بقلم: شكري بن عيسى (*) قرابة الاربع سنوات منذ فرار المخلوع والاعلام التونسي، سليل اعلام التطبيل والتزييف، يُصَرِّفُ في معظمه السموم عرضا وطولا. انطلق منذ اللحظات الاولى بعد 14 جانفي في لباس الطُّهر والثورية واستعاد عذرية كاملة، متنصلا لسنوات طوال من كل الجرائم الجنائية والاخلاقية والميثاقية، ثم هب بطريقة ماكرة في بث الاخبار الزائفة والتحريض على الفتنة بين التونسيين واثارة القضايا الهامشية مثل الزواج العرفي والمثلية الجنسية واللائكية و"النموذج المجتمعي" والقضايا الايديولوجية وغيرها للانحراف بالاستحقاقات الثورية الى قضايا جانبية قصد الالهاء وتشويه المبادىء الثورية وتلويث القيم التي انتجتها الثورة، واغراق الشعب في ما يمكن ان يحول دونه ومنجزه التاريخي. بعض الصحفيين انطلق حثيثا في منهج مدروس ضمن "مشروع" كامل عنوانه الابتذال والاهانة وتبليد الذوق العام والاستبلاه وحتى الكلام الفاحش الذي يخدش الشعور ويمس الذائقة العامة فضلا عن الاخلاق الحميدة والنظام العام، وهي ممارسات تصل الى حد الجريمة التي يعاقب عليها القانون بجزاء رادع يصل الى السجن. اقيمت لذلك البرامج والديكور والاضواء والمعدين والمخرجين والمحللين، ولكن كذلك الاطار "المسرحي" و"الكوميدي" و"الفني" الذي يمكن من خلاله تمرير هذا الخطاب المسموم المخالف في الحد الادنى للمبادىء الصحفية ولميثاق شرف الاعلام، وفي كل مرة يتم ادراجه ضمن حرية الاعلام، التي لا علاقة لها بكل ما يحدث، وبكل ما يعرض. آخر السقطات هو ما شاهدناه البارحة مع الاستاذ المحترم الصافي سعيد الصحفي والروائي والسياسي الذي وصل اعتباره الى كل القارات بين عرب وعجم، هذه الشخصية ذائعة الصيت يتم استدعاؤها ليتم الاعتداء عليه باللفظ والكلمات النابية التي اساءت لكل الاعلام التونسي في حصة تنقل على فضائية لكل العالم العربي. الفاظ مشينة وحالة عنف لفظي وسباب وشتم على الفضاء، على مرأى ومسمع النساء والرجال والشيوخ والاطفال، الى حد ان احد الضيوف المحترمين غادر على الفور الاستديو، حتى لا يكون في "محضر سوء"، ولكن ربما الامر الايجابي ان الاستاذ الصافي اللسان الناقد والشخصية الجريئة كان لها القول الفصل في اخراس ألسن البذاءة والقرف، وزيادة فقد فضح كل القذارة وكشف حقيقة بعض السماسرة والتجار المتلبسين برداء الاعلام. سنوات كاملة من التزييف والمغالطة والتدليس والتضليل ودس السم في الدسم يبدو ان الاستاذ الصافي سعيد وضع لها حدا، والمعركة ضد التشويه وتهميش الثورة وطمس الحقيقة، ستكون شرسة وستفضح أئمة الكذب والتحيّل الذين اكيد سيتساقطون مثل احجار الدومينو. فقط للاشارة ان استراتيجيات التحكم في الشعوب تقودها في تونس مافيات منظمة ومهيكلة وُظِّبت لها قنوات واموال و"رجال" و"نساء" و"بحوث" و"شخصيات".. اعتمدت تقنيات عالية التأثير وحققت نتائج رهيبة ليس اقلها عرقلة المسار الثوري واحباط التونسيين وزرع الانقسام بينهم، وخاصة دفع الناس بعد اغراقهم في حالة اليأس للحنين للحقبة النوفمبرية. الاستراتيجيات المتبعة من قِبل هذه المافيات في سبيل إحكام سيطرتها على الشعوب والمواطنين والتحكم في وعيهم، متعددة ومتكاملة وتلعب على نقاط ضعف الناس وتستغل مآسيهم وهشاشة اوضاعهم. استراتيجية الإلهاء، هي اول هذه آليات التحكم في الشعوب. تعمد هذه المافيات عبر اذرعتها الاعلامية إلى تشتيت و إلهاء الناس ونقل وعيهم من حيّز إدراك المشاكل وطرح الحلول البديلة إلى حيّز إدراكها والتكيّف معها في أحسن الأحوال، فهي استراتيجية تعمل بشكل رئيس على تفتيت الوعي الجماهيري عبر توجيهه نحو مسارات مختلفة ومتباعدة تضمن إفقاد ذاك الوعي اهتمامه بما يجري حول الجماهير من تقلبات في الظروف السوسيو-اقتصادية والمرتبطة بالقرارات السياسية، وبالتالي تحويل انتباه الرأي العام إلى قضايا فرعية وإشكاليات جزئية ضمن إطار المجتمع عوضاً عن القضية الكبرى والأساسية، وهي الثورة وغيرها من القضايا المركزية. خلق المشكلة ومن ثم تقديم الحلول السحرية لها، هي استراتيجية فعالة تستعملها المافيات بفاعلية عبر الاعلام، بحيث تعمل على اختلاق مشكلة في مكانٍ ما أو في قطاعٍ ما ومن ثم تسارع بطرح البدائل والحلول الاستثنائية لهذه الإشكالية المفتعلة، ويضطر المجتمع في مرحلة معينة أن يقبل بهذه الحلول درءاً للخطر عنه نفسه. اهم الاستراتيجيات المتبعة عالية الفعاليّة هي مخاطبة الناس كمجموعة من الأطفال من حيث المنطق، بنبرة ضمنية في الخطاب تهدف إلى تجريدهم الحس النقدي ومن ثم تستبق بذلك أي وعي معارض يقع خارج إطار النظام القائم ذاته، أي أنها تسلب الجماهير إرادتها الحرة ودورها الواعي والفاعل في التاريخ البشري تبعاً لذلك. وقد تعمد أحياناً وفي ذات السياق إلى استجداء العواطف كوسيلة للسيطرة بدلاً من استثارة وتفعيل العقل المادي الجدلي لدى الأفراد. استراتيجية اخرى موظفة تعمل على استحسان الهمجية وقبول الوعي بالغ الضحالة عبر تعزيز ثقافة النمط الاستهلاكي وترسيخها بشكل واسع في صفوف المجتمع ككل. هذه الاستراتيجيات للتحكم في الشعب وتطويعه اعتمدت على اهم النظريات العلمية ووصلت الى حد فهم طبيعة أفراد المجتمع أكثر مما يفهمون أنفسهم على عدّة أصعدة، سواءً الفسيولوجية أو السيكولوجية. وعديدة هي الاستراتيجيات للتحكم في الشعوب التي كشفها الفيلسفوف ناعوم شومسكي او الناشطة نعومي كلاين والتي تستعملها مافيات الراسمالية بدقة لامتناهية وتوظف لها كل الوسائل والموارد وتحقق بها اعلى درجات الفاعلية. كلها في الحقيقية لا اخلاقية وتتنزل في اطار اجرامي واضح، وهي انتقلت بقوة الى تونس عبر اعلام مرَّ من المغالطات والتضليل المكشوف في عهد المخلوع، الى التّحكم عبر الاليات الخطيرة المبتكرة التي تم تمريرها بسرعة قياسية، ولكنها تبقى في الحقيقية لا اخلاقية وساقطة، وانتفاضة الاستاذ الصافي سعيد اكيد هي بداية الطوفان في وجه هذه المنظومة المافيوزية.. وانما الامم الأخلاق ما بقيت..