تمارس الادارة خلال القيام بنشاطها واسداء الخدمات للجمهور السلطة بنوعيها التقديري والقانوني ضمن ضوابط تشريعية والعرف الجاري. وكثيرا ما تتعارض سلطة الادارة التقديرية والتي هي نابعةمن ارادة اصحابها وتحمل في الغالب دلالات شخصية وتعبر عن موازين القوى والأهواء والمصالح، بحقوق الأفراد اذا اتسمت بالتعسف والتحيّز وغير الموضوعية. فما هي إذن هذه السلطة التقديرية والتي تتمتع بها الادارة؟ وهل هي دون ضوابط وحدود؟ أم إنها مقيدة وتخضع للقانون والقضاء. تعريف السلطة التقديرية: يرى جمهور الباحثين في الشأن الاداري بأن مفهوم السلطة التقديرية هو فسح المجال للادارة والقائمين عليها للتصرف بحرية لإيجاد الحلول الممكنة في الزمن والمكان للمشاكل التي تحدث وذلك لممارسة نشاطها العادي دون معوقات وتقديم الخدمات المنوطة بعهدتها. كما يرى الباحثون ان السلطة التقديرية جاءت كنتيجة طبيعية لغياب التشريع المحدد لطبيعة القرارات ومضمونها ووقائعها المختلفة والتي تقوم بها الادارة، فالادارة أصبحت بحكم هذا السكوت الضمني ماسكة بالامور التقديرية وكأنها حلت محل المشرّع في جوانب معيّنة. والواضع انه من الصعوبة بمكان تحديد تصرفات الادارة بالتدقيق ووضعها في قوالب قانونية نظرا لتشعب نشاطاتها ولهذا تم ترك الحرية للادارة لتفعل ما تراه صالحا وفق مستجدات الامر والظروف والملابسات. لكن هل للادارة مطلق الحرية في التقدير أم أن هناك ضوابط قانونية وعرفية لا تترك الامور على عواهنها وتراقب التعسف في أخذ القرار بالالغاء ومعاقبة ذوي النوايا السيئة؟ المبررات الموضوعية التي أوجدت السلطة التقديرية: تعددت في الازمنة الحديثة نشاطات الادارة وتشعبت بحيث اصبح من غير الممكن للمشرع ان يتنبأ بما سيحدث بالتفصيل مستقبلا ولهذا الامر فهو عاجز عن تحديد كنه القرارات التي يمكن للادارة اتخاذها في واقعة معينة ولهذا الامر لم يتمكن الا من وضع اطار عام تتمتع الادارة من خلاله بالتصرف والتقدير بحريّة. وما يستشف من خلال هذا التوجه هو ترك مجال واسع وغير محدد للادارة لمساعدتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي توضع امامها خلال القيام بنشاطاتها المختلفة والمتنوعة والتي تتسم في عصرنا الحاضر بالديناميكية والتعقيد. وهذه المرونة في التقدير تسمح للادارة بتحقيق أهدافها دون عراقيل لتلبية حاجيات المجتمع المتزايدة والتأقلم مع التغييرات التي تواجهها في طريقها. فالادارة تواجه غياب القوانين المحددة لسير نشاطها التفصيلي اليومي باتباع السلطة التقديرية. وهكذا نجد ان السلطة التقديرية للادارة هي تشريع من نوع خاص يستمدّ مشروعيته من الاشخاص والمسؤولين الاداريين دون الرجوع الى السلطة التشريعية صاحبة الحق في سن القوانين ومراقبتها. ولهذا الامر تعتبر السلطة التقديرية للادارة ذات اهمية كبيرة في الشأن العام لأنها تمس بمصالح الافراد وحقوقهم مثلها مثل القوانين العامة. وكثيرة هي القرارات المجحفة التي تصدر عن الادارة بصفة تقديرية تجانب الصواب والموضوعية وتتعسف على الحقوق. وكثيرة هي الادارات التي تتمسك بهذه السلطة ولا تقبل بقرارات القضاء الملزمة ولا تعترف بأخطائها ولا تتراجع في ما أصدرت من لوائح. فالتقدير الاداري له ضوابط أخلاقية وموضوعية وعرفية حتى وان لم يتضمن ذلك قانونا صريحا. الرقابة على سلطة الادارة التقديرية: ان سكوت المشرع عن وضع ضوابط تحديدية مقننة السلطة التقديرية للادارة هو ميزة منحها للفعل الاداري لكي يقوم بالعمل المنوط بعهدته بعيدا عن القوالب الجامدة ويترك له الحرية في اتخاذ القرار المناسب، لكن اتخاذ اي قرار يمس بحقوق الافراد وغيرهم يخضع وجوبيا لمبدأ التحري والمصداقية والعدالة والنزاهة والموضوعية تحت مظلة القوانين العامة والدستور بعيدا عن التعسف والتشفي والأهواء الشخصية. وبحكم ان القرارات الادارية التقديرية هي قرارات لا تخضع لإجراءات ثابتة وتحقيقات ومعاينات مثل ما يقوم به القضاء وبالتالي يشوبها في غالب الاحيان التحيز وعدم المصداقية لقصور في طرق التثبت والمواجهة بين الخصوم والدفاع والتحقيق النزيه. فالادارة إزاء موظيفها في حالات العقاب والتأديب مثلا هي الخصم والحكم في نفس الوقت. فحتى أطراف الدفاع المتمثلة في زملاء العون المتهم التابعين للجنة المتناصفة لا يقدرون على الدفاع الجدّي ويخضعون في الغالب للضغوطات من رؤسائهم في العمل. وفي النهاية يبقى رأيهم في حدود الاستشارة ولا يعتدّ به كما ان القرارات التي هي من تقدير صاحب المؤسسة وسلطاته الواسعة في هذا الشأن لا يمكن استئنافها والطعن فيها. ويصل الامر الى الطرد نتيجة أخطاء التقدير وعدم التحري والتحقيق النزيه واتباع مبدأ الملاءمة بين الفعل والخطأ ونوع العقاب وشدّته. وأغلب القرارات الادارية المتعلقة بالطرد اتسمت بالتعسف الشديد وجانبت الصواب والموضوعية والدليل على ذلك احكام القضاء التي انصفت العديد من الموظفين لعدم التناسبية بين الخطأ والعقاب. والغريب ان بعض الادارات تتخفّى وتركن الى السلطة التقديرية وتتمسك عن الرد عن العرائض والتظلمات ولا تطبّق احكام القضاء وكثيرة هي القرارات القضائية التي بقيت دون تنفيذ وهي بالتالي تخالف مبدأ العدالة ولا تحترم القانون الذي هو سلطان على الجميع. فإذا كانت الادارة حرّة فيما تقدره من قرارات، فالواجب عليها أن لا تتعسف في ذلك وتتقيد بقرارات القضاء وتستمد اساس مشروعية ذلك من الاطار العام للقانون والدستور والحكمة والانصاف. وكما قال احد المفكرين عن الادارة »فهي ملزمة بما هو حق ولكنها حرة فيما هو صالح« وهي بالتالي ملزمة بأن تتحرى في كل ما تصدره من قرارات تقديرية بكل موضوعية وشفافية وتبتعد عن البواعث الشخصية والمنفعية الضيقة وردّات الفعل. وإذا حادت عن هذه المبادئ فهي تعتبر حسب جل الباحثين قد حادت عن التزاماتها لتدخل تحت مظلة التعسف في استعمال الحقوق الادارية. ولتعويض الفراغ الموجود حاليا على مستوى مجالس التأديب وعدم إتاحة الفرصة للمتظلم في استئناف الحكم زيادة على ان للادارة سلطة قاهرة وضاغطة وتحكمية على المجلس بحكم ان جميع الاعوان غير مستقلين وارادتهم مرتبطة بإرادة السلطة التقديرية، ويكاد يكون الامر بيد صاحب المؤسسة جملة وتفصيلا، ولا يعد المجلس الا أمرا شكليا واصباغا للواقع بمبدأ الشرعية رغم عدم المكافأة والندية بين الادارة وسلطتها الواسعة والعون الذي لا حول ولا قوة له، يقترح إعادة النظر في القرارات بطلب من المتضرر بتكوين مجلس مستقل من خارج الادارة وشعبي، الحضور فيه بالاختيار العشوائي من بين المتقاعدين من الادارة وشخصيات مستقلة مثلا. وهكذا نصبغ على القرارات الادارية النزاهة اللازمة ونحد من النزوع نحو التعسف بدواعي شخصية وذاتية ومصلحية الاهواء ونبعد عن ادارتنا الشبهات والشائعات. فالقرار الاداري بشقيه المحدد والتقديري يمسّ بحقوق الغير ولابد من سن الضمانات اللازمة والضرورية للحد من الغلو والنوازع الشخصية وذلك بإيجاد ضوابط قانونية تسمح للمتضرر بالتظلم والتعويض ان لزم الامر. كما انه لابد من تفعيل دور الرقابة الادارية الذاتية واعطائها المكانة اللازمة والمشاركة في أخذ القرار حتى لا تنفرد الادارة بهذا الشأن وتحلل من كل التزام ولو على المستوى المعنوي وذلك بإعطاء دور أكبر للجنة المتناصفة واصباغ رأيها صبغة الالزام والقرار، والتخلي عن الصفة الاستشارية باستعمال مبدأ التصويت على القرارات. فالادارة هي تلاقي المصالح المتنافرة، وكل شخص مهما كان متجردا يبقى عرضة للضغوط الداخلية والخارجية والاخطاء التقديرية ولابد من حمايته قبل حماية الآخرين. كما انه من الضروري تمتيع المتظلم للقرار الاداري التقديري من امكانية الطعن لجهة محايدة ومستقلة داخل الادارة نفسها قبل اللجوء للقضاء الذي ليس متاحا لكل الناس بما يكلّفه من أتعاب وجهد وانتظار. ويبقى القضاء هو الرقابة الأخيرة لسلطة الادارة والضامن لحماية الافراد من غلو السلطة التقديرية وتجاوزاتها. ورغم ان السلطة التقديرية للادارة ضرورة من ضروريات الحياة المعاصرة والتي تمكّن الادارة من المرونة اللازمة لمواجهة التحديات وأخذ القرارات في المكان والزمان المناسبين فإن الكثير من القرارات جانبت الصواب وصبغت بالتعسفية في حق المواطنين والمتعاملين مع الشأن الاداري والدليل على ذلك أحكام القضاء الاداري والمدني. ويرجع سوء التقدير للانفراد بالرأي وتهميش اللجان الاستشارية، رغم محدودية تأثيرها في القرار النهائي والذي يبقى من مشمولات صاحب السلطة التقديرية. وبات بالتالي من مصلحة الجميع الدفع بضمانات جديدة تمكن الادارة من آليات صنع القرار بلا تحيّز ودون شطط وتعسف كالرفع من مستوى تدخل اللجان المناصفة الاستشارية الى حدود المساهمة في أخذ القرار واضافة درجات من الطعن الاداري الى سلط مستقلة عن الادارة متاحة للمتظلمين والمتضررين من القرارات التقديرية الادارية.