كارثة بيئيّة في بنزرت: مياه الصرف تغمر 4 هكتارات من الأراضي الفلاحية في هذه المنطقة    الولايات المتحدة تفرض رسوماً جمركية جديدة تطال تونس وعدداً من الدول    عاجل/ نشرة خاصة: تقلبات جوية منتظرة بعد الظهر..    تحذير من رياح قوية تتجاوز 80 كلم/س الليلة    بطاقة إيداع بالسجن في حق إطار أمني على خلفية قضية مخدرات    عاجل/ حجز أطنان من السكر والفرينة المدعّمة واعادة ضخها بهذه الأسواق..    وزارة الشؤون الدّينية تصدر بلاغ هام بخصوص العمرة..#خبر_عاجل    دولة جديدة تنضم إلى قائمة مرشحي ترامب لجائزة نوبل للسلام    مبعوث ترامب يصل إلى مركز توزيع المساعدات في رفح    من ڨبلي لتونس الكبرى: نجاحات طبية في شهر جويلية تفرّح القلب    وزير الشؤون الدينية يُعاين جامع قرطاج ويقرّ جملة من إجراءات الصيانة    وزارة التجارة تعلن عن تحديد أسعار قصوى للبطاطا وهوامش ربح للأسماك بداية من 4 أوت    لطفي بوشناق يتغنى بالوطن والمرأة على مسرح مهرجان الحمامات الدولي    عاجل/ فاجعة في حفل محمد رمضان بالساحل الشمالي وسقوط ضحايا..    مونديال الكرة الطائرة U19: تونس تحقق أول فوز على الجزائر وتقترب من المركز 21    الرابطة الأولى: ثنائي أجنبي يعزز صفوف الشبيبة القيروانية    بيغريستين يترك منصبه كمدير للكرة في مانشستر سيتي    الرابطة الأولى: مستقبل المرسى يكشف عن آخر التعاقدات إستعدادا لقادم الإستحقاقات    مباراة ودية: شباب بلوزداد الجزائري يواجه اليوم الخور القطري    برنامج الجولة الافتتاحية: شكون يفتتح الموسم بأداء قوي؟    ''شوف كيفاش تشري تذكرتك لكأس السوبر 2024 بين الترجي والبقلاوة!''    للتوانسة: الصولد الصيفي ينطلق نهار 7 أوت... هذا هو اللي يلزمكم تعرفوه!    اليوم…هيئة إدارية قطاعية للتعليم الأساسي..وهذه التفاصيل..    جوان وجويلية: شنوّة اللي صار في طرقات تونس؟ قتلى بالجملة وصدمات بالجملة!    خمسة جرحى في حادث مرور خطير..#خبر_عاجل    جريمة مروعة: ينهي حياة زوجته بسبب خلافات بينهما..    أحمد ونيس: زيارة ميلوني لتونس لم تكن مفاجئة بل تحمل رسائل أوروبية بشأن الهجرة وفلسطين    بسبب الألعاب النارية.. قتيل ومصابون في حفل لمحمد رمضان    شنوّة جايك اليوم؟ أبراجك تكشف أسرار 1 أوت!    هل يمكن لمن قام بالحج أن يؤدي عمرة في نفس السنة؟    وزارة الصحة تدعو إلى الإقبال على الرضاعة الطبيعية خلال الستة أشهر الأولى من عمر الطفل على الأقل    اكتشاف فصيلة دم غير معروفة عالميا لدى امرأة هندية    82% من الصغار ما ياخذوش رضاعة طبيعية حصرية: شنوة السبب؟    عاجل: تعرف على الحكم الذي سيدير لقاء السوبر بين الترجي والبقلاوة    عاجل/ ظاهرة كونية غامضة تهدد الأرض وتثير ذعر العلماء..الناسا تدق ناقوس الخطر..ما القصة..؟!    تطورات جديدة في كارثة حفل محمد رمضان في الساحل الشمالي    جامعة النقل: ''اللي صار موش تهديد، هذا صوت شعب يخدم بصمت''    عاجل/ رئاسة الجمهورية تكشف فحوى لقاء سعيد بميلوني..    عاجل/ إيران تفجرها وتحسم: لا عودة للمفاوضات قبل دفع الثمن الأمريكي..    تناقض مبادئنا".. فرنسا ترفض "صفقة القرن" الأوروبية مع واشنطن    ترامب ينفق ملايين الدولارات لبناء قاعة الرقص في البيت الأبيض    الدين القيّم... واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق    صيف المبدعين: الكاتب شفيق غربال: أصيافنا قلّت فيها المغريات والملهِيات    خطبة الجمعة: أمسِكْ عليك لسانك    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    عاجل: الدّكتورة آمنة حريقة تفوز بجائزة أفضل مشروع بحث علمي نسائي لسنة 2025    توقعات بنزول أمطار: ديوان الحبوب يدعو الى أخذ الاحتياطات اللازمة    فريق الهيئة الوطنية للسلامة الصحية بالقيروان يحجز ويتلف كميات ضخمة من اللحوم الفاسدة    حفريات معبد تانيت...التوصل الى اكتشافات هامة    الاتحاد الاوروبي يشرع في تطبيق استثناءاتٍ لفائدة بعض المنتجات النسيجية التونسية    وزارة التجارة تكشف نتائج نشاط المراقبة الاقتصادية خلال هذه الفترة..    عمرو دياب يُفاجئ الجمهور: بكليب ''خطفوني'' بمشاركة ابنته جانا    المعهد الوطني للتراث يستعيد ست قطع أثرية تمت إعارتها إلى معهد العالم العربي بباريس منذ سنة 1995    من طبرقة إلى جرجيس: كل الشواطئ مفتوحة أمام التونسيين هذا الويكاند    باحثون يطورون علاجا لهشاشة العظام...تفاصيل لا تفوتها    ناصيف زيتون يشعل مسرح قرطاج: ليلة عشق وأغنيات بصوت جمهور واحد    طقس الخميس: درجات الحرارة في ارتفاع طفيف    نجاح أول عمليات منظارية على الأربطة المتقاطعة بالمستشفى الجهوي بقبلي..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس, المخاض الصعب
نشر في باب نات يوم 16 - 07 - 2012


بقلم المهندس شكري عسلوج
حلقات المسلسل الميلودرامي المُترع بالمُضحكات المُبكيات الذي نعيشه كل يوم, والأحداث التي تتواتر وتتسارع على نحو مُذهل لا ينبئ بخير, والعناوين الصادمة حول مظاهر العنف والانفلات التي تتصدر الصحف ونشرات الأخبار, والسجالات السياسوية والحوارات البيزنطية التي نُفيق عليها وننام, واللغط الإعلامي المُضلل والمُنحاز الذي يسعى أن يكرّس الاعتقاد لدينا, بأن الوطن يتدحرج نحو الهاوية وقد بات على كف عفريت, كل هذا لا يعطي للمواطن التونسي أية فرصة لكي يلتقط أنفاسه ويستعيد وعيه ويستشف حقيقة وكُنه ما يدور حوله, الشيء الذي يجعله يجنح نحو التوتر والقلق والارتباك وحتى العنف أحيانا ويتزعزع يقينه بأن الثورة ما جاءت إلا ليكون حاضر تونس أفضل من أمسها وغدها أفضل من حاضرها. اختلط علينا الحابل بالنابل فيما نراه ونسمعه كل يوم, حيث يُعلن عن الخبر ليُكذّب في الإبّان وتروج الإشاعة ليأتي تفنيدها بعد حين. لم يعد بإمكان التونسي العادي أن يجزم من الصادق ومن الكاذب, ومن الأمين ومن المُتحايل, ومن يريد بالبلاد والعباد الخير العميم ومن استبطن لنا الشرّ المُستطير.
إن فهم الحاضر يمرّ حتما بمعرفة وفهم التاريخ, لهذا سأسعى من خلال هذا المقال أن أستند إلى التاريخ لتدعيم ما سأطرحه من أفكار وتحاليل وأسوق لكم بادئ ذي بدء, مُقتطفات من خطابات لثلاث شخصيات
سياسية بارزة, شكّلت علامات فارقة في تاريخ أوطانها ووضعت بصماتها على الأحداث الجمّة التي شهدها القرن العشرون وأسهمت بذالك وبشكل بارز في صياغة التاريخ المعاصر كما نشهده اليوم.
لمّا كانت رحى الحرب العالمية الثانية تدور بدون هوادة, والدول الأوروبية تتساقط كأوراق الخريف وينفرط عقدها أمام الزحف العرم للجيوش النازية, ولمّا وقفت الجحافل الألمانية أمام مضيق المانش كآخر خط دفاع طبيعي يحول دون الهجمة الأخيرة, للإجهاز بالضربة القاضية على الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس, إذاك جاء انتخاب ونستون تشرشل ليخلف نيفيل تشامبرلين على رأس الحكومة البريطانية. في هذا الظرف الحرج, صرّح تشرشل بتاريخ 13 ماي / مايو 1940، في خطاب تنصيبه أمام مجلس العموم : "اسمحوا لي أن أقول لكم كما قلت من قبل لأولئك الذين انضموا إلى الحكومة, أنه ليس لدي ما أقدمه لكم سوى الدم، والكدح، والدموع والعرق ". هذا الكلام الصادق والذي لا يُخفي شيئا من المخاطر والتهديدات التي حاقت بالوطن, لم يكن ليُخطئ هدفه في استنهاض همم وشحذ عزائم الإنجليز, لكي يهبوا هبة رجل واحد ويستميتوا في القتال, حتى ينقذوا أنفسهم وأهليهم ووطنهم من عار الهزيمة وذل الخضوع للعدو. في هذا السياق لن تفوتني الإشارة لمن كان لا تعوزه القدرة على فك رموز التاريخ وإدراك كُنهه وإسقاطه على واقعنا, بأن الإنجليز لم يُجدّدوا الثقة في ونستون تشرشل أو الأسد العجوز كما كان يحلو لهم كنيته, ولم يُعيدوا انتخابه على رأس الحكومة البريطانية رغم الحظوة والمكانة المرموقة التي كان يتمتع بها كبطل قومي, خرج مظفرا من الحرب العالمية الثانية وأنقذ بلاده من هزيمة نكراء, بدت من قبل توليه مقاليد الحكم, حتمية ولا مناص منها.
في 27 أفريل / نيسان 1961 أدلى الرئيس جون كينيدي بخطاب أمام الرابطة الأمريكية لناشري الصحف والتي اقتطفت لكم منه النص التالي: " السرية, هي كلمة بغيضة في مجتمع حر ومنفتح بطبيعته, وبالنظر لهوية شعبنا وتاريخه, فنحن نعارض الجمعيات السرية والبيعات السرية والمخططات السرية. وكوننا نواجه في جميع أنحاء العالم مؤامرة واسعة النطاق لا هوادة فيها, تعتمد أولا وبالذات على طرق المغالطة والتخفي لبسط النفوذ وذلك بتوخي التسلل بدلا من الغزو المباشر, وإشعال الفتن بدلا من الانتخابات الحرّة, والترهيب بدلا من ترك المجال للإرادة الحرة. هذا النظام أستوجب إرساءُ دعائمه, مواردا بشرية ومادية ضخمة من أجل بناء آلة متماسكة وفعالة بشكل ملحوظ. إذ يجمع بين الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والعلمية والسياسية. برامج هؤلاء تُحاك في كنف السرية ولا يقع الإعلان عنها, وأخطائهم يتم تجاهلها ولا يجرأ أحد على التشهير بها في وسائل الإعلام, ومنتقدوهم ومعارضوهم تُكتم أصواتهم وتُكمّم أفواههم ولا يُسمح لهم بإبداء رأيهم وتقديم مشورتهم, ونفقاتهم لا يُساءلون عنها وأسرارهم لا يتم كشفها. لأجل ذلك فقد أفتى المُشرّع الأثيني سولون بتجريم كل مواطن لا يكترث بالشأن العام. إني أطلب مساعدتكم في هذه المهمة الهائلة من أجل إعلام وتنبيه الشعب الأمريكي بهذا الأمر الجلل, وأنا على ثقة من أننا وبمساعدتكم يُمكن لنا أن نعيش كما ولدتنا أمهاتنا : أحرارا ومستقلين. كلنا نذكر أن الرئيس الأمريكي الأكثر شعبية, قد عرف في وقت لاحق نهاية مأساوية, عندما اخترقت رصاصات رأسه وأردته قتيلا لما كان في زيارة رسمية, يجوب شوارع دالاس على متن السيارة الرئاسية المكشوفة برفقة زوجته جاكلين, في يوم 22 نوفمبر / تشرين الثاني 1963 وذلك على الأرجح من أجل مواقفه المعلنة هذه.
في ختام مسيرة إلى واشنطن للمناداة بالعمل والحريات وعلى مدرجات النصب التذكاري لأبراهام لنكولن, الرئيس الذي ألغى العبودية, ألقى مارتن لوثر كينغ , الزعيم الكاريزمي للحركة المطالبة بالحقوق المدنية للزنوج, خطابه التاريخي الشهير: "لدي حلم". في هذا الخطاب, يتجلى وبوضوح رؤية كينغ لأمريكا, يسودها الحق وتعم فيها المساواة ويُلغي فيها الفصل والتمييز العنصري حتى يتمكن الأمريكيون, سواءا أكانوا بيضا أو سودا من العيش كمواطنين في كنف الوئام وعلى قدم المساواة. وقد أنصف التاريخ هذا الزعيم الفذ, حيث وقّع الرئيس ليندون جونسون بتاريخ 2 جويلية / يوليو 1963 على قانون الحقوق المدنية, الذي وضع جميع المواطنين الأميركيين من مختلف الأعراق والإثنيات, على قدم المساواة أمام القانون. لكن .التاريخ يخبرنا مع الأسف أيضا, بأن هذا الزعيم, دفع حياته ثمنا لنضالاته وتمسكه الراسخ بمبادئه, حيث تم اغتياله بتاريخ 4 أفريل / أبريل 1968 بعد تعقبه طويلا من طرف أجهزة المخابرات والعصابات العنصرية المتطرفة.
أرى هذه الخطابات الثلاث, مفعمة بالدروس والعبر التي يُمكن استخلاصها, لهذا فإني أرى أنها تستحق وتستوجب أكثر من قراءة واحدة. أما إذا أردنا استقراء أوجه الشبه مع أحوالنا وتنزيلها على واقعنا المُعاش, فأقول حينئذ بأن تونس ستستفيد أيما فائدة وسيعمّها الخير والسؤدد حتما, إذا حبانا الله برجال ونساء في قيمة وحجم هؤلاء الزعماء الثلاث, يمسكون بزمام المشهد السياسي الوطني ولا يتركون المجال رحبا لكل من دب وهب, من مهرجين ووصوليين ومنافقين وكذابين ومتآمرين وعملاء ومحرضين ومخربين وفاسدين وانتهازيين ورويبضات ومجانين ومشعلي الفتن وسليطي الألسن. من الواضح أن هذه الأوصاف لا تنطبق بأي شكل من الأشكال على كل الفاعلين في المشهد السياسي الوطني فلنا في نُخبنا والحق يُقال, رجال ونساء أفذاذ من مختلف التيارات السياسية والفكرية, ممن قارع الظلم والاستبداد في سنوات الجمر وتصدى للطاغية وهو في عنفوان جبروته وتحمل الأذى والانتهاكات دفاعا عن قيمه, ومنهم من يتحمل اليوم المسؤولية بجدارة وإقتدار ويعمل ليلا ونهارا لإصلاح ما أفسده الدهر وما أفسدته يد الإنسان خلال عقود القهر والاستبداد المنصرمة, وهم لأجل ذلك جديرون بكل الاحترام والتقدير.
ثم إننا في أمسّ الحاجة إلى سياسيين من طراز تشرشل لديهم من الشجاعة والصدق ليقولوا للناس ما يجب أن يُقال ولا يقولون ما يستسيغ الناس سماعه. أجل, نحن بحاجة إلى سياسيين يقولون بأنهم ليس لديهم ما يعطونه للشعب التونسي إلاّ الدم والكدح والدموع والعرق مع التأكيد, ونظرا بأننا لسنا في حالة حرب مع عدو خارجي وأننا أبعد ما نكون عن حرب أهلية, فإن الدم إن قُدّر له أن يسيل في ربوعنا, فلا ينبغي أن يسيل إلا في مواقع الإنشاء والتعمير والإنتاج وليس جرّاء مواجهات ضارية في شوارع العاصمة وغيرها من مدن البلاد, بين متظاهرين مُتنطعين ومُنحرفين مأجورين ومليشيات مُسيّسة من جهة وبين قوات الأمن من جهة أخرى أو جرّاء مشاجرات دامية بين عروش وقبائل في المناطق النائية من أجل أسباب واهية وأحقاد متوارثة وضغائن دفينة عفي عنها الزمن أو هكذا ظنننا.
إن من أوكد الواجبات الوطنية الملقاة على كواهل سياسيينا ومثقفينا ودُعاتنا ومبدعينا وعلى كل من يختلج في صدره نفس مُحبّ لهذا الوطن, هو إيقاف هذا الجنون وهذا المدّ الانتحاري والقاتل في ذات الحين, الذي لن يُبقي ولن يذر إذا ما تواصل تأجيج الفتن واستقطاب المجتمع وتكريس الخلافات وتدنيس المقدسات والتطاول على هيبة الدولة وتحدي مؤسساتها والعبث بكل ما يكفل للمجتمع تماسكه والنيل من كل ما يعطي للدولة رمزيتها. من البديهي أن يعي كل ذي بنان, بأن من يسعى إلى خرق السفينة وهو على متنها, بأنه وإن نجح في أن يُغرق أخاه, فأن مصيره لن يكون بأحسن حال منه وستنهش الحيتان جثته في أعماق اليمّ ويلعنه التاريخ ويلعنه اللاعنون.
كلنا نرى ولا نكاد نصدّق بأن شرائح واسعة من الشعب التونسي قد عزفت, منذ أن انبلج فجر ثورة الحرية والكرامة, عن العمل الجاد والبنّاء, وانخرطت في منطق التخريب المُمنهج, والاعتصامات الاحتجاجية, والمطلبية الفئوية المجحفة متعللة بدرء المظالم واسترجاع الحقوق دون أن يُدرك هؤلاء بأن الأطراف التي تُحرّضهم على ذلك, إنما هي في حقيقة الأمر تقول حقا أُريد به باطل وتتستر خلف الشعارات وتتاجر بعذبات واحتياجات الناس من أجل خدمة أجندتها الخاصة, والتي تتذيل فيها المصلحة الوطنية قائمة اهتماماتها. أظن أنه من اليُسر بمكان, أن نُدرك بأن السماء لن تُمطر علينا ذهبا ولا فضة وأن نعي بأن رزقنا لن يأتينا رغدا إلاّ بالعمل المضني, وبالصبر على المكاره إلى حين, وبإعمال العقل في تحديد الأولويات, وبتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصّة, وتلك لعمري هي الخصال دون غيرها التي ستكفل لنا الوصول إلى برّ الأمان وتحقيق أهداف الثورة من كرامة وحرية وعدالة وتشغيل ورفاه وأمن وأمان. علينا جميعا أن نسفّه أحلام كل من يحرضنا على قطع الطرق, والإضرابات المتكررة, والاعتصامات العشوائية, والإضرار بالأملاك الخاصة والعامة, ومنع العمال من الالتحاق بمقرات عملهم ويضحك على ذقوننا في حملاته الانتخابية ويعدنا بأن أنهار اللبن والعسل ستتدفق في ربوعنا وسيتحصل كل منا على مرتب مجزي ووظيفة حكومية مريحة وبسكن لائق وتعليم متطور وخدمات صحية راقية ومجانية وأن كل ما يجب علينا فعله لنيل ذلك هو التنديد بالحكومة والتطاول عليها وعرقلة مشاريعها والتظاهر المستمر ضدها.
إن خطاب الرئيس كينيدي, والذي يتحدث فيه عن مؤامرة عالمية لا هوادة فيها, تستهدف بسط النفوذ على كل المعمورة وسلب إرادة الشعوب وتوصيفه للموارد والإمكانيات الهائلة التي بحوزتها وللأساليب والإستراتجيات التي تنتهجها, هو كفيل بأن يُنير بصائرنا لفهم ما يدور في ربوعنا على نطاق ضيق. لم يخطر إذاك ببال أحد من الأمريكان أن يدّعي بأن كيندي ما لفّق نظرية المؤامرة هذه, إلا لصرف أنظار الشعب الأمريكي عن عجزه وقلة حيلته وإخفاء, عدم كفاءة وأهلية حكومته, عن الرأي العام كما أُتهم بعض وزرائنا عندما ألقوا بقنبلة إعلامية, تتمثل في تحذير الرأي العام من وجود حكومة ظل تعمل جاهدة وبإمكانيات ضخمة على إجهاض ثورة الشعب التونسي والالتفاف عليها ثم عن وجود مؤامرة برعاية جهات أجنبية وقوى مُتنفذة, تسعى للانقلاب على الحكومة الشرعية المُنتخبة بإرباكها واختلاق البلبلة والفوضى والعنف بشتى الوسائل وفي كامل ربوع الوطن وذلك لإقامة الحجة على فشلها وتبرير إسقاطها. كلنا سمعنا عن الماسونيين, والمجمع الصناعي العسكري, والمتنورين, وفرسان الهيكل, ولوبيات رؤوس الأموال العالمية وغيرها من المنظمات السرية, التي تملك من أسباب التأثير والقوّة ما يكفي لإعلان الحروب, وإسقاط الحكومات, وإطلاق الثورات وإجهاضها, وتدمير الاقتصاديات, واختلاق الأزمات, والتلاعب بالشعوب, والتسبب في الجوائح (أنفلونزا الخنازير) لحقن أمصال مشكوك فيها على نطاق واسع وبشكل انتقائي, وحتى فسخ دول من على وجه البسيطة وإحلال أخرى محلها (العراق). إن زلزال الثورة التونسية والتسونامي الذي أحدثه والارتجاجات الارتدادية التي أعقبته والتي ما زلنا نعيش على وقعها, جاءت في توقيتها وحجمها ونتائجها, من حيث لم تحتسب له تلك الدوائر, التي تحرص على بقاء العرب والمسلمين, متخلفين وجاهلين ومتناحرين, يئنّون تحت نير الاستعمار الداخلي والخارجي إلى أبد الآبدين, كخيار استراتجي يرتبط به بقائهم أو فناؤهم. لقد أُخذت تلك الدوائر على حين غرّة, حين تفجر بركان الغضب العربي وأودى بالأنظمة التي نصبتها لتعمل لصالحها وعلى حساب شعوبها وتغيرت بذلك الموازين الجيوستراتيجية, التي عملت لإرسائها منذ أمد طويل, في فترة بدت قياسية. أما الآن وبعد الاستفاقة من هول الصدمة واسترجاع التوازن فأن هذه القوى تحاول من جديد, الأخذ بزمام الأمور وإعادة توزيع الأوراق والأدوار من أجل استعادة مناطق النفوذ وذلك للحيلولة دون بلوغ الإنسان العربي مُبتغاه في أن يعيش كما ولدته أمّه : حرّا ومستقلا.
لا يختلف اثنان على أنه ما من مؤامرة إلاّ ويكون مآلها الفشل الذريع إذا ما تم الكشف عن معالمها وفضح مآربها أمام الجمهور العريض. لهذا السبب طلب الرئيس كينيدي في خطابه المذكور آنفا, من الإعلاميين مساعدته في توعية وتحذير الشعب الأمريكي مما يُحاك ضدّه في الخفاء وفي عتمة المحافل السرية. وفي ذات السياق, يتوجّب على التونسيين سواء أكانوا من الناشطين المُغرّر بهم أو من الأغلبية الصامتة, أن يتوجسوا من كل محاولة تحت أي مُسمّى ومن أي طرف كان, للإطاحة بحكومة شرعية مُنتخبة مهما كان لونها, وذلك بانتهاج العنف والتخريب والتخويف والتزييف والفتن وبازدراء تام لقواعد الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي على السلطة عبر انتخابات حرّة وشفّافة ونزيهة. إن وعينا المشترك بما يحاك ضدنا, هو وحده الكفيل بأن يُفوت الفرصة على المتآمرين, الذين يسعون ليلا نهارا ولا تُعوزهم حيلة لإعادة الشعوب, التي تتحسس طريقها نحو الحرية والكرامة, إلى نير الرق والقهر والعبودية, حتى تتمكن القوي الخفية والمهيمنة على مقدرات الشعوب من بلوغ مآربها في السيطرة على العالم كما أخبرنا كيندي قبل أن يُلبي نداء خالقه في أشهر حادث اغتيال سياسي, هزّ العالم آنذاك.
لذا, فأني أدعو نوّاب الشعب في المجلس الوطني التأسيسي وهم بصدد إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وصياغة دستورها, لأن يستأنسوا بالوكالة الفدرالية الألمانية لحماية الدستور, وذلك لإنشاء جهاز استخباراتي وأمني جمهوري, يوضع تحت رقابة برلمانية صارمة وتوكل إليه مهمة حماية الثورة والدستور وحرية الشعب التونسي من كل المخاطر التي تتهدّدها, وذلك حتى لا يستسيغ ويستسهل كل من تسول له نفسه من الداخل والخارج, التآمر على وطننا الحبيب والعبث بحاضرنا ومستقبل أبنائنا.
وأخيرا فإننا بحاجة لمارتن لوثر كينغ تونسي يحدثنا عن الحلم التونسي وليس عن أضغاث أحلام البعض من نخبنا, ويُبشرنا ببلد يعمّه الأمن والخير والرفاه, وبدولة عادلة يكون فيه القوي ضعيفا حتى يُأخذ الحق منه والضعيف قويا حتى يُأخذ الحق له وبمجتمع متماسك تكون العلوم الصحيحة والأخلاق الحميدة والعمل البنّاء نبراسه وقواسمه المشتركة. وحتى لا يبقى الكلام مجرد هراء, فنحن وبالخصوص في أمسّ الحاجة لمن ينير لنا الطريق ويمهد لنا الدرب ويترجم الرؤى والأحلام لبرامج عمل, واقعية وعقلانية وذات مصداقية, تمكننا من تحقيق الحلم الذي طال انتظاره والمُتمثل في عودتنا إلى التاريخ, كخير أمّة أُخرجت للنّاس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.