عبد الجليل الجوادي تلعب الجمعيات دورا أساسيا في الدفع بعجلة التنمية في أي بلد بما تضخه من نشاط اجتماعي و اقتصادي لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه المؤسسات الرسمية. بل وربما كان دورها أكثر خطورة و أعمق أداءا في ضل تقهقر دور الحكومات و ارتفاع سقف الحريات لفائدة الشعوب على حساب الأنظمة الحاكمة. و قد سعت الدكتاتورية في العالم العربي و تحديدا في الدول التي انطلقت بها شرارة الثورة في ما يعرف بالربيع العربي، سعت إلى تقليص دور الجمعيات و حشرها ضمن دائرة ضيقة و دور محدود يقتصر على بعض الأعمال الخيرية التي تهدف في حقيقة الأمر إلى تلميع صورة الحاكم و إظهاره بمظهر الأب الراعي المتبصر باحتياجات شعبه و المتاجرة سرا بآلام الفقراء و المحتاجين كما كان الشأن بالنسبة لبعض الجمعيات على غرار جمعية بسمة المشبوهة أو جمعية أمهات تونس سيئة الذكر...فلم يكن للجمعيات قبل الثورة في بلادنا أي دور يذكر سوى أنها ديكور يحتاجه الدكتاتور لتطعيم المشهد السياسي المعتم ببعض الألوان الباهتة من باب ذر الرماد على العيون. و لقد شهدت بلادنا بعيد انطلاق شرارة الثورة، انبثاق عدد كبير من الجمعيات و الأحزاب السياسية التي أسهمت في إعادة تشكيل المشهد السياسي و الاجتماعي من جديد لإحياء دور الجمعيات و خاصة منها ذات الطابع الاجتماعي لتمارس حقها الطبيعي في دفع عجلة التنمية الشاملة و العادلة و إرساء سلم اجتماعي يقض أركان الطبقية المجحفة حتى لا يبقى في بلادنا مكان لفقير معدم يمتلئ قلبه حقدا و كراهية لشركاء الوطن من الأثرياء الذين تتكدس بين أيديهم ثروات طائلة يحتارون في إنفاقها كما يحتار الفقير في تدبير قوته اليومي. و أنا لا أقول هنا كلاما انشائيا لأدغدغ مشاعر الفقراء أو أحرك كوامن الاستعلاء في نفوس الأغنياء، و إنما أؤسس بجهد بسيط في إعادة تشكيل نظرتنا إلى مسألة الطبقية الاجتماعية و تحويل مسار الثورة التونسية من ثورة جياع مطلبية، إلى ثورة عقول و قيم تؤسس لواقع جديد قد لا يكون سهل المنال و لكن ليس مستحيلا. أعود للقول بأن دور الجمعيات في تونس ما بعد الثورة، تضاعف ليحتل مكانا مركزيا ضمن آليات التنمية التقليدية بعدد كبير من الجمعيات تختلف أسماؤها و تتقارب أهدافها. و لكن هذا الدور على أهميته سيضل قاصرا أمام تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير و تراجع المقدرة الشرائية لدى شريحة كبيرة من المواطنين نتيجة الارتفاع المشط للأسعار و تجمد الرواتب و تفاقم سقف الاستهلاك حتى لم يبق في حياتنا ما هو ثانوي و أصبح كل شيء ضروري و أساسي لا غنى عنه. و أصبح للفقر معنى جديد خلافا للمعنى القديم. فالفقير اليوم من لا يمتلك مكيفا و المسكين من ليس له جهاز حاسوب و المعدم من لا يجد القدرة على اقتناء هاتف محمول...أما أولئك الذين تعوزهم الحيلة في تحصيل لقمة العيش، فلا أعلم لهم تصنيفا في هذا الوقت. و لربما صح اعتبارهم مواطنين من صنف ثالث حين تفقد المواطنة جميع معانيها. في الواقع، الاحتياجات عديدة و متنوعة و الأفواه المفتوحة لا تقع تحت حصر و الإرث كبير كبير حين سقط القناع عن عمليات التجميل لأقلام مأجورة و قنوات ضلت ترزح لعقود من الزمان تحت وطأة التبعية للسلطة، فلا تظهر للعين إلا ما يعجب الدكتاتور و يروق لحاشيته المتملقة. فظهر الخور و تراءت صورة الفساد الذي شمل كل القطاعات بدون استثناء. و رأينا عدسات الأنباء تتجول كما لم تفعل من قبل بين الأحياء المقفرة و تغوص عميقا في أرجاء الوطن المنسي لتنقل لنا جزءا من الحقيقة سافرة بدون تزيين و لا تلبيس. و قد بات من الضروري و من أولى الأولويات و أوكدها على الجمعيات الخيرية في بلادنا، أن توحد مناهجها و تعاضد بعضها البعض ضمن خطة عملية لمواجهة القادم، لاسيما و نحن على أبواب العودة المدرسية و عيد الأضحى و ما يتطلبانه من مجهود إضافي للإحاطة بالفقراء و الأيتام و تغطية احتياجاتهم في هاتين المناسبتين. و تبقى هذه الأولوية بما تكتسيه من أهمية بالغة، مجرد مرحلة عابرة ضمن إستراتجية عمل بعيدة المدى يجب التفكير فيها بجدية وعمق. فإطعام الجياع و كسوة العراة ليسا الحل النهائي للمشكل بقدر ما هو تسكين للأوجاع و تأجيل للألأم من الجرح النازف فينا سنين طويلة. بل وجب الآن معالجة الجرح و إيقاف النزيف بتغيير العقول و تصحيح المفاهيم و تنمية القدرات الذاتية للأفراد حتى يكونوا جميعا شركاء في التنمية. و قديما قال المثل الصيني: لا تعطني سمكا و لكن علمني كيف أصطاد. فمن تطعمه الآن، بعد قليل يجوع. و ستجد نفسك تدور معه في حلقة مفرغة تستنزف الجهد و المال بغير طائل. أما إن علمته كيف يحصل رزقه، فسوف تحل مشكلته نهائيا. و قبل أن تعلمه أن يأكل، علمه أن يفكر. و هنا مربط الفرس إن صح القول. الدكتاتورية في بلادنا ضربت مقومات التنمية في الصميم حين ضربت قطاع التعليم و فقرت و صحرت المؤسسات التعليمية و التربوية من أدنى مقومات البحث العلمي و التكنولوجي ليتراجع مستوى التعليم لدينا بشكل كبير. مؤسساتنا التعليمية تشكوا من نقص فادح في الإطارات و التجهيزات حتى الضروري منها. فأساتذة العلوم الطبيعية و الفيزياء و التقني لا يجدون ما يكفي من الأجهزة لتبليغ المعلومات للتلاميذ و يتقاسمون قاعات غير مهيأة أساسا لتأدية هذا الدور الخطير و يعولون على مجهوداتهم الفردية في تغطية النقص. و حين تسمح الفرصة لبعض المتفوقين من أبنائنا لمواصلة التعليم العالي بالخارج، يكتشفون حجم الهوة بيننا و بينهم و يشعرون أنهم قادمون من عالم آخر لنقل أنه عالم ثالث مثلما صنفونا. و تبدو الصورة أكثر قتامة في الأرياف. هناك حيث تفتقر المدارس و المعاهد إلى أبسط مقومات العيش الطبيعي حتى لا نتحدث عن التحصيل العلمي. أقسام ترشح شتاءا و أبواب و نوافذ لا تقي من برد و لا من قيض. أطفال صغار لا يجدون وسائل نقل فيقطعون عشرات الكيلومترات يوميا مشيا على الأقدام في طريق غير آمن، ليتابعوا تعليمهم في ظروف قاسية و لا يجدون ما يسدون به رمقهم طيلة اليوم سوى بعض كسرة لا تسمن و لا تغني من جوع. هؤلاء الذين نعول عليهم أن يكونوا إطارات عليا تعطي من جهدها و وقتها للتنمية حبا و ولاءا للوطن، فماذا قدم لهم الوطن؟ من هذا المنطلق، وجب التفكير جديا في توفير الدعم المستمر لأبنائنا التلاميذ من خلال إحياء المطاعم المدرسية و تعميمها خاصة في الجهات الفقيرة. و تمكين التلاميذ من لمجة صباحية و لمجة مسائية تخلصهم من ألم الجوع و توفر لهم أكبر قدر من التركيز في تحصيل العلوم. و أنا أوجه من خلال هذا المنبر الإعلامي، دعوة ملحة إلى الجمعيات الخيرية و رجال الأعمال و الأحزاب و الجهات الرسمية، بأن يولوا قدرا كبيرا من العناية بقطاع التعليم. لنرصد تبرعاتنا و ما فاض و زاد عن حاجاتنا من المال لمساعدة أبنائنا التلاميذ بدلا من إهدار المال في مساندة جمعيات رياضية لم نجن منها سوى الفرقة و التناحر. لا يمكن أن نحقق تنمية إلا من خلال التعليم. فبالعلم نبني صرحا عاليا من الحضارة و التقدم على أسس متينة و بعقول محلية تبني و تعمر بلدها بولاء و روح وطنية عالية. الاستثمار في صناعة العقول قد يكلف الدولة أموالا طائلة و لكنه استثمار آمن. و سيكون لدينا في مستقبل الأيام إطارات كفئة يعول عليها في تحقيق احتياجات البلاد في جميع المجالات. و لن تكون التكلفة مشطه إذا تعاملنا مع الموضوع بقدر كبير من الوعي و أرسينا قواعد شراكة وطنية شاملة بين المؤسسات الرسمية و الجمعيات و رجال الأعمال و الإطارات التربوية في إطار برنامج وطني يعاد فيه الاعتبار لقطاع التربية و التعليم. و تتم من خلاله مراجعة كاملة شاملة للمناهج التربوية بإحياء القيم و المثل الأخلاقية حتى ننشأ جيلا غير منبت عن وطنه و لا متنكرا لأصوله و أخلاقه. و أيضا مراجعة مناهج التعليم العالي بفتح آفاق البحث العلمي و دعمه ماديا و أدبيا بما يتلاءم مع واقع الاحتياجات العلمية و التقنية. و لما لا، الدخول في شراكة مع بعض الدول المتطورة علميا للنهوض بالتعليم و القطع نهائيا مع الإرث الاستعماري القديم. هذه بعض الأفكار قد تبدو للبعض مثالية صعبة المنال و لكن، أعظم الإنجازات في العالم بدأت بفكرة. متى وجدت عقولا واعية و آذانا صاغية و سواعد واعدة، سيكون المستحيل ممكنا. و لتكن ثورتنا ثورة عطاء و انجاز بدلا من المطلبية المجحفة. و ثورة عقول و قيم تؤسس لمستقبل واعد و تنمية شاملة و عادلة لا تستثني أحدا.