بماذا سأبدأ بالحب أم بالمبدأ كلاهما في حياتي لم يرتو لم يهدأ ذاك هو الشعور الذي غمرني و أنا أقدم على التعريف بكتاب الدكتور زهير بن حمد مدير إذاعة قفصة عرفته تلميذا نجيبا على مقاعد الدرس في المعاهد الثانوية ثم طالبا متميزا بمعهد الصحافة و علوم الأخبار حيث تحصل على جائزة رئيس الدولة أهلته لمتابعة دراسته الجامعية بفرنسا فضلا عن صولاته و جولاته من خلال تنشيطه للنادي الثقافي بمعهد الصحافة. و هاهو اليوم يخرج علينا غوصا يتحفنا بصدفات لغة الضاد و كأننا به يقتفي أثر أديبنا الراحل الأستاذ محمود المسعدي في كتاب حدث أبو هريرة قال. و لقد أسعدنا أن نتوجه إليه ببعض الأسئلة فكان منه الجواب مشكورا: * في أي جنس أدبي يتنزل هذا الأثر؟ ينطوي هذا النصّ من زاوية الإبداع الأدبيّ على رهان أجناسي يتمثل في السعي إلى جعل المقامة وهي فنّ من فنون القول قديم لدى العرب جنسا سرديا متطوّرا له من الرّواية الحديثة أسباب ووشائج. تعلمون أن المقامة ظهرت في القرن الرابع وقيل إن بديع الزمان الهمذاني كان مبتكرها كما اشتهرت مقامات الحريري من بعده.. وفي بدايات القرن العشرين اشتهر نصّ المويلحي " حديث عيسى ابن هشام " الذي أعادت دار الجنوب إصداره في سلسلة " عيون المعاصرة " واعتبرته بعض الدراسات النقدية من بين النصوص المؤسسة للرواية العربية .. على هذا النحو، يجد القارئ في " مدن تجري من تحتها الأفكار " شيئا من أدب المجالس والمناظرات ويجد شعرا ويجد كذلك لغة مسّجعة وغير ذلك ممّا يوحي بالمقامة جنسا وفنّا من فنون الإبداع الأدبي غير أنه سيجد كذلك بنية روائية لها شخوصها ولها أبطالها وفيها تنحو الأحداث نحو غاية ما وفقا لخطّ سرديّ توسّل تعدّد الأصوات والتخييل الواسع والحوار والمشهدية على اعتبارها ممّا يمتّ للرواية الحديثة بصلات ما.. وبقطع النظر عن هذا وذاك يظلّ الهدف وهنا تنجح النصوص الإبداعية أو تفشل هو السعي إلى شدّ القارئ إلى المتن الأدبي .. إلى الحكاية المروية .. إلى أبي الحمض النووي .. هذا الرجل المنحاز إلى العقل والمجادلة.. إلى النظر والتدقيق.. يريد بكل ذلك إعادة تقليب بعض الوقائع والأحداث المحيطة بتاريخ مدن تونسية حازت مقام العاصمة أو الحاضرة.. هي قرطاج والقيروان والمهدية وتونس العاصمة أضيفت إليها قفصة، مهد الحضارة القبصية، وقد خصّت كل واحدة من هذه المدن بمجلس من المجالس.. والحقيقة أن استرجاع تلك الوقائع والأحداث تمّ في سياقات هي من العصر وإليه علما وفكرا.. فالمجالس الخمسة الموعودة إلى المدن المشار إليها والتي أضيف إليها مجلسان واحد للاستهلال والآخر للاختتام تنعقد في مقهى المقاهي سيبرنطيقا في سياق رقمي وفي حضرة الحواسيب ومشاركتها في الأحداث والأقوال.. وفي المجالس كذلك استحضار لقاموس الهندسة الوراثية بما فيه من جينات وكرموزومات ومحاولة لتوظيفه في الحديث عن المدن على اعتبار أن للمدن " أحماضها وجيناتها. فيها يتعايش أحياؤها وأمواتها.. " ومن السياقات المميّزة للأحداث أيضا سياق المحاورة والمجادلة والمحاجة.. وهنا يكمن الرهان الأبعد لأبي الحمض النووي من استعادته سير مدن كان لها في التاريخ شأن وهو نشأة مدن جديدة مدن تنأى عن الحقائق الجاهزة لتقبل ساكنوها بالرأي وما يباينه والقول وما يناقضه.. وفي كل هذا حصل سعي إلى أن يكون التجريب الأجناسي مقامة / رواية في خدمة سؤال الأصالة والحداثة .. سؤال الماضي في علاقته بالحاضر.. وهو السؤال الذي حامت حوله روايتي الأولى " تاج العمود " الصادرة سنة 2005 ضمن سلسلة عيون المعاصرة. * لست القارئ الوحيد الذي اعتبر رواية مدن تجري من تحتها الأفكار شبيهة برواية حدث أبو هريرة قال خاصة على مستوى اللغة اللغة هي الأرض التي تنشأ في تربتها الفكرة وينبت في تضاريسها المعنى .. فإذا كانت ضعيفة هشّة جاءت الأفكار مشوّشة وظلت المعاني قاصرة.. فخصائص النصّ قوّة ودقّة ووضوحا هي من اللغة في خصوبتها وصفائها.. واللغة شرط الإبداع وأداته المبدعة.. فالإبداع الأدبي يتمّ في اللغة وبها من جهة ما تتيحه للكاتب من سبل للتعبير تتوافق مع الأحداث والشخوص والسياقات.. وفي ذلك مكمن الجمال.. * يلاحظ القارئ تحولا في أسلوب الكتابة بين رواية تاج العمود و الأثر الحالي اللغة في رواية تاج العمود امتازت فيما أرى بالانسياب فهي طليقة مرنة رومنسية أحيانا.. في حين جاءت في " مدن تجري من تحتها الأفكار " مكّثفة .. جزيلة .. تسعى إلى البيان والتبيين.. فمقتضيات التعبير هنا تملي نوعا من الكتابة وبالتالي مستوى من اللغة محدّد .. وبالرغم من ذلك، تم أحيانا في سياق الحوار بين الشخصيات توسّل الدّارجة التونسية .. لما للدارجة أيضا من قدرة إبداعية إذا وردت على ألسنة ما يناسبها من شخوص وما يتلاءم معها من سياقات القول.. وقد استحالت في الرّواية إلى نوع من القول الشعري العاميّ.. ذلك أن المدن تونسية والشخوص تونسيون والسياق سياق مناظرة ومنافسة بين جليسي أبي الحمض المعروف أيضا باسم " بولحماض ".. وهناك من أغراض الشعر الشعبي أو القول العامي ما يعبّر عن هذا المقام خير تعبير.. ودلالة كل ذلك أن استعمال العربية في فصاحتها لا يمكن في ساحة الأدب أن يكون مسألة مبدئية أو أيديولوجية بل مسألة إبداعية.. وكأن الإبداع في بعض جوانبه فعل تحرر دائم من الإيديولوجيا.. وانحياز دائم للثقافي في معانيه الإنسانية في وجه الرؤى والمواقف الضيّقة..