بقلم وسام الأطرش (*) الهندسة، قطاع تمت هندسة معالمه في تونس بشكل يرتفع معه عدد المهندسين في سوق الشغل إلى حد التخمة دون عمل على إيجاد صناعة حقيقية أو حتى التقليص من نسب نهب الثروات بامتلاك تكنولوجيا استخراجها، ثم صنعت له على عين النظام عمادةٌ ظلت تناشد مع المناشدين وتزعم حفظ حقوق المهندسين في وقت هبطت فيه أسهم المهندس إلى أسفل السافلين. هي حقيقة يترجمها الواقع المعيش لكل مهندس ظل يحلم بمنتوج من صنعه، ما يؤكد أن هذا النوع من الهندسة السياسية المدروسة والتي لم تعد على تقف على المنظومة التعليمية أو الناحية التشريعية، لا يُمكّن الساهرين على هذا القطاع من بناء الدولة صناعيا فضلا عن إمكانية تحسين مستوى الانتاج في عديد المجالات التي يكون المهندس عمودا فقريا فيها، بل ينحصر دورهم طوعا أو كرها في توفير يد عاملة بمواصفات مشروطة لا تخدم إلا مصالح المستثمرين الأجانب، أو بالأحرى في توفير سبل وفرص تهميش القطاع وخدمة أهداف الرأسمالية التي تعتبر المهندس آلة ووسيلة لتحقيق أهدافها. ومع الحصار المفروض على مجال البحث العلمي، وتسلق القطاع من قبل الهواة الذين سمحت لهم اتفاقيات صندوق النقد الدولي بالولوج إلى مدارس المهندسين دون مناظرة، وفي ظل غياب الرؤى الاستراتيجية بل في ظل غياب قانون أساسي ينظم المهنة، فإن الإصرار على السير في هذا النهج الأعرج لا ينبأ إلا بمزيد انحدار قطاع الهندسة في تونس إن لم يقف له أهله وخاصّته، ولا يلوم بعدها المهندس إلا نفسه. صحيح أننا نشهد هذه الأيام انتفاضة حقيقية لطلبة الهندسة تعكس وعيا بطبيعة الأزمة حيث فرضت على وزارة التعليم العالي الجلوس على طاولة الحوار، إلا أن الإصغاء على ما يبدو هو من أجل الإحتواء ومن ثم إجبارهم على العودة إلى مقاعد الدراسة حيث تروادهم أحلام التصنيع من جديد، ولذلك فإن التعويل على النضال الطلابي الذي حُيّدت عنه العمادة والنقابة عمدا لحل مشكلة تتجاوز وزارة التعليم هو بمثابة انتظار أحدهم الحصول على مكافأة مقابل جهد لم يحصّله. الضحية رقم واحد فيما تم تصويبه من أسهم نحو هذا القطاع هو المهندس وإن ثار الطالب ضد خوصصة التعليم، لأن المراد من ذلك بالأساس هو التخفيض من أجور المهندسين عبر إنتاج "مهندس هجين" لم يولد من رحم المعهد التحضيري للهندسة ولم يذق مرّ عنائه، وإنما صار لاحقا ابنا غير شرعي لمدرسة المهندسين الحالمين بغد أفضل، ليزيد ابتداءً من عدد حاملي الشهائد العليا في البلاد ثم ينافس لاحقا بقية المهندسين الذين استغنوا بواقع "الشهرية" عن حلم التصنيع، فوجدوا أنفسهم يتقاسمونها مع الآلات البشرية التي صنعها النظام الرأسمالي من أجل خوصصة الشركات بعد خوصصة التعليم، وصار الجميع بذلك ضحايا فساد المنظومة. والأدهى وأمرّ من كل ذلك، أن وجدت حالات يتقاضى فيها التقنيون أجورا تفوق أجور المهندسين، مع أن كليهما يمتلك نفس سنوات الخبرة. ما يزيد الطين بلّة في المقابل، أن يصرح وزير الصحة محمد الصالح بن عمار حول القرار الذي تم اتخاذه على مستوى ثلاث وزارات (وهي التعليم العالي، الصحة والتكوين المهني والتشغيل) فيما يتعلق بتجميد تدريس الاختصاصات شبه الطبية في المؤسسات الخاصة بأنه من غير المعقول أن يتم تكوين 500 شخصا والحال أن الدولة تطلب 40 شخصا فقط، ما يعكس أن الدولة التي يتحدث عنها السيد الوزير تكيل بمكيالين ما دامت لم تطرح نفس السؤال مع قطاع الهندسة، بل مادامت لم تحدد حاجياتها بعد من مختلف الاختصاصات الهندسية وتركت الأمر عمدا للمستثمرين والمؤجرين. لذا صار لزاما على هذا القطاع أن يشمله تغيير جذري وإصلاح شامل، علّه يبدأ من وعي المهندس على طبيعة قضيته ومن كونه أوّل المعنيين بكل ما يهم قطاع الهندسة سواء داخل الجامعات أم خارجها، ولعل الخطوة الأولى نحو هذا التغيير المنشود، هو وجود "نقابة" مستقلة بقرارها منفصلة عن اتحاد الشغل تعمل على إعداد ما غاب عن العمادة والحكومة من برامج ورؤى استراتيجية تهم القطاع، تستمد قوّتها من خبرة قادتها وحجم قاعدتها وشمولية بدائلها، ويزيدها قوة وصلابة التفاف المؤمنين بضرورة النهوض بالقطاع حولها.