السجن كعزلة للخلق والابداع قديم قدم السجن وقدم الخلق والابداع. كم من مرة سألت كاتبا أو شاعرا أو سينمائيا عن علاقته بالسجن إلاّ وشعرت وكأنه يريد الرجوع الى السجن لتختمر مادة خلقه. سألت يوما المرحوم لطفي الخولي عن انقطاعه عن الأدب لما كنا نعيش في »سجن الهجرة« بباريس قال: »أعيدوني الى السجن... أنا لا أكتب القصة الا في السجن« وهذه الحكاية أدّت الى ان جمعت بين لطفي الخولي والصديق النقابي منصف الغانمي علاقة أدت الى أن يخصص شهادته للكفاءة في البحث عن »أدب السجون لطفي الخولي نموذجا«. كذلك الامر مع عبد الرحمان الأبنودي الذي لم يندم عن مرحلة السجن اذ كتب فيها قصيدة / القصة »أحمد سماعين«. وكذلك ايضا مع النوري بوزيد الذي يعترف بأن السجن مكّنه من تنمية زاده المعرفي في النظريات السينمائية وقد عكس ذلك في رائعته »صفائح الذهب«. والأمثلة كثيرة إلا عبد الرحمان المنيف الذي عكس عالم السجون والقمع والتعذيب دون ان يدخل السجن في روايته »شرق المتوسط«. ولعلاقة الخلق والابداع بالسجن تاريخ طويل وأولها سجن سقراط واخرها لن يندثر. ان السجن كموضوع في الشعر والرواية ربما استنفذ لكن السجن في المرئيات مادة لم تدرس الى حد اليوم. فالسجن في المسرح موضوع شاسع والسجن في الرسم حاضر منذ القدم والسجن في السينما موضوع لم يستهلك لكنه يبرز مرة في السنة على الاقل والسجن في الملصقات موضوع شاسع. وهاجس موضوع السجن وفنّ السجون وسجون الفنّ بؤرقني منذ سنوات وأبحث عنه كما أبحث عن مفهوم الحرية في الابداع. في الرسم ربما تعود أول الرسوم على جدران الكهوف في ما قبل التاريخ الى مفهوم »السجونية« اذ أن الانسان، هربا من الحيوان كان يسجن نفسه داخل الكهوف ولذلك يرسم الحيوانات والقمر والشمس والبشر. أما السجن كموضوع في الرسم فهو متواجد منذ بداية النهضة حتى اليوم وقد أتى في أعلى مراحله في رائعة »جيوفاني بيرانيزي« (Giovani Piranesi) المعنونة »السجن المتخيل« (Carseri d'Invazioni) وهو مجموعة من اللوحات لا مثيل لها عن عالم السجون. وأكثر الشخصيات السجونية في الرسم الاوروبي هي القديسة كاترين خطيبة يسوع التي رفضت الزواج من الطاغية مكسيم نوس الذي بعث لها 18 خاطبا فأدخلتهم الى المسيحية فسجنها، وأشهر لوحة لها رسمها الرسام فيرونيزي سن 1578 وهي في متحف نيويورك كماسها من بعد العديد من الرسامين، وعنوان اللوحة »القديسة كاترين في السجن«. وقد أعيد الاهتمام بالفن والسجن عندما تحوّل سجن سان روش بفرنسا الى متحف يعرض جدارنه التي رسم عليها السجناء مذكراتهم وأحزانهم وهو اليوم معلم يعرض كل سنة لوحات عن رسم السجون مثل لوحة السجين لفازرلي وخاصة لوحات الصيني الفرنسي الشهير يان بان منيغ. أولوحة الفنان السريالي روني ماغريت »السجين«. ويبقى السجن في الفن والفن في السجن اليوم موضوع العديد من التظاهرات والمهرجانات غير ان السجن والسجون هي موضوع فن آخر مثير للاهتمام وأعني الملصقات. الملصقات والسجن يحتل السجن وقضبانه المنزلة الأولى في الملصقات وخاصة منها التي تنادي بالحرية وعلى رأس هذه المدونة من الفنون تأتي الملصقات الخاصة بفلسطين وهي قد رسمت في جميع انحاء العالم وان نقرت على غوغل »كلمتي سجون وفلسطين بأي لغة« ستجد ان عدد الملصقات مذهل وهي تأتي محملة بألوان علم فلسطين وقضبان السجون والاسلاك الشائكة وقيود المعاصم واشهرها اليوم ملصق »مروان البرغوثي« وهو يرسم علامة النصر وأيديه موثوقة مكبلة وتلي فلسطين ملصقات »نلسن مانديلا«. رغم مرور الزمن، ثم ملصقات »منظمة العفو الدولية بشمعتها الشهيرة والمطوقة بالأسلاك الشائكة، وبعدها الملصقات المنددة بالاتحاد السوفياتي سابقا ثم ملصقات منظمة »صحافيون بلا حدود« واخرها ملصق »بيكين 2008« الشهير. وتأتي كذلك ملصقات الافلام التي تتحدث عن السجون وهي عديدة وأجملها ملصق فيلم »السجينة« للمخرج الفرنسي »هنري جورج كلوزو« (H. G. Clouzot). السجن في السينما تعجّ السينما بالافلام التي تتناول موضوع السجون منها المندد ومنها الذي يعالج قضايا الأجرام ومنها عن المافيا وتليها الافلام التي تندد بواقع السجون وتحتل فيها الافلام الخاصة بالنازية والفاشية العدد الكبير، والافلام التي اتخذت السجن كموضوع أساسي تكاد تكون سنويا »انظر (wiki pidia) فأولها فيلم »شارلي شابلن« عام 1917 شارلو يهرب من السجن واخرها الفيلم الفرنسي جاك أوديار الذي يقوم ببطولته ممثلون من اصل مغاربي: »الطاهر رحيم« (الجزائر) »عادل بن شريف« (تونسي) هشام يعقوبي (المغرب) ونأمل ان نراه على شاشاتنا والذي أتى سنفونية جميلة ضد السجون والعنصرية ويتخلل تاريخ السينما روائع مثل »سجين الكاتراس« لجون فرتكانهايمر و »الفراش« لفرانكلان شافر و »البرتقال الميكانيكي« لستانليس كوبريك وخاصة الفيلم الذي آثار سخط العالم »قطار نصف الليل« الذي عوض ان يفضح السجون التركية كان قمة في العنصرية وشتم الأتراك، ويبقي الفيلم الفرنسي هروب المحكوم بالاعلام« »لروبر بريسن«أجمل سنفونية سينمائية عن السجون. ولم تكن السينما العربية بعيدة عن الموضوع فإن كان السجن هو محور الافلام التاريخية فإن فيلم »أدهم الشرقاوي« المقتبس عن قصة »مانت كريسو« لأكسندر دوماس هو من كلاسيكيات أفلام السجون العربية فإن فيلمي »الكرنك« لعلي عبد الخالق و »البريء« لعاطف الطيب »دليل وقضبان« لأشرف فهمي أشهرها، بيد أن أجملها وأصدقها على الاطلاق فيلم »صفائح الذهب« لنوري بوزيد. وربما تحتل الافلام الفلسطينية رأس القائمة وخاصة منها الوثائقية بحكم ان فلسطين هي سجن كبير، كما ان افلام جنوب افريقيا قبل عشرين سنة كانت جلها تدور حول السجون وكذلك افلام آسيا من بنغلاداش وبرمانيا والصين. في الغناء لم تكن الأغنية بعيدة عن موضوع السجون وقد أحصت خزينة الصوتيات ببروكسال عام 1989 اكثر من ألف أغنية حول »حقوق الانسان« غير أن أشهر الأغنيات عن موضوع السجن أتت في امريكا وخاصة »بوب ديلان« ورائعته »هاريكان« عن سجن الملاكم الأسود المسجون ظلما وقد أصدرت منظمة العفو الدولية قرصا به 15 أغنية ضد الأعدام كلها جميلة. أما بالنسبة لفرنسا فقد تربع ليوفيري على عرش هذا الموضوع برائعته »الملصق الأحمر« وتأتي أغنية »ايف دوتيل« بعدها وعنوانها »جدار السجن المقابل« ثم برنار لافليبي بأغنية »بيتي« وخاصة أغنية »بوريس فيان« الكاتب / الفنان: »زمن الحياة«. أما بالنسبة للعرب فالمجال هنا فقير جدا باستثناء الرائعة الكبيرة أوبريت »اخر ايام سقراط« التي عرضت في مسرح ببيروت عام 1998 للأخوان رحباني وقام فيها بدور سقراط رفيق علي أحمد ودور تيودورا كارول سماحة. ❊ ❊ ❊ واستسمح هذه الخاتمة الذاتية... كنت دوما أحدد مواعيدي في مقهى »شاتلي« وسط عاصمة باريس بمسرحيها المتقابلين »مسرح شاتلي« الخاص بالموسيقى ومسرح المدينة وكنت أبحث دوما على تاريخ المسرحين وتشبثت بالمكان عندما علمت ان مسرح «شاتلي الذي تغني على ركحه أجمل أصوات العالم... كان سجنا هدمه بونابارت. وأطرف من ذلك ان الفيلسوف الكبير »برنارد سنيغلار« أكبر منظّر في المرئيات اليوم ومدير »المعهد الوطني للسمعيات والبصريات سابقا ورئيس وحدة الخلق بمركز بومبيدو والاستاذ الكبير بالمعهد الاعلى لعلوم الانسانية كان قد أعدّ دكتوراه في السجن تحت اشراف »جاك ديردا«. لماذا دخل السجن؟ كان برنارد ستيغلار ناشرا فوضويا صغيرا ولما أفلس قام بالسطو على بنك فأودع السجن لمدة خمس سنوات ليخرج منه كسقراط اليوم أهم فيلسوف الصوت والصورة.