بقلم الأستاذ بولبابة سالم تصرّ النّخب المنبتّة عن واقعها و مجتمعها على محاولة السّطو على الثورة بإثارة قضايا لم تكن من أهداف ثوّار سيدي بوزيد و القصرين و الحوض المنجمي و مجمل الشباب التونسي. هؤلاء المتغرّبون و أنصار الرّؤية الغربية لتحرير المرأة يريدون فرض رؤية الأقلية على الأغلبية و ممارسة دكتاتورية جديدة على الشعب باسم الحداثة – كما يفهموها – و يجدون في الإعلام المرتبك و أحيانا الموالي لأفكارهم منبرا لنشر أفكارهم – وهو حقّهم – و لكن الأخطر هو محاولة فرضها مستندين إلى بعض المنظمات الدولية التي تموّلهم و تتماهى مع أفكارهم. في خضم النقاش حول مسودة الدستور كثر الحديث على ضرورة التنصيص على كونية حقوق الإنسان وهي بدعة لم نجدها في الكثير من الدول العريقة في الديمقراطية , فمن المعلوم أن كل المجتمعات تسعى للحفاظ على خصوصياتها الحضارية و الثقافية , وهل يوجد مجتمع بدون قيم و أخلاق يسعى لحمايتها . و الأخطر أن هؤلاء المتطرفين اللائكيين سواء كانوا أفرادا أو جمعيات أو منظمات لا يعلنون صراحة عن المحاذير الخطيرة المترتّبة عن هذا الأمر و الذي يصطدم مباشرة بالقيم الدينية للشعب التونسي و ذلك جزء من نفاقهم الذي مارسوا بعضه في الحملة الإنتخابية بادّعاء التمسك بالهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي ثم الإلتفاف عليها بعد ذلك , وهم يمارسون مختلف أنواع الضغط و الإحتجاج بالعويل و الصياح في الساحات و أمام المجلس الوطني التأسيسي, هم يتوهّمون أنّهم يحرجون النهضة لكنهم في الحقيقة يقدمون لها خدمة مجانية لأنها تجعلهم في صدام مع المجتمع. سأكشف ما يتخفّى وراءه هؤلاء : إن التنصيص على كونية حقوق الإنسان – و رغم الكم الكبير من الإيجابيات و الحقوق الواردة فيه- يعني أيضا الإقرار بالمسائل التالية : 1/ حقّ الحياة أي إلغاء عقوبة الإعدام. 2/ المساواة التامة بين الجنسين : أي المسّ من منظومة الميراث في منظومتنا القانونية و في الشريعة الإسلامية. 3/ حق الإنسان في التصرّف في بدنه : أي حق المثلية الجنسية . بالنسبة للمسألة الأولى فإنها تتناقض مع نصّ قرآني صريح " و لكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب " , ففي المنظومة التشريعية الإسلامية فإن حفظ النفس هو المقصد الأول للشريعة الإسلامية وهو الذي يؤكّده بقوّة الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور. فالقصاص هو لضمان سلامة النفس البشرية من أي تهديد لحياتها فشدّة العقوبة هو لتبيان هذا المقصد , و قد سوّى القرآن الكريم النفس الواحدة بجميع الأنفس للدلالة على مكانة النفس البشرية , قال تعالى : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " . أما المسألة الثانية فلم يجبنا أصحاب هذا الطرح على السؤال التالي : هل نبيح في بلدنا زواج الشواذ و المثلية الجنسية ؟ و هل هذا الأمر من أهداف الثورة ؟؟؟؟ بالنسبة للمسألة الثانية, فهي كلمة حق أريد بها نقض نص ديني أصيل بل و تهديد منظومة تشريعية و قانونية تونسية كاملة وهو المساواة في الإرث بين الذكر و الانثى , وهذه المسألة لم يفرضها حتى بورقيبة – و لا أظنهم أثر منه علمانية – و قد حاول ذلك لكنه رفضها عندما لم يجد مخرج شرعي و سند ديني صريح . و الواقع أن هؤلاء يقعون في جهل واضح لما تقرّه الشريعة الغسلامية في باب الإرث و يكتفون بالقراءة السطحية دون عناء النظر و الدراسة , ربّما لأنّ المنظومة التشريعية الإسلامية غير مكتوبة باللغة الفرنسية . الميراث في الشريعة الإسلامية يخضع لثلاثة مستويات كما يقرر ذلك الدكتور محمد عمارة : 1/ درجة القرابة : فكلما كانت القرابة بالمتوفّي أكبر زاد النصيب في الميراث سواء كان ذكرا أو أنثى. 2/ موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال : فالأجيال التي تستقبل الحياة يكون نصيبها أوفر من الأجيال التي تستدبر الحياة .و ذلك بصرف النظر عن الذكورة و الانوثة للوارثين فالبنت ترث أكثر من الأم – و كلتاهما أنثى – و الإبن يرث أكثر من الأب – و كلاهما من الذكور . 3/ في حالة تساوي درجة القرابة و الجيل فإن الذكر الوارث مكلف بإعالة أنثى- زوجة- بينما الأنثى فإعالتها فريضة على الذكر المقترن بها , وهو تمييز محدود , قال تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " { النساء 11 }. و يغفل الكثيرون أو يتغافلون عن حالات يكون فيها نصيب الأنثى أكثر من نصيب الذكر في الميراث { أنظر كتاب "ميراث المرأة و قضية المساواة " للدكتور صلاح الدين سلطان}. للأسف الشديد ما نشهده اليوم هو صراع بين نخب لم تكن جزءا من الثورة التي اندلعت من أجل التشغيل و رفض التهميش و المطالبة بالكرامة و الحرية . و الشعب التونسي لم يرفع شعارات دينية لأنها من المسلمات . و أرجو ممّن يرفعوا مطلب كونية حقوق الإنسان أن يدرسوا جيّدا نتائج الإنتخابات فمن يعادي هويّة الشعب فقد قرّر الإنتحار السياسي.