فقط لتعلن العراق الشيعية أسفها عن عدم رؤية بشرى رمضان شانها شان الجارة إيران.. في تونس دأبت منذ طفولتي التسمر أمام التلفزيون وانتظار مفتي الجمهورية ومقدمته الطويلة التي حفظتها ككثيرين وإعلانه عن رؤية الهلال وبعدها انتظار طلقتي المدفع الذي يصاحب موعد الإفطار طيلة الشهر الكريم.. وتسبق رمضان عادة استعدادات تجارية مكثفة حاشى وكلا أن تكون حمى استهلاكية إنما لا يتعدى الأمر أن يكون شراء بعض الضروريات كتجديد أطقم الأكل وشراء مؤنة شهرين أو أكثر دون إفراط أو تبذير أو إلحاق ضرر بالجيب فالتونسي بكل طبقاته الاجتماعية والثقافية متصرف مالي ذكي من جهة وكافة التجار والباعة في بلادنا لا تصيبهم نوبات الجشع والغش التي تصيب آخرين بمناسبة هذا الشهر الكريم ولا يتحولون إلى "حوكي وحرايري" من جهة أخرى.. كما تزدهر حركتي الاستيراد والتصدير في هذا الموسم حيث نصدر بعض المواد الغذائية بما أننا نعاني من فائض إنتاجي في الألبان واللحوم الحمراء والبيض وحتى البطاطا ولسنا والحمد لله مثل باقي الدول التي تستورد ابسط المواد الغذائية أو التي تخزن منتجات سنة كاملة كالنملة لتستهلكها في شهر واحد.. لأنه في النهاية شهر صيام لا شهر أكل.. والحمد لله أيضا أننا لسنا من أولئك الذين تحفل حاويات فضلاتهم بأنواع المأكولات يوميا لا بترا إنما رفقا بالحيوانات الضالة.. في رمضان أيضا تعمر المساجد حتى يخيل للمرء أن لا احد يفوت صلاة التراويح وبعد الصلاة يتفرق الجمع ليقوم اغلبهم بزيارة الأهل وكسب ثواب صلة الرحم وفئة قليلة منهم يرتادون المقاهي لا لمعانقة الشيشة والشكبة إنما للقاء الأصدقاء لفترة قصيرة والعودة للبيت للنوم باكرا حتى يتمكن الجميع من الاستيقاظ مبكرا والذهاب للعمل بصدر يملاه النشاط والحيوية والتفاؤل وحب الناس والقيام بمهامهم على أحسن وجه واستقبال المواطنين بابتسامة العادة والتي تزداد سحرا بمناسبة شهر الرحمة.. أما غالبية النساء فيتسمرن أمام التلفزيون متنقلات من فضائية إلى أخرى خاصة وان سيلا عارما من المسلسلات يجتاح البيوت كل رمضان بين عربية وتونسية حيث تعد هذه الأخيرة منافسا خطيرا للأعمال الدرامية المصرية والسورية وحتى التركية لتعمقها في مناقشة قضايا الأمة العربية وأدق مشاغل التونسي وقد بدأت تشهد مؤخرا عدة تغيرات إذ انتقلت من الأرياف إلى الأحياء الراقية وتصوير حياة أبناء القصور العاجية.. كما ترتفع أسهم بعض الدعاة في رمضان على غرار عمرو خالد ويكثر الطلب على الفتاوى القيمة مثل حكم التذوق والتعطر ووضع الكحل والمصافحة في نهار رمضان ومحليا ترتفع أسهم بعض الشيوخ الذين يذكروننا بحكايات العروي.. وقد يتساءل المار في بعض الشوارع عن سر تغليف بعض الواجهات البلورية للمقاهي والمطاعم بأوراق الصحف والجواب بسيط فالغاية من هذه الصحف كالعادة الستر وطمس الحقائق وحماية بعض الذين تحول بينهم وبين الصيام دوافع قاهرة من عيون المتطفلين.. وتبقى اغلي أمنية هي أن يكون رمضان شهر خير وصيام لا شهر يمارس فيه كثيرون إضراب جوع يستغرق ساعات يوميا لا غير..