دراسة: تونس تتمتع ببنية تحتية رقمية في توسع مستمر في ظل وجود إمكانات كبيرة للاستفادة من التقنيات الحديثة لخدمة المصلحة العامة    القصرين: تنظيم قافلة صحية متعددة الإختصاصات بالمدرسة الإعدادية "الزردة" بفريانة    أشرف الكعلي وبرنامج "فكرة سامي": ترويج الغباء ونظرية المؤامرة    الخارجية تعلن رسميًا: استئناف نشاط القنصلية التونسية ببنغازي    وزير الشباب والرياضة يشرف على اختتام النهائيات الوطنية لألعاب القوى على المضمار لحاملي الإعاقة للموسم الرياضي 2024-2025    كأس تونس.. الترجي يقصي بنقردان ويمر الى النهائي    طقس الليلة    أخر أجل لقبول الترشحات للبرنامج التدريبي في تقنيات إعداد البودكاست الأدبي 3 جوان 2025    قفصة: "قمزة" تطاهرة ثقافية تهدف إلى إحياء تراث رياضة القفز الشعبي بالاحواض الرومانية وادي الباي    توزر.. يوم إعلامي حول الانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة دقاش حامة الجريد تمغزة    لأول مرة: الباكالوريا تبدأ يوم الإثنين عوضًا عن الأربعاء!    التونسي معين الشعباني يقود نهضىة بركان المغربي الى التتويج بكأس الكونفدرالية الافريقية لكرة القدم    بعد 10 سنوات من إغلاقها.. تونس تعيد فتح قنصليتها في بنغازي    الكاف: الاتحاد الفلاحين يدعو إلى تأخير موعد الانتفاع بمنحة التسليم السريع للشعير    وزارة الصحة تحذّر: ''الناموس'' خطر صحي وليس مجرد إزعاج    بلدية جرجيس: سوق وحيدة لبيع الأضاحي وقرارات صارمة ضد الانتصاب الفوضوي    ''ست الحبايب'': هكذا ولدت الأسطورة اللي يسمعها كل تونسي في عيد الأم!    تعرف على هذه العلامات التحذيرية المبكرة للخرف    وزير الداخلية يتابع نسق الحركة التجارية بمعبر ذهيبة وازن    إذاعة صفاقس عبد الوهاب الجربي ومُحمد قاسم يتحدثان عن آخر الإستعدادات لإمتحان الباكلوريا    سوسة: نقص في أضاحي العيد.. والفلاحون يطمئنون    خطوات بسيطة لمنزل أنيق ونظيف: كيف تتخلّصين من الفوضى وتحافظين على النظام؟    961 ألف حاج يصلون المملكة السعودية    تراجع القروض البنيكة غير المهنية من 851 م د الى 3ر569 م د بين 2023 و2024    تونس تحتفل بمرور 30 سنة على اعتماد سياسة النهوض بالاستثمار الخارجي: من الأقطاب التكنولوجية إلى ريادة صناعية قارية    ريال مدريد يعلن رسميًا تعيين تشابي ألونسو مدربًا جديدًا بعد رحيل أنشيلوتي    وزير الداخلية يشرف على إحياء الذكرى 67 لمعركة رمادة    زراعات كبرى: بوادر صابة وفيرة واستعدادات حثيثة لتأمين موسم حصاد 2025 وإنجاحه    قد تبدو بسيطة.. أخطاء عند غسل الأواني قد تسبب أضرارًا صحية كبيرة    تراجع غراسات كروم التحويل.. لقطاع كان يدرّ عائدات جبائية ب 50 مليون دينار لخزينة الدولة    لحظات من الرعب.. راكب مجنون يحاول قتل ركاب طائرة يابانية متجهة إلى أمريكا!    لماذا يحتفل اليوم بعيد الأمهات في تونس؟    مايا تواصل دعم قضايا المرأة بأغنية اجتماعية تنال تفاعلًا واسعًا    جندوبة: حجز كمية كبيرة من سماعات الغشّ في عملية أمنية    الستاغ تُشغّل خطًا كهربائيًا جديدًا بهذه المنطقة لتعزيز الربط مع المحطة الفولطاضوئية    بطولة هامبورغ للتنس: الإيطالي فلافيو كوبولي يتوج باللقب على حساب الروسي روبليف    يوم مفتوح لفحص مرض الكحلي يوم السبت المقبل بمعهد الهادي الرايس لامراض العيون بباب سعدون    "كتائب القسام" تعلن عن تنفيذ عملية مركبة استهدفت قوات إسرائيلية في غزة    جوائز مهرجان كان السينمائي 2025.. تألق عالمي وبصمة عربية    قبلي: المدرسة الابتدائية بجمنة تتحصل على جائزتين من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الامم المتحدة للطفولة    أمطار متفرقة بالمناطق الساحلية الشمالية صباح الاحد وارتفاع طفيف للحرارة    باريس سان جيرمان يتوج بكأس فرنسا استعدادا لنهائي رابطة الأبطال    جماهير ميلان تحتج ضد الملاك والإدارة بعد موسم مخيب للآمال    سرقة حمولة 23 شاحنة مساعدات إماراتية في غزة.. واتهامات لإسرائيل باختفائها    الفيلم الإيراني "مجرد حادث" يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي    جندوبة: الاحتفاظ بشخص وإحالة 3 آخرين بحالة تقديم من أجل تحوّز أجهزة الكترونية معدة للغش في الامتحانات    أولا وأخيرا: «يطول ليلها وتعلف»    بعد أن أمهله المتظاهرون 24 ساعة... المنفي يعد بالتفاعل الايجابي مع الليبيّين    طقس الليلة    عاجل : النيابة العمومية تفتح تحقيقاً بعد وفاة شابة بطلق ناري في الكاف    كرة السلة: اليوم الجولة الرابعة لنهائي البطولة المحترفة    عاجل/ تفكيك شبكة مختصة في ترويج سماعات الغش في الامتحانات..وهذه التفاصيل..    حريق بمركب صيد في جرزونة.. تدخل فوري ينقذ الميناء من كارثة    الفكر المستقيل    أمراض تهدد حياتك عند ضعف حاستي السمع والشم.. ما هي؟!    موعد بدء إجازة عيد الأضحى في السعودية    29 يوم فقط تفصلنا على بداية فصل الصيف    دعاء يوم الجمعة 23 ماي 2025    









خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة في مؤتمر صفاقس للحزب الدستوري / نوفمبر 1955
وثقية:
نشر في الشعب يوم 10 - 04 - 2010

انه لمن الشرف الاثيل ان يجتمع نواب الشعب التونسي بعد كفاح مرير ليتدبروا أمرهم وينظموا صفوفهم ويرسموا الخطة المثلى التي يجب السير على هديها ويسطرون منذ زمن بعيد من عزة وكرامة وازدهار وسيادة حق واسقتلال تام.
وانه مما يثلج الفؤاد وينم عن تطور عميق ان يشاركنا في هذا العمل الجبار نواب ووفود من الشعوب العربية الشقيقة ومن شعوب الامة الاسلامية ومن الشعوب والامم المحبة للأخوة والسلام والتعاون الذي لا تشوبه هيمنة او اضطهاد او قهر القوي للضعيف لان الامة التونسية عربية اسلامية منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف الا أقلية منها ضئيلة، وستبقى عربية مسلمة الى ان يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الشعب ضحّى بالنفس والنفيس
وقد كافح الشعب التونسي وفي مقدمته هذا الحزب وضحى بالنفس والنفيس وسالت دماء ابنائه واستشهد رجاله وابطاله منذ سنة 1933 للإبقاء على عروبة هذه الديار واسلامها. فقد قاوم انذاك سياسة التجنيس التي كانت تهدف الى اخراج الجانب العظيم من الامة التونسية المسلمة ولحاقها بالجنسية الفرنسية وكافح وصمد في وجه الرصاص والحراب الاستعمارية الى ان اغلق باب التجنيس فبقيت الامة التونسية بحمد الله مسلمة عربية ليوم الناس هذا وستبقى كذلك الى يوم يبعثون.
كما كافح هذا الشعب سياسة استعمارية اخرى اشد بأسا كانت ترمي لا الى اخراج التونسيين من الجنسية التونسية بل الى ادخال الفرنسيين والجالية الفرنسية الموجودة بتونس في حظيرة الامة التونسية وبهذا يتم لها ازدواج السيادة ويصبح للجالية الفرنسية حق مشاع في سيادة البلاد.
وحاول الاستعمار الفرنسي اعتبار الفرنسيين والاجانب المقيمين بالبلاد مواطنين تونسيين يشاركون في الانتخابات كجزء من الامة التونسية.
فوقف الشعب وقفة الرجل الواحد في وجه تلك المؤامرة واستشهد ومات من مات وكانت فرنسا مستعدة لتمنحنا استقلالنا على ذلك الاساس.
باعتبار ان الامة التونسية اصبحت خليطا ومزيجا من الفرنسيين والعرب والمسلمين فكانت صرخة الامة بأسرها منادية بأنه لا سبيل الى ادخال الاجانب مهما كان عددهم ضئيلا ومهما كانت قوة فرنسا عتيدة في صميم الامة التونسية كي لا تصبح الدولة التونسية بعد ذلك دولة مزدوجة السيادة، فيعذر علينا فيما بعد بالاستقلال تكون هي نفسها مزيجا من فرنسيين وعرب، وطيلة هذه السنوات الثلاث الاخيرة كافحنا للقضاء على تلك المؤامرة والابقاء على الدولة التونسية التي ورثناها عن اجدادنا منذ القرون، بعروبتها واسلامها، الى ان توفقنا الى ترجيح كفة العقل بفرنسا واصبح استقلالنا وسيادتنا التونسية لا تشوبهم شائبة الازدواج أو الفرنسية.
معركتنا الأخيرة كانت حاسمة
وان استقبالنا اليوم لإخواننا العرب والترحيب بهم هو اصدق مظهر من مظاهر انتصار هذه الامة في معركتنا الاخيرة الحاسمة التي خلصت بها السيادة التونسية من الفرنسية والازدواج، وإعادتها دولة عربية اسلامية مثل دول المشرق في تقدم مستمر وتطور متواصل.
واني ارى من الواجب في هذه اللحظة ان نقف دقيقة خشوعا وترحما على ارواح اخواننا الشهداء الابرار الذين سقطوا بميدان الشرف في المعركة الاخيرة وكل الشهداء التونسيين من يوم الاحتلال الى يومنا هذا أولائك الذين استشهدوا لنتمكن اليوم من استرجاع سيادتنا والمضي في عملنا وتنظيم هذا المؤتمر الخطير الذي سوف يقرر مصيرنا في حرية واستقلال تام.
ان ما يتحتم عليّ مصارحتكم به بعد ان برزت خطوط وضعنا السياسي كأمة ودولة وما يجب عليكم علمه بكل يقين هو ان عروبتنا واسلامنا لا تفرض علينا ان ننعزل عن الدنيا وننكمش عمن حولنا من امم ومن جاورنا من شعوب بل تفرض علينا اذا كنا حقا نريد خير هذه الامة ان نتعاون مع من لا يمانع في التعاون معنا من الدول العربية والاسلامية وغير الدول العربية والاسلامية ممن نسجت الظروف السياسية والتاريخية والمصالح الاقتصادية روابط بيننا وبينها وذلك على اساس واحد وعلى شرط لا تنازل فيه وهو ان يكون التعاون حرا غير مفروض بالهيمنة وفي دائرة المصلحة المشتركة وباعتبار صالحنا الخاص وحسبما يفرضه علينا موقعنا الجغرافي وحاجتنا الى الرقي والتقدم.
وهذا لعمري ليس بالمنطق الجديد فمنذ القرون الغابرة بل منذ العهد القرطاجني ارتبطت البلاد التونسية وتعاونت بحكم موقعها الجغرافي مع كل الشعوب والدول والامم التي جاورتها.
من أي ظلمة انبلج صبحنا
كل ذلك يوضح موقف هيئة الأمم المتحدة من قضيتنا اذا اعتبرتها داخلية تهم فرنسا وحدها كما لو كان الشأن يتناول ازمة بين الحكومة المركزية بباريس وإحدى المقاطعات الفرنسية. وقد درج الفرنسيون على هذا الاعتقاد واصبحوا ينظرون الى تونس نظرتهم الى جزء من وطنهم هذ هو الواقع الذي يجب ان ننكب على دراسته حتى نتدبر الامر لنرى اين كنا ومن اي ظلمة انبلج صبحنا فنهتدي الى ما تبقى لنا من طريق حتى ساحل الاستقلال التام.
نعم علينا ان لا ننسى اين كنا منذ اقل من سنة يوم كانت سياسة الالحاق والادماج هذه تحوم على رؤسائنا ويروم بها الاستعمار اقتناص ذاتيتنا.
وقبيل تصريح يوم 31 جويلية 1954 أشرفنا على شر الهزائم بعد كفاح مرير دام ثلاثا وسبعين سنة فقد عرضت فرنسا اصلاحات 4 مارس وكادت ان تقضي على كيان الدولة التونسية بادخال الجالية الفرنسية بأكملها في صلب الامة التونسية وجعلها عنصرا تونسيا ينتخب على مبدأ المناصفة فيتم للسياسة الفرنسية ما تهدف اليه من إلحاق وتؤول الذاتية التونسية الى الذوبان دون رجعة.
فقد قاسينا السيطرة الفرنسية طيلة ثلاثة وسبعين عاما وخضعنا للحكم المباشر وعانينا القوة الغاشمة بينما الحكم الفرنسي بقي فاقدا لكل اساس شرعي ذلك ان فرنسا استمدت هذه السلطة وهذا النفوذ من وثيقة فرضت على الباي ختمها بالقوة.
وما دام الباي مالكا لهذه البلاد فهو المؤتمن على هذه السيادة اما فرنسا فانها تقوم بما تشاء في هذا الوطن بتنازل من الباي وبعبارة اوضح كان لفرنسا في هذا البلد الحوز ولم يكن لها الاستحقاق فجميع ما اغتصبته من سلطات منحتها للمراقبين الفرنسيين. وما استخلصته من نفوذ اسندته الى »الجندرمة« الفرنسية والى الجيش الفرنسي كل ذلك لم يكن شرعيا ولم تقره الاتفاقيات.
قاومنا ازدواج السيادة
لذلك كنا دوما نطالب فرنسا بأن ترجع عن غيّها وتثوب الى رشدها وتسلم سيادة البلاد الى اهلها ولا غرابة ان كان اول طلب نادى به الحزب الحرّ الدستوري التونسي هو منح تونس دستورا باعتباره أول مظهر للسيادة الشرعية وكنا نستدرجها الى ذلك المنطق باعتبار ان السيادة ملك للأمة.
وهكذا طالبنا بأن تكون الحكومة التونسية مسؤولة امام الشعب صاحب السيادة وكانت فرنسا تعارض في ذلك علما منها بأن مباشرة الشعب لسيادته وتعيينه لنوابه يجعل حكمها فاقدا لكل اساس.
ولما رأت فرنسا الموقف الصريح الذي وقفه الباي في خطابه يوم 15 ماي 1951 حين اعلن تنازله عن سلطاته التشريعية لفائدة التونسيين بينما طالبت الحكومة التونسية آنذاك بالتفاوض مع فرنسا لإيجاد برلمان يمثل الامة التونسية اصبحت في حرج من امرها. ذلك ان تواطؤها مع المؤتمن على السيادة كان ييسّر لها ركوب جميع وسائل العنف والقمع والارهاق كلما ضايقها الشعب مطالبا بالحياة النيابية. اما وقد طالب المؤتمن نفسه على السيادة بإرجاعها الى الشعب فان الحال آل بفرنسا الى مأزق حرج تهلهل به وضعها وانتفت حجة الدفاع عن حقوق الباي التي كانت تتذرع بها والتي جعلتها اكثر ملوكية من الملك.
ذلك هو سر الازمة التي اثارتها مذكرة 15 ديسمبر 1951 التي أجابت بها الحكومة الفرنسية عن مقترح الحكومة التونسية التفاوضية بشأن منح تونس الاستقلال الداخلي كمرحلة أولى. فقد ردت سلطات باريس بأنها ستوافق على ايجاد برلمان تونسي منتخب على شريطة ان يكون ضمنه الفرنسيون المستقرون بتونس كي تصبح السيادة التونسية جزءا مشاعا بين التونسيين والجالية الفرنسية وبهذه المناورة تتظاهر فرنسا بالمصادقة على بعث الحياة النيابية. على انها في الآن نفسه تقر الازدواج والمناصفة في السيادة بين التونسيين والفرنسيين وذلك اشد البلايا وأدهى الخطوب.
كادت ذاتيتنا ان تضمحل
ومن ثم اندلعت شرارة المعركة ونزلت بنا أنواع التعسف والاضطهاد وضمانا في وجه الكوارث والمحن حتى تبقى السيادة التونسية وهي اغلى ما يعتز به هذا الشعب سليمة لا يشوبها مسخ ولا ازدواج وتغالت فرنسا في اضطهادنا وفرضت علينا قهرا اصلاحات 4 مارس 1954 التي تمكن الجالية الفرنسية من حق مناقشة ميزانية الدولة وذلك هو مظهر السلطة التشريعية، وقاومنا تلك الاصلاحات وصمدنا.
ولقد كادت ان تأتي اصلاحات 4 مارس 1954 على كفاحنا التحريري وتقضي على سيادتنا القومية وتبيد عروبة هاته الامة واسلامها فيذوب ذلك العنصر التونسي العربي المسلم شيئا فشيئا ويصبح بعد احقاب جالية من الجاليات يقول عنها المؤرخون فيما بعد انها كانت تتكلم العربية كما يقال اليوم عن اهل تونس قبل 14 قرنا انهم كانوا يتكلمون اللاتينية ما ادعوكم الى اعمال الرأي فيه حتى تقدروا الانقلاب العظيم الذي حدث حق تقديره وحتى يتضح لكم البون الشاسع بين ما كنا سنؤول اليه وبين ما اصبحنا فيه الان بفضل تلك الخطة التي نفذت في مقاومة تلك الاصلاحات وبفضل استشهاد ابطالنا المكافحين الابرار الذين ضحّوا بحياتهم للإبقاء على ذاتية تونس وقوميتها. وقد كانت انتفاضة الشعب وصرخة المجاهدين درعا وقانا شر عواقب تلك الاصلاحات المبيدة لسيادتنا.
لا تعاون على أساس القهر
فلمّا كنا نقاوم الاستعمار الفرنسي، وننكر التعاون مع نظام الحماية، ومع الفرنسيين، لم نكن نفعل ذلك لأنهم فرنسيون ولا لأنهم مسيحيون غير مسلمين بل لأنهم كانوا يريدون فرض ذلك التعاون على أساس القهر والاستثمار، فكنا ندافع عن كرامتنا ونقاوم كل تعاون، ونعتبر كل من يتعاون مع المستعمر خائنا للوطن، ذلك ان الكرامة أسمى وأشرف من المصالح المادية التي ربما قد تنجر عن ذلك التعاون. أما عندما تثوب فرنسا الى رشدها وتميل الى ترجيح كفة التعاون الحر، وبعد إزالة كل ما من شأنه ان يحد من سيادتنا وحريتنا، فإنه يمكن لنا على هذا الاساس دون سواه، بل يكون من مصلحة بلادنا ان نتعاون مع فرنسا ومع كل الشعوب والأمم التي رائدها التعاون النزيه، بدل السيطرة والهيمنة على من دونها من الشعوب الضعيفة.
وليست هذه أول مرة أصدع فيها بهذه النظرية باعتبار أننا نعقد مؤتمرا، يحضره ضيوف أجلاء، بل أثبتنا منذ شهر يونيه الماضي في الكلمة التي دعيت الى تحريرها، تصدير لكتيب يحتوي ذكريات وصول الى تونس، فقلت آنذاك:
»إن تونس الشرقية بثقافتها العربية ودينها الاسلامي، الغربية بموقعها والتي يدعوها أهل الشرق بالمغرب (لا فرق بينها وبين الجزائر ومراكش وحتى ليبيا بما فيها طرابلس وبرقة، اذ كلنا مغاربة في قلب الغرب، جديرة متى اصبحت مستقلة بأن تكون أداة وصل بين حضارتين عظيمتين يحق للبشرية ان تفتخر بهما على حد سواء.
وهذه النظرية يمليها العقل، ولا أثر فيها للعاطفة. وقد كافحنا فرنسا لما كانت مستبدة. أما بعد التخلص من استبدادها فإنه يتعين علينا ان نكون واقعيين ولإن نطهر قلوبنا من كل حقد فجوهر الخلاف الذي كان يفرق بيننا وبين فرنسا زال اليوم أو هو بصدد الزوال تدريجيا. فلا مانع إذن من الإقبال على طور من التعاون الحر ونحن بقدر ما يعظم حظنا من الحرية بقدر ما ننادي بالتعاون، وهذا ما كان يجب ان أقوله تكملة لكلمتي الأولى التي أعلنت فيها أن الأمة التونسية عربية مسلمة وستبقى كذلك الى ان يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
لم نتصل بخرطوشة واحدة من الشرق العربي
ويجب ان تعلموا ان الشعب التونسي دخل الكفاح بمفرده ولا معين له فقد كان يكافح فرنسا بوسائل بدائية وأسلحة بالية من بقايا أسلحة المحور أو بما غنمناه من سلاح افتككناه من ثكنات الجيش الفرنسي.
ومع اننا لم نتصل ولو بخرطوشة واحدة من الشرق العربي فإننا لا ننسى مع ذلك فضل اخواننا وبني عمومتنا علينا وما اسدوه لنا من خدمات جليلة وما حبونا به من عطف، لكن لزاما ان نثبت هذه النقطة التاريخية حتى يطلع الجميع على حقيقة الظروف التي كنا فيها وواقع كفاح الشعب التونسي والملابسات التي حفت بذلك الكفاح.
ولكم انتم ايها المؤتمرون ان تنظروا فيما اوضحته لكم وما اسديته لكم من نصح وان تقرروا بكامل الحرية ان كنتم ترومون الاستماع الى بيانات يبديها لكم الاستاذ صالح بن يوسف ويوضح بها نظريته واني لا أمانع في ذلك على انني لا اشك لحظة في انكم قد فزتم بنضج وخبرة تسمحان لكم بتجنب الاخطاء والتوقّي من الاخطار.
أما القرار الذي اتخذه الديوان السياسي ضد الاستاذ صالح بن يوسف فقد اضطررنا اليه حتى نرفع كل التباس.
وحتى لا نظهر امام الدولة التي تعاقدنا معها في مظهر المتلاعبين ونقول ما لا نضمر في حالة لا حرب فيها ولا سلم ايضا. وهل من المعقول ان نتحدث عن تعاون مع فرنسا يهدف الى السير بنا في طريق الاستقلال بينما بعض شعبنا وجامعاتنا المنتمية الى شخصية مسؤولة في هذا الحزب كجامعة جلاص مثلا تنهمك في جمع اسلحة بسيطة لتستأنف الكفاح فالخصم يترصد بنا الفرص واذا ما ساوره شك في صدق نوايانا فقد يسارع الى الغاء تلك الاتفاقيات والرجوع في تعهدته. وقد لاحظتم بأنفسكم ما انزلته فرنسا في الايام الاخيرة من جيوش بأرضنا استعدادا منها للطوارئ ولما قد ينبعث من اضطرابات وتمرد كي تستطيع مجابهة ما عسا أن يحدث.
وهذا مادعانا الى اتخاذ مثل ذلك القرار الحاسم ضد الاستاذ صالح بن يوسف حتى لا يقوم احد من بيننا فيزرع الشكوك في العقول ويدعو الى الاعتصام بالجبال واستئناف الكفاح ويقحمنا في معارك لا يعادلها هول ويؤلب علينا القوى فتكون المصيبة النكراء.
للمؤتمر القول الفصل
واليوم وقد اجتمعتم انتم نواب الشعب فان لكم القول الفصل فيما يدعيه هذا الرجل، لكم ان تختاروا بين المصادقة على خطة الديوان السياسي وبين استئناف الكفاح، ولكم ان توجهوا دعوة الى الاستاذ صالح بن يوسف ليحضر هنا فتستمعوا من هذا المنبر الى وجهة نظره فيما يدّعي، فلقد اتحادنا اليوم كلنا في المستوى وليس بيننا رئيس.
ولا أمين عام وكلنا نواب في هذا المؤتمر وللمؤتمر وحده الحق في ان يقرر ما يشاء.
أما وقد بسطت عليكم رايي في الاتفاقيات التي نعتبرها مرحلة وسيلة للسير الى الامام فإني اريد ان اعبر عن استيائي لموقف بعض التونسيين الذين يقفون عند حدود العاطفة فيتذمرون من هذا الخلاف الذي نشب بين بورقيبة وصالح بن يوسف ويعتقدون ان المسألة شخصية في الوقت الذي لا خلاف فيه بيني وبين هذا الرجل.
فلقد كانت الأمة منذ اشهر صفا واحدا متراصا فرجع بن يوسف وحاول تصديع هذه الوحدة، فلتحكّموا العقل فيما انتم فيه ولتعمّقوا في بحث جوهر الخلاف ولا تجعلوا للعاطفة عليكم سلطانا ويناشدنا بعضهم بدماء الشهداء وغير ذلك ان نتفق مؤكدين انهم معنا سائرون، فأي مسيرة واي اتفاق بين مشرق وبين مغرب بين من يقود امة الى الهاوية وبين من يخطو بها مسالك الخير والسعادة. ان الخلاف بيننا يهمكم من قريب وانتم به اوثق فإما ان ترجعوا الى الجبال وتسأنفوا القتال وستفهوا نوايا من وثق بكم. واما ان تعدوا هذه المرحلة غنما تعتمدونها لتنطلقوا منها الى الامام.
الشهداء عبّدو ا بدمائهم طريق النجاح
فالمسألة مسألة اختيار ولستم قطيعا من الغنم ينقاد دون رأي وبرهان، فمن فكر وتبصر لا يسلك منهاج الخيبة الذي سطره بن يوسف ومن لم يفكر ويستحلفنا بدماء الشهداء الزكية ان نتصالح. ويتردد في الاصداع برأية وما يمليه رشده فإنما يقضي على الحلول التي تُفضّ بها الخلافات بين الشعوب. فالطريق التي عبدها شهداؤنا الأبرار بدمائهم الطاهرة هي طريق النجاح والفوز، وهو ما عليه اجمعنا اما ما يروم سنّة بن يوسف فهو طريق الفشل الذريع والخيبة المرة والقضاء المبرم. فإذا فكر الجميع فيما أقول زال الخلاف واتضحت لكل ذي عينين معالم الرشد من مواطن الغي فيلتئم الجميع ولا يبق خارج الصف الا المتنطعون ممن لا يعد مروق أمثالهم تصدعا.
وقد انسلخنا نحن في الماضي عن القدماء وبعثنا هاته القوة الماثلة في الديوان السياسي وكان البعض يسمي ذلك تصعدا ويناشدنا الوحدة لكن الجميع بين الخير والشر والغث والسمين والحق والباطل، بلاء ما بعده بلاء، ولم نفلح في توحيد صفوف هذه الأمة على مبادئ سليمة وأسس متينة إلا بعد ان أقصينا عن صفوفنا كل المنتطعين الذين نعتناهم في وقت من الأوقات (بالغرانطة) والذين كانوا لا هم لهم الا التظاهر والتشدق وكلما انضم احد منهم الى خصومنا تعززت صفوفنا بانضمام عدد كبير من المناضلين الينا. لذلك فان خروج صالح بن يوسف عنا انما يزيد صفوفنا إلتئاما ويوحّد كلمة المكافحين.
وهل تصدّع صفّ المسلمين لما انقسمت قريش الى شطرين اثر ظهور النبي صلى عليه وسلم في جزيرة العرب ودعا الى الاسلام فاستجاب لدعوته شطر منهم وبقي الآخر مشركا؟
وفي واقعة »بدر« كنت ترى احيانا القبيلة الواحدة والعشيرة الواحدة يتحارب أبناؤها، هذا يناصر الحق وهذا يناصر الباطل. ولم يكن هذا من التصدع في شيء.
فهل تساءل من يناشدنا الوحدة والتصالح على اي اساس نتحد؟ أعلى الحق، أم على الباطل؟ أما وقد أجمعت أغلبية الأمة الساحقة على خطة مركزة قوامها الواقع والمنطق وشذّ عن إجماعها فرد أو شرذمة قليلة سلكت مسلكا مآله النكبة والخسران فهذا لا يعد تصدعا.
الركون الى الرأي وملكة التمييز
فواجب الأمة اذا وفي مثل هذا الظرف ان تعمل الرأي وتحكم ملكة التمييز وتبحث بنفسها عن الصواب فلا تنكمش على نفسها وتلوذ بالحياد وتبقى تبصر من بعيد خلاف زعيمين وتسدل على عينيها غشاوة وتقول اني منتظرة ان تتفقوا سواء كان اتفاقكم على حق أم على باطل ثم اقتدي بكم وأسير خلفكم.
والذي اطلبه منكم أن تفكروا مليا في الجوهر لأن الزعيم ليس له الا ان يوجه بينما على الامة أن لا تقتنع برأية الا بعد التروي وان تصدع بحكمها له او عليه.
وقد حرصت دوما على ان أسخّر مواهبي وما حباني الله به من مدارك وما ظفرت به من تجربة في سبيل البحث والاجتهاد. وهذا ما ادعوكم اليه اليوم حتى تتبعوا من الامور اصلحه فيتّضح الموقف وينحسم الخلاف.
ان الخلافات السياسية لا تفض بمجرد العاطفة المشبوهة بل لا تنتهي الا متى تسلط عليها العقل والادراك وغاص المرء في غورها لا استجلاء المواقف حتى يبت فيها بنزاهة وتجرد وترفع عما تشوبه الغايات الدنيئة فلا تحدوه الا رعاية المصالح العليا للأمة وبذلك وعلى هذا المستوى من الادراك تحسم الخلافات دون غوغاء ولا هرج.
ولن اختم كلمتي قبل ان أحذركم عواقب الاغترار. قد ظللت خمسا وعشرين سنة أرشدكم الى ما فيه خيركم وصلاحكم، أرشدتكم في الكفاح وارشدتكم في كل الظروف القاسية التي مرت بنا، وهديتكم السبيل وكنت دوما في الطليعة سواء في الحرب او السلم.
والتاريخ يشهد والحمد لله اني خدمت هذه الامة بإخلاص واين نجحت في مهمتي اذ ظفر الشعب اليوم بما ينعم به من حرية مكنتنا من عقد هذا المؤتمر الخالد ومن الاجتماع بإخواننا من المشرق والمغرب. ولا أدل على نجاعة هاته المرحلة التي نجتازها رغم ما تتصف به من نقص في بعض الميادين من صدور أوامر حكومتنا الى السفراء كي يؤشروا جوزات سفر أخواننا من العرب وتمكيننا لهم من زيارتنا وحضور مؤتمرنا تشريكا لهم في فض مشاكلنا.
ومهما كانت ملكة الاقناع عندي قوية فاني مؤمن ان الرشد من عند الله يمنحه من يشاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.