الصين.. روبوت يخرج عن السيطرة و"يهاجم" مبرمجيه!    عاجل/ مجلس وزاري مضيّق باشراف رئيسة الحكومة يقر هذه الإجراءات..    وزير التربية في ابتدائية أولاد بركة بفوسانة...المدرسة آمنة وسيقع التدخل على مستوى السور    تنصيب الأعضاء بمباركة الوزارة...تعاونية الرياضيين مكسب كبير    الاحتفاظ بمنحرف من أجل المضايقة والتهديد بواسطة آلة حادة لإمرأة محصنة..    كشفه التّحقيق مع فنان شعبي شهير: فنانون و«رابورات» ومشاهير متورّطون في تجارة المخدرات    المهدية: اختتام مهرجان الوثائقي الجوّال في نسخته الرابعة: الفيلم المصري «راقودة» يفوز بالجائزة الأولى    في تعاون ثقافي قطري تونسي ... ماسح الأحذية» في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما    أخبار فلاحية.. أهم الاستعدادات لعيد الإضحى وتأمين أضاحي سليمة    عاجل: الجيش الباكستاني يعلن تعرض البلاد لهجوم هندي بعدة صواريخ    البرلمان يصادق على قرض من البنك الإفريقي للتنمية قيمته 270 مليون دينار    وزير الداخلية يلتقي المديرة العامة للمنظمة الدّوليّة للهجرة    كاس العالم للاندية 2025: مباراة فاصلة بين لوس انجلس ونادي امريكا لتعويض ليون المكسيكي    ترامب: الحوثيون في اليمن استسلموا للولايات المتحدة    عاجل/ الحملات الأمنية ضد مروّجي المخدرات: حصيلة جديدة للايقافات    ديوان الحبوب : طاقة التجميع تصل ل 7.6 مليون قنطار    زغوان: امتلاء سدود وبحيرات الجهة بنسبة تتجاوز 43 بالمائة    انطلاق عملية تعشيب ملعب بوجمعة الكميتي بباجة    افتتاح مقر جديد بتونس للشركة السويسرية "روش فارما" بتونس وليبيا    السودان يقطع علاقاته الدبلوماسية مع الإمارات    عاجل/ الحوثيون يتوعّدون بالرد على العدوان الاسرائيلي والامريكي    مجموعة شعرية جديدة للشاعرة التونسية وداد الحبيب    فتحي النوري : 120 دولارًا شهريًا... تحويلات التونسيين بالخارج أقل من المعدل العالمي بكثير!!    عاجل/ وزير اسرائيلي: "سكّان غزّة سيرحلون نحو دولة ثالثة"    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو التونسيين إلى الإقبال على الأدوية الجنيسة    قبل أن تحج: تعرف على أخطر المحرمات التي قد تُفسد مناسك حجك بالكامل!    عصام الشوالي:'' ليلة أخرى من ليالي الأبطال.. إنتر وبرشلونة على جوزيبي مياتزا''    ثورة في عالم الموضة: أول حقيبة يد مصنوعة من ''جلد ديناصور''    المهدية: تقديرات بإنتاج حوالي 115 ألف قنطار من الحبوب خلال الموسم الحالي    تظاهرة ثقافية في باجة احتفالا بشهر التراث    اختتام الدورة العاشرة لمهرجان "سيكا جاز"    68 بالمائة من التونسيين يستمعون إلى الموسيقى بصوت مرتفع ويتجاوزون المستوى العادي للاستماع (دراسة)    دليلك الكامل لمناسك الحج خطوة بخطوة: من الإحرام إلى طواف الوداع    الإعلان الرسمي المرتقب عن موعد عيد الأضحى    قابس: وفاة شخصين وإصابة 8 آخرين في حادث مرور    منزل بوزلفة: القبض على قاصر وإحالته على التحقيق بتهمة إضرام النار في معهد ثانوي    وزارة الحج: خفّفوا الأمتعة وتفرّغوا للعبادة في المشاعر المقدسة    450 ألف دينار قيمة المحجوز: تفاصيل عملية احتكار الموز المورّد في نابل    هام/ تطوّرات الوضع الجوي خلال الأيام القادمة..    منزل بوزلفة: الاحتفاظ بتلميذ من أجل إضرام النار بمؤسسة تربوية    بعد نقصها وارتفاع أسعارها: بشرى سارة بخصوص مادة البطاطا..    انطلاق محاكمة المتهمين في قضية "التآمر على أمن الدولة 2"    مؤسسة "فداء" تدعو جرحى الثورة ممّن لم يتسنّ عرضهم على اللجنة الطبية إلى الاتصال بها    سيدي بوزيد: انطلاق أشغال المستشفى الجهوي بمعتمدية جلمة في موفى ماي الجاري    وزارة الرياضة تعلن عن مشروع إصلاحي في علاقة بخطة المديرين الفنيين الوطنيين للجامعات الرياضية    الدورة الثامنة لتظاهرة 'الايام الرومانية بالجم - تيتدروس' يومي 10 و11 ماي بمدينة الجم    العائلة التُونسيّة تحتاج إلى أكثر من "5 ملاين" شهريًا..!!    كل ما تريد معرفته عن حفلة ''Met Gala 2025''    المنتخب التونسي في ثلاث مواجهات ودية استعداداً لتصفيات مونديال 2026    نصف نهائي دوري الأبطال: موقعة إنتر وبرشلونة الليلة    عاجل | تشديد شروط التجنيس في فرنسا يُقلق التونسيين المقيمين بالخارج    خبراء يحذّرون و يدقون ناقوس الخطر: ''فلاتر التجميل'' أدوات قاتلة    قليبية: ايقاف المعتدي على النساء بشفرة حلاقة    بطولة روما للتنس :انس جابر تستهل مشوارها بملاقاة التشيكية كفيتوفا والرومانية بيغو    رئيس الجمهورية: يجب فتح باب الانتدابات بعد تخليص الإدارة ممّن تسلّلوا إليها واعتبروا المسؤولية امتيازات وغنيمة    صفاقس : عودة متميزة لمهرجان سيدي عباس للحرف والصناعات التقليدية في دورته31    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صور عن الحرب أم صور لصناعة الحرب؟*
مقدّمة للحروب الجديدة للصّورة
نشر في الشعب يوم 19 - 06 - 2010


❊ ترجمة: المنتصر الحملي
- في العشرينات، تُتَّهم السّينما بأنّها عامل للانحراف، فتظهر دراسات علميّة حول الموضوع تحت قيادة مؤسّسة باين.
- سنة 1963، تظهر دراسات سلوكيّة تجرّم سلطة الصّور المشجّعة على الجريمة.
- سنة 1988، تسبّب فيلم "إغواء المسيح" في أحداث عنيفة.
- سنة 1996، اتُّهم فيلم "قتلة بالفطرة" لأوليفر ستون بأنّه كان وراء حدوث جريمة حقيقيّة.
- سنة 2001، يوم 11 سبتمبر، يُعتبر الاعتداء على البرجين الأمريكيين الحدث الأكثر تصويرا في التّاريخ.
- سنة 2001، أحصت موسوعة العلوم الاجتماعيّة والسّلوكيّة أكثر من 3,500 دراسة بالأنجليزيّة في السّنة حول موضوع الصّورة والعنف الّذي قد تتسبّب فيه.
- سنة 2002، أوصت الإدارة الفرنسيّة بإنجاز ثلاثة تقارير عن العنف الإعلاميّ.
- سنة 2004، اغتيل المخرج تيو فان غوغ إثر خروج فيلمه "خضوع".
- سنة 2005، أدّت قضيّة الرّسوم الكاريكاتوريّة عن الرّسول محمّد الّتي نشرتها مجلّة جيلاّندز بوست إلى موت أكثر من أربعين شخصا.
فهل مشاهدة القتل تقتل؟ هل تؤدّي صور العنف إلى عنف فعليّ؟ إنّ مثل هذه الأسئلة قد تمّت دراستها منذ نهاية العشرينات على الأقلّ. ورغم ذلك، يعود الجدل حولها بشكل دوريّ كما لو أنّ تلك الآلاف من الدّراسات والكتب لم تأت بأيّة استنتاجات دامغة. أبسط مشكلة هي أنّه لا يقع تحديد العنف إن كان موجودا في الصّور أو في نتيجتها المفترَضة. هناك تعريفات تقتصر العنف على الأضرار والتّهديدات الجسديّة، أي على الانحراف العنيف تقريبا. وهناك تعريفات أخرى تدرج في العنف علاقات الإكراه الّتي تعتدي على الكرامة أو الّتي ترجّ نفسانيّا. أمّا عن الآليات الّتي يمكن أن تفسّر العلاقة بين النّظر والفعل فيتمّ في الغالب اختزالها بصورة كاريكاتوريّة في التّناوب بين المحاكاة (يقوم المشاهد بتقليد العنف في الصّورة) والتّطهّر (تأمّل العنف الافتراضي يطهّره أو يفرّغه من عدوانيته الكامنة)، اعتبارا إلى أنّ الفكرة الأولى مستلهًمة من أفلاطون والثّانية من أرسطو.
الصّورة الحاثّة على الجريمة:
من المؤكّد أنّ أطروحة قليلة الرّواج تستند على التّطهّر أو التّفريغ تجد التّأييد لدى سيمور فسباخ خصوصا : فالعنف من خلال الصّور يمكن أن يخفّف وقتيّا من النّزعات العدوانيّة. وفي مواجهة هذا الرّأي، تشرح نظريّات كثيرة العلاقة بين النّظر والفعل من خلال عوامل متعدّدة : العدوى، الانبهار، التّقليد، أو ببساطة التّعوّد (فهذه الصّور العنيفة، من خلال حضورها الدّائم، يمكن أن تضعف من دفاعنا وأن تمهّد للأشخاص الأكثر عدائيّة أو الأكثر كبتا الانتقال إلى الفعل) ويرى علماء النّفس السّلوكيون أنّ الصّور العنيفة تشتغل اشتغال نظام التّلقين : فالمشاهد يتبنّى السّلوك المتوحّش الّذي يراه يكافَأُ على الشّاشة. أمّا بالنّسبة إلى باحثين أمثال ل. بركوفيتش فيرون أنّ للصّورة بالأحرى تأثيرا جاذبا، فهي تخفّض من كبح النّزوع نحو الجريمة.. باحثون آخرون أمثال ج/ربنار يستندون إلى الخوف : فوسائل الإعلام تقنع المشاهد بأنّ العالم مروّع، وهو ما لا يفضي بالضّرورة إلى ردّ فعل عنيف.
إنّ الاتّهام الموجّه إلى الصّور يتصدّى في أكثر الأحيان لقوّتها الخاصّة بها، لقدرتها المفترَضة على التّرويع أو على إثارة الغرائز (في كثير من الأحيان نأخذ على الصّورة أيضا أنّها "تفضي إلى السّلبيّة"). وفي بعض الأحيان أيضا يتمّ تجريم المعنى الأخلاقيّ أو الإيديولوجيّ الّذي ينبعث منها، والطّريقة الّتي بها تعرض الصّور سلوكا ما على أنّه سلوك عاديّ أو مستحبّ أو مفيد. هناك تحاليل أخرى أكثر دقّة مثل تحاليل سارج تيسّورون تقوم بإدخال عوامل بَعديّة كقدرة الأطفال على ردّ الفعل الجماعيّ على صور العنف وعلى تفسيرها أو ترميزها بواسطة الكلام.
يبقى البرهان التّجريبيّ على وجود علاقة سببيّة بين الصّورة والعنف محلّ شكّ على الرّغم من عشرات الدّراسات المخبريّة. فعلاوة على أنّه من غير المقبول أخلاقيّا أن يُدفع بحقل التّجارب إلى حدّ الإقرار بردّ فعل دمويّ حقيقيّ، فإنّه من الصّعب الاسترسال في الاستنتاجات المستخلَصة من عصبيّة شخص مّا في المخبر أو من عدوانيته اللّفظيّة بعد عرض الفيلم إلى حدّ أن نستخلص منها تفسيرا لعمليات القتل وللحروب.
من شبه المستحيل عزل شيء متحوّل مثل الصّورة أو المقطع أو الكتاب واعتباره سببا في حدوث فعل عنيف. فإذا كان بعض المجرمين قد استلهموا من أفلام أو برامج معيّنة لتنفيذ أفعالهم، فليست الصّورة أيضا هي الّتي حوّلتهم إلى مجرمين. كما أنّ التّعالق بين ميل بعضهم إلى العنف وميلهم إلى الأفلام العنيفة يمكن أن يؤوّل بمعنيين. فهل نفعل ما نشاهد أم نحبّ أن نشاهد ما نحبّ أن نفعل؟ هل هو نتيجة أم شهوة؟
لا أحد بالتّأكيد يؤكّد جدّيّا أنّه لا يتأثّر من النّاحية النّفسيّة بمشاهدة صور دمويّة على امتداد اليوم، غير أنّ سبب العنف ينبغي البحث عنه في متغيّرات أخرى عديدة دون الاقتصار على تلقّي تمثّلاتها البصريّة فقط.
صور العنف، صور تصنع العنف:
ولكنّ عنف الصّور لا يُختصر في صور العنف : فهناك صور أخرى يبدو أنّها تكبّد شعوبا بأسرها إصابات نفسيّة بليغة. مثل هذه التّمثّلات البصريّة يمكنها أن تؤدّي إلى ردّ فعل جسديّ عنيف، ولكنّه بالنّسبة إلى القائمين به هو جواب على عنف أوّل ولا يُحتمل.
بإمكان هذه الصّور أن تظهر أحداثا عنيفة موضوعيّا : انهيار البرجين مثلا بما فيهما من آلاف الضّحايا اختناقا. ولكنّ هناك عنفا قصديّا ورمزيّا ينضاف إليها. فمثلما صرّح به بن لادن بنفسه، يتعلّق الأمر بضرب "أيقونات" الغرب، زعزعة مثله العليا، تدمير أبراج بابله الجديدة، نسف رموز التّكبّر والمال والعولمة...
هناك تمثّلات أخرى أكثر براءة في ظاهرها، وتزعم أنّها تلعب على مستوى ثان، كالكاريكاتير والانزياح الأدبيّ والمحاكاة السّاخرة...، يمكنها أن تكون مصادر للنّزاعات. وتبرهن على ذلك الصّور الكاريكاتوريّة الدّانمركيّة الشّهيرة عن محمّد. فقد تسبّبت في ثلاثة أمور محزنة. أوّلها الجدف على اللّه المتمثّل في تجسيد الرّسول (حجّة قابلة للنّقاش في الفقه وهي أنّ القرآن لا يحرّم على غير المسلمين تمثيل محمّد). وثانيها الأذى الّذي لحق ب "الأمّة". فهذه الأخيرة تحتجّ بالتّهمة الواقعة أو المفترَضة على المسلمين بكونهم "جميعا إرهابيين" (تحويل عمامة محمّد إلى قنبلة). وثالثها أنّ "الشّارع العربيّ"، أكان محقّا أو لا، قد شعر متألّما بأنّ في هذه الصّور رغبة في إذلال المسلمين، في معاملتهم كما لا يجرؤ أحد على معاملة ديانات أخرى. يتمثّل العنف المستشعر من خلال هذا الكاريكاتير إذن في أنّه يمثّل ما لا يمثَّل، في القيم الّتي يحمّلها لهذا التّصوير، وفي الطّريقة الّتي بها يخاطب مجتمعا.
في حالات أخرى، يزداد عدد المؤمنين الّذي يصرّحون بأنّهم قد صُدموا جرّاء تصوير معيّن لموضوع إيمانهم أو بسبب سياقه. من ذلك التّحويل الفوتوغرافي الشّهوانيّ جدّا ل "مشهد ليوناردو ديفنشي" من قبل المصوّرة الفوتوغرافيّة بريجيت نيدرماير في إشهار يتعلّق بملابس. فالمحكمة الّتي أوقفت الإشهار وصفته بأنّه "تدخّل عدوانيّ ومجّانيّ في بواطن المعتقدات الرّوحيّة للكاثوليك".
إنّ العدوان المستشعر في الحالتين يكشف إذن عن السّلطة المجازيّة للصّورة (نتجنّب هنا لفظة "رمزيّة" لكي لا يقع التباس مع عبارة "العنف الرّمزيّ" الشّهيرة لبورديو. يمكن إذن لطريقة مجازيّة في عرض فكرة مجرّدة (الإسلام، الأمّة، المسيحيّة، الطّائفة... ) أن تمارس عنفا على حسب الإصابة النّفسيّة الّتي يشعر بها أولئك الّذين يتماهون مع شخصيات معيّنة أو يتماثلون في هويّة جماعيّة.
وجه من الوجوه الأكثر حساسيّة في تأويل تلك الصّور، خصوصا من قبل المحاكم، هو الانتقال من هذا المستوى إلى ذاك. أين يبدأ التّعبير الحرّ عن الرّأي بالأيقونات لا بالكلمات، الرّأي المتعلّق بوضعيّة المرأة في المسيحيّة أو الحرب المقدّسة في القرآن؟ أين يبدأ الضّرر والطّعن بجماعة تعتبر مقدّسا ما يقدّمه الرّسم على أنّه قابل للتّمثيل وللنّقد؟
صورة الحرب بين الإثارة والإثبات والإهانة:
حرب الصّورة بمعنى استخدام الصّور للمساهمة في تحقيق الغاية العامّة من الحرب وهي إخضاع إرادة الخصم السّياسيّة ليست حديثة على الإطلاق. ومن زاوية النّظر هذه، فإنّ حرب الصّورة المستعملة باعتبارها سلاحا وربّما مقترنة مع أسلحة أخرى تخضع لثوابت معيّنة. وهذا يسري على الحرب بالمعنى الدّقيق للكلمة، أي الّتي تتسبّب في الموت الجماعيّ المفروض بشكل منهجيّ لتحقيق هدف سياسيّ، وكذا على "حرب القلوب والنّفوس" المتمثّلة في الغزو الإيديولوجيّ للمناطق الذّهنيّة.
نقترح التّمييز بين ثلاثة أنواع من الصّور الّتي تتداخل خلال الممارسة.
- الصّورة المثيرة
- الصّورة المثبّتة
- الصّورة المهينة
ينبغي على الصّورة المثيرة أن تثير الحماس الّذي هو منبع القتاليّة والتّلاحم. وهكذا، كما هو معلوم، فإنّ "الرّوح المعنويّة" للفرق وللمدنيين وللعسكريين هي في الآن نفسه مورد يستدعي الزّيادة وخير لا بدّ من حمايته من هجمات الأعداء. ولكنّ هذه الرّوح تتغذّى من أيقونات جماعيّة. فالحماس يفترض وجود مزيج متغيّر من الحبّ (لزعيمنا، لأمّتنا، لقضيّتنا، لأسلافنا، لطائفتنا) ومن الإعجاب بهذه الكيانات الّتي تتجاوزنا، ومن التّماهي والشّعور بالاستمراريّة (نحن نشترك في هذه المشاعر السّامية مع أخوة آخرين ومع أسلاف لنا)، وأيضا من الغضب، الكامن على الأقلّ، على أولئك الّذين يمكن أن يجرؤوا على تحقير المبادئ المرسومة على هذا الشّكل.
أمّا الصّورة المثبّتة فتوجد على مستوى آخر : فهي تظهر واقعا يصبح بسهولة حجّة مشحونة (جرائمهم تفسّر لماذا نحن نحارب). إنّ إثبات فظاعة الآخر أو هزيمته وعقابه يوفّر، منذ اختراع الصّورة الفوتوغرافيّة على الأقلّ، مصدرا لا ينضب لاستلهام الأفكار. صحيح أنّ الصّورة "المطَمْئنة" (نعم، إنّ قواتنا تتقدّم بثبات وتتمتّع بروح معنويّة عالية، نعم، كان رفاقنا كثيرين فعلا ومتحفّزين) ليست عديمة الأهمّيّة بالتّأكيد، غير أنّ تأثيرها في كثير من الأحيان تأثير ضعيف. فمن الصّعب في هذا المجال أن تنافس أيقونات كبيرة مثل صورة البنت الفيتناميّة الصّغيرة الّتي تجري تحت قصف النّابالم، مثلا. إنّ الصّورة المثبّتة تظلّ رهانا رئيسيّا، وذلك دون اعتبار أنّ مثل هذه الصّورة تستدعي بطبيعتها الذّكر وإعادة النّشر.
أمّا عن الصّورة المُهينة فمن المتوقّع منها أن تثير شعورا بالإهانة ليس البتّةَ متناقضا مع خاصّيّة التّثبيت فيها (نعم، لقد حدث هذا على هذا النّحو فعلا) أو الحماسة (نعم، إنّنا نستمتع برؤية أعدائنا هكذا مهزومين وبانتصارنا المؤكّد) تتولّد الإهانة من السّخرية من الخصم (وهي بهذا المعنى تتضمّن المجال الغنيّ جدّا الّذي هو الرّسم الكاريكاتوريّ)، وأيضا من تصوير ذلّه ومعاناته (هنا لا يمكن تجاوز العنف في صورة 11 سبتمبر ولا في مشهد إعدام صدّام حسين) ولكن، في كلّ الأحوال يتعلّق الأمر بتقزيم الآخر. إنّ المفهوم المتصل بما هو مهين للآخر أو بما يمكن أن يسبّب له أذى نفسيّا هو موضوع نقاشات لا تتوقّف. وهي تتعلّق بما تشرّع تلك الصّورة لإظهاره، سواء لأنّها تحقّق المتعة الكبيرة للخصم أو الأثر الكبير فيه، أو لأنّها تصوّر ما لا يُصوَّر، أو لأنّها - في الحالات القليلة الّتي تكون فيها بعض الصّور شديدة الفظاعة قد تسيء إلى صورة طائفة معيّنة، أو قد تكون من العدائيّة بحيث لا يمكن التّسامح معها. من هنا يأتي الخلاف ومشاكل التّأويل. فهل ينبغي تصوير ضحايا 11 سبتمبر أو حرب الخليج الثّانية وهو ما قد يبهج الأصوليين ويكون لهم حجّة؟ هل نقبل بأسبوعيّة فرنسيّة تظهر طالبان وهم يعرضون أشلاء جنود فرنسيين؟ وماذا عن الصّور الكاريكاتوريّة المتعلّقة بمحمّد؟ ما الّذي يجعلها غير مقبولة؟ هل لأنّها تنتهك حظر الصّورة المتّصلة بالمقدّس؟ أم لأنّها تتسبّب للمسلمين في إساءة قد لا يشعر بها الكاثوليك إزاء غلاف مجلّة شارلي أبدو عن البابا والواقي الجنسيّ؟ أم لأنّها تعبّر عن خشية لاعقلانيّة لدى أصحابها (خشية تسمّى الإسلاموفوبيا)، وهي خشية خطيرة ومعديّة وبالتّالي عدائيّة؟ أم لأنّها ترسم أطروحة ضمنيّة وخاطئة (فهي إذ تحوّل عمامة الرّسول إلى قنبلة تؤكّد أنّ "جميع" المسلمين متعصّبون وعنيفون بطبعهم)؟
أن تكون هذه الوظائف ثابتة فذلك لا ينفي أنّ إنتاج الصّور وترويجها يقلبان قواعد استعمالها. ذلك أنّ ظهور التّصوير الفوتوغرافي في الصّراعات تمّ التّعليق عليه بمقدار خاصّيته المفترضة غير القابلة للدّحض (نعم، إنّ هذا المشهد قد وقع فعلا أمام العدسة، لا يمكن أن أشكّ في ذلك). وقد تكون القيمة المثبّتة للصّورة في موضع اتّهام متجدّد من قبل استراتيجيات حقيقيّة ومفترضة. وإنّ البراهين الّتي تغذّي الحذر منها معروفة جدّا :
- من الممكن أن تكون ملفَّقة، بدءا من تسويد تروتسكي على الصّور الفضّيّة (التّقليديّة) وصولا إلى الخدع الرّقميّة للفيديو.
- قد تكون مفبركة مثل مشهد إسقاط تمثال صدّام حسين، فهو مشهد مهيّأ سلفا للتّصوير.
- قد يتمّ نزعها من سياقها وتأويلها بشكل آخر عن طريق وضع عنوان أو تعليق مغالط تحتها، أو إعادة تركيبها إن كانت صورة حركيّة أو اختيارها حسب ما يراد لها.
- أنّها تُعرض على قرّاء متناقضين. ففيما يرى أحدهم انهيار البرجين الّذين صدمتهما طائرة، يرى آخر انهيار نصب يعتقد أنّه مناقض للرّواية الرّسميّة ويتبيّن له أنّ الدّليل على أنّ البرجين كانا محشوّين بالمتفجّرات ساطع أمام عينيه. وبطبيعة الحال، تختلف شفراتنا الّتي تقرّر ما هي الصّور المسموح بها وما هي المدنّسة للمقدّسات اختلافا هائلا. فتلفاز الولايات المتّحدة يحاول أن يخفي صور الموتى (الّذين تسبّب جيشها فيهم أو الّذين كانوا منه)، بينما تعرض فيديوهات الجهاديين الموتى فتعتبرهم إمّا شهداء (الضّحايا الإسلاميون) أو تجسيما للعقاب الإلهيّ (الأعداء الّذين يُقتلون أو الأسرى الّذين يُعدَمون).
ولكنّ نمط تداول الصّور يفتح اللّعبة على مصراعيها. فمن يُحكم سيطرته العسكريّة والسّياسيّة على منطقة مّا يتضاءل تحكّمه في تدفّق الصّور منها. كان من المعروف جيّدا طوال الحرب الباردة أنّ السّتار الحديديّ لم يكن ليصدّ الذّبذبات (ذبذبات راديو "فْري أوروب" أي أوروبّا الحرّة وخصوصا الذّبذبات الأكثر تخريبا الصّادرة عن تلفاز ألمانيا الغربيّة). صار من المسلُّم به خلال التّسعينات أنّ احتكار الولايات المتّحدة للتّلفزات الإعلاميّة العالميّة (مشاهدة السّاي أن أن أثناء حرب الخليج الأولى) كان إلى زوال. وقد أسقط جولان الصّورة على الأترنيت أيّة محاولة ترمي إلى الرّقابة الكلّيّة على الصّور المثبّتة أو المهينة الّتي يلتقطها الخصوم.
غير أنّ ذلك لا يعني أنّ الرّقابة الجزئيّة مستحيلة (كما يقع في دول كثيرة) ولا يعني استحالة الاحتماء من صور الآخر سواء بانطواء الدّولة داخل بالونتها الإعلاميّة أو بتكذيب مصداقيّة صور الخصوم.
كتب ماك لوهان في السّتّينات ما يلي : "كانت الحروب السّاخنة في السّابق تستخدم أسلحة تؤذي رجال العدوّ واحدا واحدا. حتّى الحروب الإيديولوجيّة في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر كانت تتمثّل في إقناع الأفراد واحدا واحدا بتبنيّ وجهة نظر جديدة. وعلى النّقيض من ذلك، يتمثّل الإقناع الكهربائيّ من خلال التّصوير الفوتوغرافيّ والسّينما والتّلفاز في الإلقاء بشعوب بأسرها في صناعة تصويريّة جديدة."
ذاك أمر أكيد، بيد أنّ الثّقافة (وإن شئتم الإيديولوجيا) تنتقم من التّقنية بسماحها بصناعة حواجز ودفاعات ضدّ تدفّق الصّور المنافسة وبحماية تأويلنا للصّراع وللواقع عن طريق صور أخرى.
❊❊❊❊❊❊❊❊
* المقال هو الجزء الأوّل من كتاب بعنوان "العنف والصّورة" نشره المؤلّف سنة 2007.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.