أميركا والصين تتوصلان لاتفاق لوقف حرب الرسوم الجمركية    جريمة قتل في حفل زفاف بحاسي الفريد    كأس تونس لكرة السلة: النادي الإفريقي والاتحاد المنستيري وجهاً لوجه في نهائي واعد يوم 1 جوان    الترجي الرياضي يتسلم رمز البطولة يوم الخميس القادم    عاجل: ترامب: سأعلن بعد قليل عن الخبر الأكثر أهمية وتأثيرا على الإطلاق    بنزرت: جلسة عمل حول السوق المركزي    الجزائر تطالب بترحيل جميع الموظفين الفرنسيين الذين تم تعيينهم في ظروف مخالفة للإجراءات    مصر.. وفاة قاضي محاكمات مبارك ومرسي وصاحب أول حكم بإعدام رئيس سابق    الدورة الثامنة من المهرجان الدولي لفنّ السيرك وفنون الشارع.. عروض من 10 دول تجوب 10 ولايات    جوائز هامة لمسرحية «ضفائر طيبة»    عاجل: هذا موعد تسليم رمز بطولة الموسم للترجي الرياضي التونسي    زيارة ترامب الثانية إلى السعودية .. صفقة قرن ثانية ؟    مع الشروق :عاجل إلى وزارة التربية    وزير السياحة يعلن عن إحداث منطقة سياحية بمدينة الكاف    مرصد الطاقة: ارتفاع إجمالي عدد التراخيص سارية المفعول إلى 15    المرسى القديم ببنزرت يحتضن فعاليات الدورة الثانية لتظاهرة " عودة الفينيقيين"    افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة    الحبيب عمار يكشف: 5 % هو نصيب إفريقيا من السياحة العالمية    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    بلاغ وزارة الصحة إلى الحجيج سلامتكم مسؤوليتنا الكلّ    المهدية: جولة جديدة لمصارعة المجالدين بالمسرح الأثري بالجم ضمن مهرجان الايام الرومانية    كاس العرب للمنتخبات لكرة اليد: المنتخب التونسي ينهي مشاركته في المركز السابع    وزير السياحة يعلن عن إحداث منطقة سياحية بمدينة الكاف    ندوة إقليمية حول جرائم قتل النساء في تونس والمغرب والأردن يوم الإربعاء القادم بالعاصمة    شركة تونسية ناشئة تجدّد حلا من أجل تيسير النفاذ إلى المياه والحدّ من التلوث البلاستيكي    عاجل : تحذيرات صحية هامة للحجيج التونسيين    أردوغان: مستعدون لاستضافة المحادثات بين روسيا وأوكرانيا    مرصد سلامة المرور: ارتفاع عدد قتلى حوادث الطرقات    تطوّر صادرات القوارص التونسية ب46 % واستكشاف أسواق جديدة    جمعية "آلارت" تقترح مبادلة القمح الصلب لتفادي ضياع المحصول وتدعو إلى إصلاح شامل لقطاع الحبوب    زغوان: تسجيل فائض في التفريخ الطبيعي لخلايا النحل بحوالي 12 ألف خلية جديدة خلال 3 اشهر (رئيس مجمع التنمية لمربي النحل)    التونسي نصر الدين نابي يقود كايزر شيفز نحو التتويج بكاس جنوب افريقيا    غدا.. جلسة عامة بالبرلمان للحوار مع وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية    خولة سليماني: "اليوم أشعر أنني حرة أكثر من أي وقت مضى"    وفاة "كروان الإذاعة" عادل يوسف    القيروان: الدورة الثانية لمسابقة المطالعة بالوسط الريفي    مدينة العلوم بتونس تنظّم يوم الاثنين 26 ماي سهرة فلكية بعنوان السماء الرقمية : علوم البيانات والذكاء الاصطناعي""    مداهمة وكر لصنع مواد مسكرة..وهذه التفاصيل..    النادي الافريقي ينعى المحب ومغني الراب "كافون"..    نحو تحسين الوضع البيئي بالحمامات: زيارة ميدانية لوزير البيئة ومحطة ضخ جديدة بشاطئ ياسمينة قيد الدراسة    رئيس وزراء باكستان: سيذكر التاريخ كيف أسكتنا الجيش الهندي    حالة الطقس ليوم الاحد    كلاسيكو ناري اليوم بين برشلونة و ريال مدريد : التوقيت    الجمهور بصوت واحد: النجم فخر الانتماء    النجم يحتفل بالمائوية: مسيرة حافلة بالتتويجات والانجازات    وداعا كافون    المرض الذي عانى منه ''كافون''    عاجل : أحمد العبيدي '' كافون'' في ذمة الله    القصرين: أكثر من 1400 تلميذ ينتفعون بخدمات قوافل طبية حول صحة الفم والأسنان    اختصاصي أمراض القلب: قلة الحركة تمثل خطراً صحياً يعادل التدخين    إصلاحات ثورية لتحسين خدمات تصفية الدم: نصوص قانونية و هذه التفاصيل    المهدية: إيقاف 3 أعوان بمستشفى الطاهر صفر بشبهة السرقة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    معهد البحوث الفلكية في مصر.. لا نتدخل في تحديد توقيت عيد الأضحى والأمر متروك للسعودية    الحكومة الألمانية الجديدة تواجه إرثاً من الصعوبات الاقتصادية    مجلس نواب الشعب ينعى الفقيد النائب نبيه ثابت    ملف الأسبوع: مهلكة عظيمة: لا تتتبعوا عوراتِ المسلمينَ... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ    منبر الجمعة: واعرباه. وا إسلاماه. هل من مجيب؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة التونسية، من ثورة جياع إلى ثورة عقول و قيم
نشر في باب نات يوم 09 - 08 - 2014


عبد الجليل الجوادي
تلعب الجمعيات دورا أساسيا في الدفع بعجلة التنمية في أي بلد بما تضخه من نشاط اجتماعي و اقتصادي لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه المؤسسات الرسمية. بل وربما كان دورها أكثر خطورة و أعمق أداءا في ضل تقهقر دور الحكومات و ارتفاع سقف الحريات لفائدة الشعوب على حساب الأنظمة الحاكمة. و قد سعت الدكتاتورية في العالم العربي و تحديدا في الدول التي انطلقت بها شرارة الثورة في ما يعرف بالربيع العربي، سعت إلى تقليص دور الجمعيات و حشرها ضمن دائرة ضيقة و دور محدود يقتصر على بعض الأعمال الخيرية التي تهدف في حقيقة الأمر إلى تلميع صورة الحاكم و إظهاره بمظهر الأب الراعي المتبصر باحتياجات شعبه و المتاجرة سرا بآلام الفقراء و المحتاجين كما كان الشأن بالنسبة لبعض الجمعيات على غرار جمعية بسمة المشبوهة أو جمعية أمهات تونس سيئة الذكر...فلم يكن للجمعيات قبل الثورة في بلادنا أي دور يذكر سوى أنها ديكور يحتاجه الدكتاتور لتطعيم المشهد السياسي المعتم ببعض الألوان الباهتة من باب ذر الرماد على العيون.
و لقد شهدت بلادنا بعيد انطلاق شرارة الثورة، انبثاق عدد كبير من الجمعيات و الأحزاب السياسية التي أسهمت في إعادة تشكيل المشهد السياسي و الاجتماعي من جديد لإحياء دور الجمعيات و خاصة منها ذات الطابع الاجتماعي لتمارس حقها الطبيعي في دفع عجلة التنمية الشاملة و العادلة و إرساء سلم اجتماعي يقض أركان الطبقية المجحفة حتى لا يبقى في بلادنا مكان لفقير معدم يمتلئ قلبه حقدا و كراهية لشركاء الوطن من الأثرياء الذين تتكدس بين أيديهم ثروات طائلة يحتارون في إنفاقها كما يحتار الفقير في تدبير قوته اليومي.
و أنا لا أقول هنا كلاما انشائيا لأدغدغ مشاعر الفقراء أو أحرك كوامن الاستعلاء في نفوس الأغنياء، و إنما أؤسس بجهد بسيط في إعادة تشكيل نظرتنا إلى مسألة الطبقية الاجتماعية و تحويل مسار الثورة التونسية من ثورة جياع مطلبية، إلى ثورة عقول و قيم تؤسس لواقع جديد قد لا يكون سهل المنال و لكن ليس مستحيلا.
أعود للقول بأن دور الجمعيات في تونس ما بعد الثورة، تضاعف ليحتل مكانا مركزيا ضمن آليات التنمية التقليدية بعدد كبير من الجمعيات تختلف أسماؤها و تتقارب أهدافها. و لكن هذا الدور على أهميته سيضل قاصرا أمام تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير و تراجع المقدرة الشرائية لدى شريحة كبيرة من المواطنين نتيجة الارتفاع المشط للأسعار و تجمد الرواتب و تفاقم سقف الاستهلاك حتى لم يبق في حياتنا ما هو ثانوي و أصبح كل شيء ضروري و أساسي لا غنى عنه. و أصبح للفقر معنى جديد خلافا للمعنى القديم. فالفقير اليوم من لا يمتلك مكيفا و المسكين من ليس له جهاز حاسوب و المعدم من لا يجد القدرة على اقتناء هاتف محمول...أما أولئك الذين تعوزهم الحيلة في تحصيل لقمة العيش، فلا أعلم لهم تصنيفا في هذا الوقت. و لربما صح اعتبارهم مواطنين من صنف ثالث حين تفقد المواطنة جميع معانيها.
في الواقع، الاحتياجات عديدة و متنوعة و الأفواه المفتوحة لا تقع تحت حصر و الإرث كبير كبير حين سقط القناع عن عمليات التجميل لأقلام مأجورة و قنوات ضلت ترزح لعقود من الزمان تحت وطأة التبعية للسلطة، فلا تظهر للعين إلا ما يعجب الدكتاتور و يروق لحاشيته المتملقة. فظهر الخور و تراءت صورة الفساد الذي شمل كل القطاعات بدون استثناء. و رأينا عدسات الأنباء تتجول كما لم تفعل من قبل بين الأحياء المقفرة و تغوص عميقا في أرجاء الوطن المنسي لتنقل لنا جزءا من الحقيقة سافرة بدون تزيين و لا تلبيس.
و قد بات من الضروري و من أولى الأولويات و أوكدها على الجمعيات الخيرية في بلادنا، أن توحد مناهجها و تعاضد بعضها البعض ضمن خطة عملية لمواجهة القادم، لاسيما و نحن على أبواب العودة المدرسية و عيد الأضحى و ما يتطلبانه من مجهود إضافي للإحاطة بالفقراء و الأيتام و تغطية احتياجاتهم في هاتين المناسبتين.
و تبقى هذه الأولوية بما تكتسيه من أهمية بالغة، مجرد مرحلة عابرة ضمن إستراتجية عمل بعيدة المدى يجب التفكير فيها بجدية وعمق. فإطعام الجياع و كسوة العراة ليسا الحل النهائي للمشكل بقدر ما هو تسكين للأوجاع و تأجيل للألأم من الجرح النازف فينا سنين طويلة. بل وجب الآن معالجة الجرح و إيقاف النزيف بتغيير العقول و تصحيح المفاهيم و تنمية القدرات الذاتية للأفراد حتى يكونوا جميعا شركاء في التنمية. و قديما قال المثل الصيني: لا تعطني سمكا و لكن علمني كيف أصطاد.
فمن تطعمه الآن، بعد قليل يجوع. و ستجد نفسك تدور معه في حلقة مفرغة تستنزف الجهد و المال بغير طائل. أما إن علمته كيف يحصل رزقه، فسوف تحل مشكلته نهائيا. و قبل أن تعلمه أن يأكل، علمه أن يفكر. و هنا مربط الفرس إن صح القول.
الدكتاتورية في بلادنا ضربت مقومات التنمية في الصميم حين ضربت قطاع التعليم و فقرت و صحرت المؤسسات التعليمية و التربوية من أدنى مقومات البحث العلمي و التكنولوجي ليتراجع مستوى التعليم لدينا بشكل كبير.
مؤسساتنا التعليمية تشكوا من نقص فادح في الإطارات و التجهيزات حتى الضروري منها. فأساتذة العلوم الطبيعية و الفيزياء و التقني لا يجدون ما يكفي من الأجهزة لتبليغ المعلومات للتلاميذ و يتقاسمون قاعات غير مهيأة أساسا لتأدية هذا الدور الخطير و يعولون على مجهوداتهم الفردية في تغطية النقص. و حين تسمح الفرصة لبعض المتفوقين من أبنائنا لمواصلة التعليم العالي بالخارج، يكتشفون حجم الهوة بيننا و بينهم و يشعرون أنهم قادمون من عالم آخر لنقل أنه عالم ثالث مثلما صنفونا.
و تبدو الصورة أكثر قتامة في الأرياف. هناك حيث تفتقر المدارس و المعاهد إلى أبسط مقومات العيش الطبيعي حتى لا نتحدث عن التحصيل العلمي. أقسام ترشح شتاءا و أبواب و نوافذ لا تقي من برد و لا من قيض. أطفال صغار لا يجدون وسائل نقل فيقطعون عشرات الكيلومترات يوميا مشيا على الأقدام في طريق غير آمن، ليتابعوا تعليمهم في ظروف قاسية و لا يجدون ما يسدون به رمقهم طيلة اليوم سوى بعض كسرة لا تسمن و لا تغني من جوع.
هؤلاء الذين نعول عليهم أن يكونوا إطارات عليا تعطي من جهدها و وقتها للتنمية حبا و ولاءا للوطن، فماذا قدم لهم الوطن؟
من هذا المنطلق، وجب التفكير جديا في توفير الدعم المستمر لأبنائنا التلاميذ من خلال إحياء المطاعم المدرسية و تعميمها خاصة في الجهات الفقيرة. و تمكين التلاميذ من لمجة صباحية و لمجة مسائية تخلصهم من ألم الجوع و توفر لهم أكبر قدر من التركيز في تحصيل العلوم.
و أنا أوجه من خلال هذا المنبر الإعلامي، دعوة ملحة إلى الجمعيات الخيرية و رجال الأعمال و الأحزاب و الجهات الرسمية، بأن يولوا قدرا كبيرا من العناية بقطاع التعليم. لنرصد تبرعاتنا و ما فاض و زاد عن حاجاتنا من المال لمساعدة أبنائنا التلاميذ بدلا من إهدار المال في مساندة جمعيات رياضية لم نجن منها سوى الفرقة و التناحر.
لا يمكن أن نحقق تنمية إلا من خلال التعليم. فبالعلم نبني صرحا عاليا من الحضارة و التقدم على أسس متينة و بعقول محلية تبني و تعمر بلدها بولاء و روح وطنية عالية.
الاستثمار في صناعة العقول قد يكلف الدولة أموالا طائلة و لكنه استثمار آمن. و سيكون لدينا في مستقبل الأيام إطارات كفئة يعول عليها في تحقيق احتياجات البلاد في جميع المجالات. و لن تكون التكلفة مشطه إذا تعاملنا مع الموضوع بقدر كبير من الوعي و أرسينا قواعد شراكة وطنية شاملة بين المؤسسات الرسمية و الجمعيات و رجال الأعمال و الإطارات التربوية في إطار برنامج وطني يعاد فيه الاعتبار لقطاع التربية و التعليم. و تتم من خلاله مراجعة كاملة شاملة للمناهج التربوية بإحياء القيم و المثل الأخلاقية حتى ننشأ جيلا غير منبت عن وطنه و لا متنكرا لأصوله و أخلاقه. و أيضا مراجعة مناهج التعليم العالي بفتح آفاق البحث العلمي و دعمه ماديا و أدبيا بما يتلاءم مع واقع الاحتياجات العلمية و التقنية. و لما لا، الدخول في شراكة مع بعض الدول المتطورة علميا للنهوض بالتعليم و القطع نهائيا مع الإرث الاستعماري القديم.
هذه بعض الأفكار قد تبدو للبعض مثالية صعبة المنال و لكن، أعظم الإنجازات في العالم بدأت بفكرة. متى وجدت عقولا واعية و آذانا صاغية و سواعد واعدة، سيكون المستحيل ممكنا. و لتكن ثورتنا ثورة عطاء و انجاز بدلا من المطلبية المجحفة. و ثورة عقول و قيم تؤسس لمستقبل واعد و تنمية شاملة و عادلة لا تستثني أحدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.