شجرة تتفرّع اغصانها وسط خلجان الماء، هكذا ظهرت ملامح مدينة"تمبا"في ولاية فلوريدا من شباك الطائرة التي كلّما اقتربت من الارض تبدّت مشاهد الخضرة والماء وتعرّت ملامح الرفاه... فأمام كل بيت من هذه البيوت الجميلة المطلة على الماء يرسو يخت صغير وخلف كل بيت تتمطّي حديقة. منذ طريق المطار نحو"منتجع سان بترسبرغ"حيث اقمنا لم تحاول المدينة ابدا ان تتخفي او تستر وجهها الحسن بل كانت سخيّة الحسن حدّ الفضيحة، فمن اعلى الجسر الطويل الذي يشق البحر على امتداد كلمترات طويلة كانت ترافقنا الطيور المائية البيضاء وكانت دلافين وضّاءة تتناجي وراء النافذة في استعراض فضيّ خلاّب، وعلى اليابسة كانت المنازل الملونة تحنو على ازهار مداخلها وينتشر جمالها على الحواف... الفندق الذي وصلناه كان فارها واستقبال العاملين به كان لطيفا وقد تُركنا احرارا في اختيار مكان عشائنا بعد ان تسلمنا برنامج زيارتنا لفلوريدا واحرارا كذلك في سبل اكتشاف المنتجع الذي تنتشر به المطاعم والمركبات التجارية والصبايا الفاتنات والشباب المفعمين بالحياة، كما تتوزع على جنبات يخوته الراسية في كل مكان اسماك كبيرة وجميلة تحرسها بجعات تقف في أمان على سيقان طويلة واثقة... ببشاشة ايضا استقبلونا في اكبر جرائد المنطقة جريدة"سان بترسبرغ تايم"استقبلنا مدير التحرير مصحوبا بصحفية محققة ومصور كانا قد اجريا تحقيقا حول حرب غزة، استقبلونا ليحدثونا عن مدى استقلالية الصحيفة وموضوعيتها وابدو لنا نموذجا من مهنيتهم في تغطية الحرب الصهيونية على غزة ، روبرتاجا اجرته هذه الزميلة الشجاعة كانت فيه على درجة من المهنية بحيث قدمت بعض الشهادات لافراد عائلات فلسطينية هُدمت منازلها فوق رؤوسها بواسطة قصف اسراب الطائرات وقنابل الفسفور الابيض المحضور و»النابالم« الممنوع لجيش الدفاع الاسرائيلي فقتلت من قتلت وشوهت من شوهت وشردت من تبقى، وكذلك اوردت هذه الصحفية في اطار ذات الحرفية شهادات لمستوطنيين يهود تضررت ازهار حدائقهم الخلفية بواسطة صواريخ حماس وأصاب الخوف قططهم الهانئة واكتست سقوف وحداتهم السكنية بالغبار... ولكن رغم كل هذه الموضوعية الاعلامية لم يسلم هؤلاء الصحفيون الموضوعيون وصحيفتهم الموضوعية من الانتقادات الموضوعية للوبي الصهيوني في فلوريدا ، إذ انهالت عليهم المكالمات الاحتجاجية قبل أن يزورهم وفد رفيع المستوى من كبار حكماء بني صهيون في مقرالصحيفة ليبدي غضبه ويهدد بسحب اعلاناته وتخفيض مقتنياته. في فلوريدا الجميلة قضينا ايضا صباحا في مركز تدريب الصحفيين هناك مع رئيسة لجنة اخلاقيات المهنة الصحفية لتدعونا الى الحيادية وتحدثنا عن مواثيق الشرف الاعلامي التي يجب ان نقتدي في تطبيقها بالنموذج الامريكي ونستلهم من الخبراتالامريكية في حماية مصادر الخبر، ونهتدي بأعلام الصحافة الامريكية في دفاعها عن المظلومين وعدم مرافقتها للجيوش وعدم ارتدائها للبزّات العسكرية. »تمبا« مدينة الجمال نعم، »تمبا« المزدانة بالاضواء والملتحفة بالاحلام، »تمبا« الهادئة التي ارتدى شبابها كل خضرتهم للاحتفال بعيد قديسهم »سانت بتريك« صحبة الايرلنديين وليشربوا على انخاب روحه نبيذا ابيض وملونا ويرقصون على كل الانغام، »تمبا« الساحرة استضافنا في احد مطاعمها نحن فريق الصحافيين العرب مواطن فلوريدي طيب القلب كريم في يمينيته وسخي في ليبرياليته، وفي »تمبا« استضافنا المال غير المحدود داخل قصر احدى باروناتها الجدد الذي تحول الى ناد للاغنياء يتناولون به اكلهم ويناقشون تناقص ملايينهم وملياراتهم نتيجة الكساد العالمي الجديد...وفي هذا النادي استقبلتنا حاكمة فلوريدا السابقة التي تحملت عبء اعادة فرز الاصوات في معركة بوش الصغير مع »ألغور« في معركتهما الانتخابية، وهي سيدة انيقة حدّثتنا في بشاشة وحب وأكدت ببرود انها لم تطرح لا هي ولا اي ممن تعرفهم ابدا سؤالا من قبيل لماذا لم تهاجم امريكا اسرائيل بدعوى نزع اسلحة الدمار الشامل؟ بعد غداء في احدى مطاعم الهبرغور الامريكي اخذتنا الحافلة المسرعة دوما حرصا على الوقت الى مكان شاسع ومحروس جدا هو مقر قوات التحالف الذي استقبلتنا في قاعة ضيقة منه رتبة عسكرية سامية قدمت تحيتها لنا في ادب نيابة عن الجنرال »بتريورس« قائد قوات التحالف في الارض العربية. استقبلتنا الرتبة هاشة وهى تقدم لنا نماذج من أزياء التحالف على الارهاب وتنشر على حائط امامها خريطة وطننا العربي من المحيط الى الخليج وتشرع في الحديث عنه مشيرة الى اراضينا العربية بقلمها الحديدي الطويل... تشير لها (الأراضي) وكأنها مناطق سيادية للجيش الامريكي... نعم هكذا وبكل صفاقة وباسم العمليات الانسانية ومحاربة الارهاب الذي صنعوه يشير هذا العسكري الى كل ارضنا وكانها مناطق تدخّل مشروعة منتهكة الحرمات وبلا راع..فأسأله انا وصديق موريتاني عن التفسير الذي يقدمه الجنرالات الى جنودهم قبل احتلال بلدان آمنة؟ فينتفض قائلا: »نحن لسنا بلدا محتلا«، فنؤكد له انكم بما تفعلونه في العراق محتلون وبما تفعلونه في فلسطين محتلون وانكم لا يمكن ان تخدعوا العالم بعد اليوم باسم العمليات الانسانية ونشر الديمقراطية... فيجيبنا »هذه سياسة ونحن اعوان تنفيذ، جنود في خدمة وطننا«. فأسأله طيب سيدي هل حققتم بعيدا عن السياسة مع جنود عملوا تحت رايتكم وارتكبوا كل فضاعات »أبو غريب« واغتصبوا »عبير الجنابي« وقتلو اهلها بدم بارد وقتلوا الابرياء والصحافيين والمفكرين والكتّاب بدم اشد برودة؟ مختنقة وبدون اكسجين خرجت هاربة من ذاك المكان لا ألوي على شيء سوى الغياب ، لذت بصمتي وعجزي ونمت لأحاول من غد غرس الرّمل في رأسي ونسيان كل هذا والاستمتاع بهذا الكرنفال الجمالي واستجلاب خاتمة سعيدة لزيارتي للولايات المتحدةالأمريكية التي بدأتها وانهيتها وانا لا ادري لماذا بالتحديد جئت الى هذا المكان... ؟!