شكرا لضيوف برنامج »بلا مجاملة« لقد بالغوا في تكريم رموز الاغنية الملتزمة وقلّدوهم بمنتهى الوفاء والمهنية أكاليل العار وأطلقوا عليهم نياشين الرحمة في لحظة تنوء فيها الاغنية الملتزمة تحت ثقل الرداءات التي تأتي إلينا على حدّ تعبير معين بسيسو »من من كل الجهات الأربعين«. علّة النقد مهما كان الموضوع الذي يتناوله سواء كان سياسيا أو إجتماعيا أو أدبيا فنيّا السقوط في محظور المجاملة والترضيات، هذا التعريف السالب للنقد آذا لم يتدعم بجملة من »الينبغيات« الموجبة التي تتخذ سمة الحدود والمبادئ التي تترفع بالنقد عن جملة من المزالق والإنعطافات مثل السقوط في التقييمات الأخلاقية المحكومة بالأهواء الذاتية والانطباعات الشخصية أو الخلفيات الايديولوجية أو الإرتجال والرغبة في التمايز والاختلاف وإحداث فرقعات إعلامية. علّة النقد ان يغدو تحاملا وتشهيرا ويدرج في خانة الانتقاد، الذي قد ينجح في رسم نجومية وقتيّة للمنتقد سرعان ما تخبو وترتدّ عليه بالوبال عندما يدرك المشاهد مدى تهافت وتفاهة معايير حكمه ولا علميّتها. عدم التمييز بين النقد والانتقاد ينمّ عن قصور في التصوّر وخلل في التفكير تُسقط المنتقد في دائرة الذاتيّة والاحكام المسبقة والمنطق الإقصائي الذي يعكس عُقدا فكريّة ونفسيّة ويعبّر عن سقوط أخلاقي ينمّ عن خلل في التكوين المعرفي وبَلادة في تملك آليات التحليل والتأويل وانحراف خطير عن فضيلة الموضوعيّة التي يتأسس عليها كل نقد يروم أن يكون بناءا، يقدّم البدائل ويشير الى مواطن الضعف الذي تسم الظاهرة موضوع النقد هذا التمييز المعلوم مسبقا من طرف كل النقاد قد استدعى التذكير به والالحاح على ضرورة التنبه اليه، الحوار الذي دار يوم الأحد 1 أوت 2010 على قناة »حنبعل« بين ضيوف برنامج »بلا مجاملة« هالة الذوادي، وليد الزراع، لطفي العماري، حسن بن أحمد والحبيب جغام ضمن الفقرة التي دار فيها الحوار عن الأغنية الملتزمة وأعلامها، ليدلي كل ضيف بدلوه في الموضوع، ما أزعجنا في التناول هو زوايا النظر التي نظر من خلالها الضيوف الى هذه الظاهرة الفنية الفريدة التي شكلت حدثا ثقافيا عربيا على امتداد نصف قرن، ساهم في بلورة ذائقة فنيّة تميّزت عن السائد وشقت طريقها في الساحة الغنائية العربية لتنتج فنانيها وعشاقها بل لنقل جمهورها ونجومها ومريديها، الذين لم تكن الأغنية الملتزمة عندهم مجرّد مساحة للمتعة والترفيه وتمضية أوقات الفراغ بل شكلت موقفا فكريا أصيلا ساهم في بلورة رؤاهم وتصوراتهم وتشكيل وعيهم الإجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي ونحت كيانهم وتجذير هويتهم وانتماءاتهم داخل المجتمع، جيل بكامله تربّى طيلة السبعينات والثمانينات والتسعينات على اصوات مرسال خليفة والشيخ إمام والعاشقين والبحث الموسيقي والحمائم البيض وأولاد المناجم والكرامة وناس الغيوان وجيل جيلالة وعشاق الوطن، كانت أغانيهم بلسم أوجاعهم الإجتماعيّة وعنوان رفضهم السياسي وترياق عبورهم الى مجتمع العدالة والحريّة. جيل بكامله عاش على ترنيمات صوت مرسال وأميمة الخليل يصنعان مجد فرقة الميادين ويبشران بالثورة والحريّة لكل المضطهدين في العالم وفي الوطن الذي طحنتهم رحى الإستبداد والاستغلال وأدمى القيد أحلامهم قبل معاصمهم وأرجلهم. جيل بأكمله تربّى على دندنة عود الشيخ إمام عيسى وبحّة صوته ينشد للفلاحين والعمال الفقراء المضطهدين وللثوار والشهداء والمناضلين أغاني الكرامة والكبرياء ويغرس فيهم روح التمرّد والثورة ورفض الظلم والاستكانة لجبروت الأمر الواقع الذي يئد الحاضر ويصادر المستقبل، هذا الجيل، ومنهم ضيوف البرنامج الذين إستلّوا المدى وشحذوا الخناجر ودسّوا السمّ في كلماتهم الماكرة التي أرادت أن تسرق من الاغنية الملتزمة ريادتها وسحرها الذي لم تستطع عواصف الرداءة والانحطاط الفنّي ولا غرائزيّة الاغنية السائدة أن تبطل مفعولها . الحبيب جغام اختار التبسيط، قرين التمييع، حين عمّم صفة الإلتزام على كل أشكال المغنى ناسفا الحدود بينها مغرقا في المواءمة البائسة والتعميم الساذج الذي تتحوّل فيه كلمات نانسي عجرم وأخواتها من مستنسخات روتانا المغرقة في الإباحية الفجّة والغرائزية المجانيّة إلى صنو لمرسال خليفة وأميمة الخليل ولما لا فيروز، ويتحوّل شعبان عبد الرحيم بقدرة قادر الى ندّ للشيخ إمام عيسى والسيد درويش بحسب ما ذهب إليه وليد الزرّاع وتصير كلماته السوقيّة المبتذلة المستمدّة من معجم الشارع اليومي ومن على أرصفة مقاهي البؤس واليأس والإحباط الى معادل فنّي لاشعار أحمد فؤاد نجم »بلدي وحبيبتي« وغيرها من القصائد الرائعة. لطفي العماري راعه أن ينأى مرسال خليفة عن السائد والمعيش الفنّي الرخيص واستكثر عليه الإرتقاء والسمو بموسيقى الإلتزام العربي الى مصاف الإحتراف والعالمية من خلال الكتابة السمفونية العالمة المبنية على أسس علميّة فكال له الاتهامات الموتورة الحاقدة، لانه في نظره لم يتحوّل الى داعية سياسي ينثرالمواقف في كل المهرجانات ويدبّجُ الخطب الرنانة ليلقي بها من فوق المسارح العالمية دفاعا عن قضايانا القومية فلسطين والعراق، هذا هو الجهل بعينه في تقدير دور الفنان وفي فهم رسالته وإدراك الوظائف والأدوار الموكولة له والتي تؤكد ان دور الفنان غير دور السياسي مع اننا على يقين ان ما قدّمه مرسال خليفة وهو يحوّل قصائد درويش المناضلة الى أهازيج تحفظها الاجيال وتتخذها أيقونه وفاء لدم الشهداء الذين أنكرهم السياسي وخلّدهم الفنّان أكثر مضاءا وتأثير في الموقف السياسي العربي لم يقف التحامل عند هذا الحدّ بل تحوّل الضيوف الى أعوان »حسبة« وتقمصوا أدوار موظفي فرقة البوليس الاقتصادي، ليحاكموا مرسال، من أين لك هذا؟ وكيف جمعت ثروتك؟ كان الاحرى به ان يتسوّل على عتبات دكاكين سماسرة المهرجانات ويركع بين يدي صاحب روتانا يقبّل يديه ويطلب صدقة مثل آلاف النكرات من المغنين الذين يأكلون من فنهم ويقايضون لقمة العيش بأصواتهم، بل لعل الحكمة أن يموت الفنان الملتزم في احدى الحارات الشعبية الفقيرة بالقاهرة في غفلة من أعين عشاقه لتتعفن جثته وتنهشه الجرذان كما وقع مع الشيخ إمام، أو أن ينتظر من يهبه منزلا مثل فؤاد نجم، أو ينعم عليه بعطيّة للعلاج أو اجراء عملية جراحية، هذا هو منطق »النقد الأعور« والثقافة الكسيحة التي تنظر لبؤس الفن ومأساة الفنان، أليس الفنّ الملتزم والهادف مأساة أولا يكون.