إن إلتزامي بالعمل السياسي مع حركة النهضة ومحاولة الوصل بين عقلائها وعقلاء من يرفض المرجعية الإسلامية من أبناء تونس دون أن يجعل من معاداتها أساسا لفعله السياسي والثقافي أعني بين ممثلي التأصيل وممثلي التحديث السويين في بلدنا وفي كل البلاد العربية علتها إيماني بأن تونس لم يعد بالوسع أن تحكم من دون صلح حقيقي بين مرحلتي حركة التحرير أعني المرحلة الثعالبية والمرحلة البورقيبية تحريرا لهما كليهما من عدم التوفيق الناجح بين قيم الأصالة وقيم الحداثة ومن ثم تحقيق الصلح بين الثقافتين العربية الإسلامية والغربية الحديثة للخروج من مأزق الصراع بين مطالب النهضة ذات النهج العلماني(ورمزها ابن خلدون) والصحوة ذات النهج الأصلاني (ورمزها ابن تيمية) أعني مفكري حركة الإصلاح كما يعلم ذلك كل من له أدنى اطلاع على أدبيات القرن التاسع عاشر وبدايات القرن العشرين. لذلك فقد اعتقدت أني أواصل في العمل السياسي ما توصلت إليه من فهم لتاريخنا الفلسفي والسياسي في العمل الأكاديمي. ثم إني كنت ولا أزال أعتقد أنه: لا أحد من الإسلاميين يستطيع أن يزايد علي في الأصالة إذا لم تكن الأصالة مقصورة على لشعائر بل تجمع بينها وبين المعاملات التي توجب على المسلم أن يعمر الأرض ليكون أهلا للاستخلاف فيها. ولا أحد من العلمانيين يستطيع أن يزايد علي في الحداثة إذا لم تكن الحداثة مقصورة على مظاهر اللهو بل تجمع بين فرحة الحياة والتعالي على الإخلاد إلى الأرض لأن الإنسان ليس آكلا كما تأكل الأنعام.
وقد صرحت منذ البداية أني لن أتردد في معارضة حركة النهضة إذا حادت عن السعي إلى شروط هدفي الثورة. كما صرحت بوضوح أني مقاوم لكل تحديثي لم يتعض من تجربة ابن علي وأصحاب الانقلابات في النصف الثاني من القرن الماضي فيواصل السعي لإيصال البلاد إلى جفا جرف الحرب الأهلية بالخطط المفضوحة التي يتحالف فيها أفسد ما في ساحات النخب بأبعادها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمدني والحقوقي مطالبين الثورة بالمستحيل بدءا بدفع الحكم إلى معاملة السلفيين معاملة ابن علي للإسلامين وختما بفرض أمر ممتنع عقلا: الوصول إلى الغايات من دون قطع الطريق الصعبة بين البدايات والغايات بالتعاون بين كل الفئات خاصة والثورة قد اختارت منطق المصالحة والعمل السلمي بدلا من منطق التصفية والعمل الدموي. لماذا الإعلان عن هذه الحصيلة الآن؟ التزمت الصمت طيلة الشهور الأخيرة مكتفيا ببعض المداخلات في مناسبات اقتضاها إما النشاط التأسيسي أو النشاط الثقافي ونادرا النشاط الحكومي وجلها ذات بعد متجاوز للقضايا المحلية إذ هي مداخلات تهتم بالبحث في شروط تحقيق أهداف الثورة التي أولها ألا تبقى قطرية مع تلميحات تخص تهدئة الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية قدر المستطاع. لكني قررت بالقيام بما يشبه المحاسبة الذاتية لما أقوم به بعد أن كدت أصل إلى قناعة مفادها أن النخب العربية وليس التونسية وحدها السياسي منها (بمناوراتها الحزبية الصبيانية)والاقتصادي (بتلكؤها الاستثماري القريب الجبان) والثقافي (بتنمرها الحداثوي الساذج) والتربوي (بمنطق المهمة التحضيرية البليد) أبعد ما تكون عن الشعور بالإيمان بأن ثورة بصدد الحصول وبالمسؤولية المترتبة عليها وبالوضع الحرج. فبعضها يشكك في حصول ثورة أصلا. وبعضها يعتبرها مؤامرة غربية. وبعضها يتجاهل ما يترتب على فشل الظاهرة التي حدثت أيا كان اسمها لا قدر الله خاصة وقد اختار أكبر بلدين سبقا إليها أعني تونس ومصر أعسر الخيارت أعسرها الذي مالت إليه شعوب الربيع العربي السلمي (لأنه يوجد ربيع عربي حربي في غير مثالي تونس ومصر):فخيار تحقيق أهداف الاستفاقة الشعبية العربية سلميا أعسر المناهج في تحقيقها لأن أعداء الثورة متربصون بها وهاجمون عليها من كل صوب وحدب. لذلك فبعض التصرفات اللامسؤولة قد تؤول بالبلاد إلى ما يقرب من الحرب الأهلية ليصبح الربيع العربي كله منه جنس ما حدث في ليبيا وما يحدث في سوريا أعني حربا أهلية بأتم معنى الكلمة. وهي في تونس يمكن أن تكون أكثر عنفا لأنها ستكون بينه ثقافتين بخلاف ما عليه الشأن في ليبيا وسوريا حيث لا أحد من المتقاتلين يعتبر من واجبه تجفيف منابع بلده. الأزمة في تونس أعمق من كل البلاد العربية الأخرى لأن النافذين من النخبة أصبحوا في قطيعة مطلقة مع ثقافة البلد بحيث يمكن القول إن البلاد فقدت الفكرة الموحدة إذ حتى مقومات الهوية أصبحت محل خلاف. والعلة الأعمق في ما أخشاه على تونس هو وجها الأزمة الحادة التي تعاني منها كل الأحزاب الممثلة للساحة السياسية:
فالأحزاب الحاكمة بلغت مرحلة تفقد شروط الأداء السوي في تسيير دفة الدولة تسييرا محكما لما تمر به من أزمات سياسية وقيادية. ومن علامات ذلك بداية العجز على تنظيم الحياة العامة بسبب ما بدأ يحصل داخل بعضها (الانقسامات في الحزبين المشاركين للنهضة) وبينها بين والمشاركين معها (تبادل التهم لتحميل مسؤولية الأوضاع للنهضة دخولا في الربح وخروجا من الخسارة.) والأحزاب المعارضة ما تزال على ما هي عليه من تشتت وحرب زعامات ومن ثم فهي عاجزة كذلك عن تقديم البديل ذي المصداقية. ومن علامات ذلك أن من كان منهم ذا رصيد من المقاومة خلال النظام البائد فقدوه بإعلان العداء لحلفاء الأمس. ولعلهم مقدمون على ما قد يفقدهم الكرامة بعد الرصيد إذا ذهبوا إلى الغاية في سعيهم للتحالف مع ممثلي الثورة المضادة الذين يغرونهم بطعم ليس من نصيبهم في الغاية. لكن العلامة المشتركة بين الصفين هي الميل إلى الاستقطاب والاستثناء المتبادل ظنا من الصفين أن ذلك يخرجهما من مآزقهما بسبب المقابلة بين الغلوين وشبه الفقدان التام للفكرة الموحدة وخاصة لتصورات متقاربة حول مقومات الهوية. فجل النافذ من النخب يتهم الشعب بالغباء وبمعاداة القيم الحديثة وخاصة بعد فشلها الانتخابي. وهم لا يقفون عند النزاع السياسي مع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بل يذهبون إلى العداء الصريح للحضارة الإسلامية ذاتها دون مواربة كانت تميز بين وجوهها المنحطة وذاتها بل هي عندهم تمثل الانحطاط بذاتها. لذلك فالمناخ العام يجعل الجميع ناسيا أنه ينبغي في كل الأحوال أن نكتشف شروط التعايش والتغلب على هذه الحالة المرضية التي تشبه صدام الحضارات في نفس الجماعة وأن نصل إلى حلول تحقق الصلح بين الصفين حتى يكون الدخول إلى الانتخابات متحررا من المنطق السياسوي الذي قد يجعل المآل وخيما. ولو كنت ممن يغادر ساحة المعركة لغادرت الركح السياسي منذ بداية الصيف لفرط ما رأيت في جلسات المجلس التأسيسي من صبيانيات أقدم عليها حتى من كنت أظنهم زعماء يمكن أن يكونوا رجال دولة في يوم من الأيام. وأكاد أتأكد الآن أن الإصلاح السلمي الذي ملنا إليه ليس هو خيار النخب النافذة في الساحتين السياسية والمدنية بأبعادها الحقوقي والنقابي والثقافي. فجل النخب تحول دون أي إصلاح حفظا للمصالح الحاصلة وخوفا من المحاسبة الممكنة وخاصة في المجالين الذين طلب مني أن أدلي برأيي فيهما بصفة الاستشارة أعني في التربية والثقافة.
ولعل عودتي إلى نشاطي السابق وقرار الابتعاد عن مباشرة العمل السياسي لن يتأخرا كثيرا خاصة بعد أن زال الداعي إلى تجنب ما يمكن أن يتهم به من يغادر قبل الأجل المزعوم لنهاية الشرعية والذي صار مضغة عند من رفضهم الشعب في أول انتخابات سوية. فهذه الفرضية لم تعد ذات معنى بعد أن تجاوزت الحكومة التي اختارها الشعب أزمة التشكيك في شرعية تواصلها بعد تاريخ حددته سلطة أقل ما يقال فيها إنها باطلة من حيث القانونية (عينت نفسها بأمر من رجل –المبزع-كان من المفروض أن يغادر الحكم بعد ستين يوما)والشرعية (اختار رئيسها –السبسي- هذا الرجل رغم أن كل الناطقين باسم الثورة اختاروا غيره: المستيري.) ففي المجال التربوي لا أعتقد أن النظام الحالي وسيطرة الإقطاعيات الحزبية والنقابية عليه ستساعد على النظر الموضوعي من دون سلطة قوية ذات مشروع في النهوض والاستقلال العلمي والتقني والثقافي ومن دون تجند شباب الثورة للدفاع عن قيمها وحمايتها دون إيلاء أهي أهمية لأعداء الثورة الذين يشككون في لجان حماية الثورة أو ينسبونها لحزب دون حزب: فهي خيرة شباب تونس من كل الأحزاب التي آمنت بالثورة وقادت قصباتها ولاتزال مستعدة للتضحية من أجلها. فمن دون هذين الشرطين لن تكون أي حكومة (أي شخص فيها) قادرة على تحقيق شروط الإصلاح الذي يجعل المنظومة مبدعة وقادرة على تخريج ما يحتاج إليه الوطن في معترك دولي صار فيه كل شيء مجال تنافس بين النخب المختصة. وفي المجال الثقافي أعتقد أن السيل قد بلغ الزبى لأن الاقطاعيات التي تتقاسم بعض المنافع الزهيدة والعادات الإبداعية التي تتقاسم مناخ يجعل الجميع بمن فيهم أعشار المثقفين زعماء ومنظرين للثورة وللإصلاح وللقطائع الثقافية والإبداعية لكأنهم جوته أو شكسبير أو المتنبي أو المعري أو ابن خلدون أي مبدع غير قيم الذوق والفكر لا أعتقد أن ذلك يمثل مناخا مساعدا على الإصلاح خاصة إذا غابت الإرادة السياسية ذات المشروع الحضاري ذي الخيارات القيمة الواضحة.