كان من المفروض ان يكون مقالي هذا موضوع مداخلة كتعقيب على محاضرة الباحث الأستاذ يونس حمد (la désertification de l'or bleu dans le sud ouest tunisien) خلال الندوة السنوية الخامسة بعنوان: «الصحراء والماء والواحة» والتي انتظمت بمقر جمعية صيانة مدينة قفصة (دار لونقو سابقا) يومي 4 و 5 ماي 2010، لكني وللأسف لم أتمكن من متابعة هذه المحاضرة بسبب عملي كمدرس. التقديم: في البداية نذكر بأن سبب وجود الواحات بالجنوب الصحراوي هو توفر الماء، اما وجود مدن صحراوية مزدهرة نسبيا فيعود الى ما ذكر ولكن ايضا الى اسباب اخرى مثل إحداث المدن الثكنات (limes romain) لمراقبة هذه المناطق النائية عن السلطة المركزية، وكذلك نظرا للدور التجاري بما ان هذه المدن عبارة عن نقاط ربط بين المشرق والمغرب وبين الشمال الافريقي وجنوب الصحراء (مثال قفصة) ورغم ان هاجس نقص الكميات الضرورية من الماء يهم القطر التونسي ككل وخاصة جزئه الصحراوي ووسط البلاد شبه الجاف وحتى منطقة الوطن القبلي القريبة نسبيا من الشمال الممطر، فإنني سأركز مداخلتي حول وضع واحة قفصة ثم التطرق الى الحلول الممكنة. الوضع الحالي لواحة قفصة وأسبابه: منذ أواخر الفترة الاستعمارية بدأت عيون الماء بقفصة والآبار المنزلية المتواجدة بمركز المدينة القديمة وبالأحياء العتيقة المتاخمة لها وكذلك المكايل (النكايل حسب لهجة سكان قفصة عكس ما هو عليه الحال بالقطار) بالنضوب وخاصة بعد حفر بئر سيدي منصور القديمة المتواجدة الى الآن داخل مستودع مصلحة المياه بالدوالي (برج ديكسي سابقا) وذلك لتوزيع الماء الصالح للشراب على الراغبين في إدخال حنفيات الى منازلهم وقد كانوا قلة في ذلك الوقت (لا زال ابناء جيلي يتذكرون ظاهرة انتشار الحنفيات العمومية مثل سبالة السوق وكذلك توزيع الماء عن طريق سقاء المدينة الشهير قعبيط زواري رحمه الله) والطريف ان بعض الفلاحين انذاك قد عارضوا هذاا المشروع معارضة واعية بمصالحهم الخاصة حيث رأوا فيه منافسا لهم فيما يتمتعون به من «حقوق مائية» ورثوها عن أجدادهم لسقي بساتينهم وقد كان لهم ما أرادوا حيث نفثت كميات من الماء في بعض العيون لتعويض النقص الحاصل في مستوى المياه (مثال: عين عبد الله بكر قرب واحة سيدي منصور والتي كانت تسقي بساتين واحة الحشايشية في المناطق التي توجد الآن حيث مقر شركة فسفاط قفصة (CPG)الآن وما حولها). كما أقيمت «فانات» ماء (Vannes) تمنح الماء مجانا لمختلف واحات قفصة (سيدي منصور المعز ترتش بولانة فانيش القصبة تيلة رقايع سالم...) ولكن الماء تواصل في النقصان ونضبت اغلب العيون بدء بالعيون المتواجدة بأعالي وادي بياش (مثال رأس العين بالدوالي) ووصولا الى الفوارة ووادي الباي (العيون الرومانية وليس المسابح...) ورغم عودة محدودة زمنيا لعيون «المناقع» اثر فيضانات 1990 (املك صورة تبين ان ماء الفوارة نبع من جديد انذاك) فقد اضمحلت المائدة السطحية، خاصة بعد اقامة مشروع المركب الكيميائي بالمظيلة (ICG) سنة 1986 والذي استغل مياه مائدة واحة سيدي احمد زروق التي هي جزء لا يتجزأ من المائدة السطحية بقفصة وليس كما فهم «بعض الجهلة»، بأنها مائدة مائية مالحة وبالتالي لا علاقة لها حسب رأيهم بمائدة العيون الرومانية وقفصة عموما. فملوحة ماء سيدي احمد زروق تعود لفوارق جيولوجية بحتة لا الى انفصال عين سيدي احمد زروق عن مائدة الجهة عموما الناتجة اساسا عن سيلان وادي بياش وكذلك العيون السفلية للجبال المتاخمة، والانكسار الجيولوجي المعروف. وقد زاد الامر سوء بسبب انتهاء التوزيع المجاني للماء وتزايد التسعيرة وفق سياسة المراحل الشهيرة (بدا الامر بدفع معلوم سنوي يشبه الاعانة ثم تدرجت الامور الى تسعيرة 4 دنانير للساعة حاليا!!!) والجدير بالذكر ان المركب الكيميائي يسحب الماء من العمق، ولكن ذلك انعكس ايضا على المائدة السطحية، نظرا لعلاقة المائدتين ببعضهما. أضف الى ذلك اتساع المساحة السقوية بواحة قفصة باتجاه منطقة العقيلة كذلك تزايد الاستهلاك المنزلي بحكم تزايد عدد السكان وايضا الاستهلاك الصناعي والسياحي والرياضي مما دعا الى زيادة عدد الآبار العميقة. لقد اصبح الوضع كارثيا في الواحة خاصة اذا ما أضفنا بعض الاخطاء الفنية، فعلى سبيل المثال لاحظنا ان الماء الذي يتدفق من خزان جبل الميدة يصل بعسر الى بعض الواحات مثل واحة سيدي منصور وكذلك الدوالي 2، ولما بحثنا عن السبب قيل لنا ان الفلاحين الذين توجد ضيعاتهم في مناطق منخفضة نسبيا يسرقون الماء بفتح الفانات خلسة فينقص الصبيب بالمناطق المرتفعة. ولكن مع التحري ثبت ان السبب الرئيسي هو تموضع خزان تجميع المياه «أسفل جبل الميدة!!!» أما بالنسبة للاستغلال المنزلي فقد نجد من بين الحضور (بما ان هذا المقال في الاصل اعد على اساس مداخلة...) من يعرف ان بعض احياء المدينة المرتفعة طوبوغرافيا لا يصلها الماء في فصل الصيف وفي وقت الذروة اي في أواخر القيلولة. كما ان من اسباب نقص الماء بالجهة، نقص سيلان وادي بياش بعد بناء سد سيدي عيش وبعد لجوء الاخوة الجزائريين الى إقامة سدود عديدة على الوادي الكبير (سفيون) دون مراعاة سلبيات ذلك على واحة قفصة خصوصا (لست ادري هل ان القوانين المنظمة لاستغلال البحار والانهار تشمل ايضا الاودية...) والآن وبعد هذه البسطة لنا ان نتساءل عن الحلول؟ الحلول الممكنة: الحلول ممكنة حسب رأيي المتواضع اذا ما تجاوزنا بعض الافكار المسبقة والتي تتم عن جهل بالاوضاع الهيدرولوجية للبلاد وكذلك اذا ما توفرت الارادة الحقيقية في احداث استراتيجية مائية بل وغذائية طويلة المدى في بلد تلتهم فيه المباني السياحية والقصور الفخمة وحتى بعض المصانع الملوثة اغلب الاراضي الزراعية بالشريط الساحلي وقرب المدن الكبرى في شتى الانحاء (هذا سيؤدي حتما الى الحاجة الى استصلاح الاراضي التي كنا نعتبرها قاحلة ولا حاجة لاستغلالها. فليس للأجيال القادمة خيار آخر...). من الافكار المسبقة ايضا القول بأن الآبار العميقة بجهتنا هي فقط سبب المأساة فالذي يقول هذا الكلام هل يرضى ان يحرم من الماء طيلة ساعة او ساعات بسبب نقص الكميات المتوفرة؟ بل هل يعتقد ان العزوف عن استغلال مياه الآبار العميقة سيعيد لنا ما نحلم به بطريقة نوسطالجية (عيون أجدادنا مثل رأس العين والفوارة والوادي الصغير والكبير...)؟ لا اعتقد ذلك لان قفصة عام 2010 ليست قفصة عام 1960 او حتى 1970 ويمكن ان نعمم ذلك على كافة واحات الجنوب فالحلول يجب ان لا تبنى على العاطفة بل يجب ان تكون عقلانية. ولي جملة من الاقتراحات قد يستغرب لها البعض، ولكن اذا ما انكب عليها الدارسون فقد يجدون فيها ما يمكن تبنيه او على الاقل تطويره، أرجو ذلك على كل حال، فمن حقنا ان نحلم ولن تكون أحلامنا اكثر جرأة و «جنونا» من احلام العبقري «فرديناند دوليسابس» (Ferdinand de lisseps) (مهندس قناة السويس) والذي كان يحلم بتحويل شط الجريد الى بحر وكذلك بأن يمرر ماء وادي مجردة الى وادي زرود ووادي بياش لتوسيع المساحات السقوية بالوسط والجنوب فعندما انظر الى الواقع اليوم أرى ان بعض احلام هذا العبقري قد تحققت جزئيا (أمثلة جلب الماء من سبيطلة الى صفاقس او جلب الماء من وادي مجردة الى جهة الوطن القبلي عبر القناة الشهيرة التي تخترق جبل بوقرنين والتي أنجزها خبراء صينيون في بداية ثمانينات القرن الماضي. ودون ان اطيل عليكم، امر الى الحلول الممكنة حسب رأيي المتواضع: المزيد من حفر الآبار العميقة عبر كافة الجنوب التونسي لبناء شبكة مائية متكاملة (نحن نعلم ان المفارقة الطبيعية بتونس شاءت ان يكون الشمال ممطرا والجنوب قاحلا لكن غني بالموائد الجوفية (قفصة الشمالية انكسار قفصة الموائد الاحفورية بالجنوب الصحراوي بالخصوص). مواصلة بناء بعض السدود لتكوين البحيرات الجبلية لتغذية المائدة. محاولة جلب الماء الى المركب الكيميائي من البحر تجنبا لمزيد استنزاف المائدة. تشجيع السكان على اعتماد طريقة المواجل المنزلية فيما يخص سقي الحدائق او الاستحمام او الغسيل (حوافز...). التشجيع على الانشطة الفلاحية التي لا تستهلك بكثرة الماء مثل الزياتين واشجار الفستق واللوز... الحملات التوعوية من اجل التقشف في استعمال الماء ومقاومة التبذير (التشجيع على استعمال الحنفيات المناسبة). استصلاح المياه المستعملة. تقنيات «القطرة قطرة» رغم احترازي فيما يخص استعمالها للأشجار القادرة على التأقلم بعليا ونصف بعليا. التفكير بجدية في مشاريع تحلية مياه البحر (بلادنا تنعم ب 1300 كم سواحل). ايجاد خطة توفق بين الاستعمال السياحي والاستعمال الفلاحي للماء خاصة بمنطقة قفصة والجريد وقبلي... التنقيب على اساليب وتقنيات فلاحية قديمة تساعد على عدم اهدار هذه الثروة (مثال: لقد عثرت في احد الكتب المدرسية على نص به نصائح فلاحية للعالم القرطاجي «ماجون» (Magon) يدعو الى ضرورة ترصيف الحصى المتوسط الحجم بأحواض أشجار الكروم لكي تحافظ تربتها على الرطوبة مدة طويلة. وقد طبقت ذلك جزئيا بحديقتي المنزلية وكانت النتيجة مذهلة! ولما لا بحث موضوع وادي بياش بل وكل مياه الاودية المتدفقة من القطر الشقيق مع الاخوة الجزائريين. التصدي توعويا وليس بالقوة لظاهرة التفويت في الاراضي من قبل الملاكين الفقراء وحتى الاغنياء لصالح بعض السماسرة الذين يكترونها لفائدة بعض الشركات القوية (كارفور، بولينا) وللأجانب عموما، والذين يمارسون زراعات مكثفة ومستهلكة للماء دون مراعاة واقع الجنوب التونسي والتركيز على هدف الربح العاجل دون سواه، وهذا لعمري ضربة قاسية لمبدأ التنمية المستديمة التي يكثر الحديث عنها في صحافتنا المسموعة والمكتوبة ويكفي للتحقق من ذلك ان ننظر لما يحدث بأرياف سيدي عيش وقفصة الشمالية. خاتمة: كل ما ذكرنا لا يمكن ان يتحقق الا اذا اقتنع المسؤولون بأهمية رهانات الماء بتونس، ولكن ايضا إذا ما دأب الفنيون على القيام ببحوث جدية ومن قال جدية فيعني ذلك بالضرورة ان يشعر الباحث بأنه يقوم بدور وطني لا مجرد عمل روتيني يكسبه راتبا شهريا وبالاضافة الى ذلك لابد من ضرورة وعي كل الاطراف (من المسؤول الى المواطن) بأهمية هذه الرهانات.