من الجنون إهداء كتاب شعري الى الفجر بل الى زمن نوراني عائم ومنفلت باستمرار. ومن الجنون ان نحكم على الفجر بأن يكون متمردا منذ الوهلة الأولى. ... رأيت قارئا وأنا أوجه مسباري النقدي للعمل الشعري الثاني »الظلال تلعب الغميضة« للشاعرة التونسية سندس بكار (1). رأيت ان أفكّك نص الاهداء أولا باعتباره فاتحة لكل قراءة نقدية تضعك مباشرة في جحيم النص وأتونه. فهذا صوت بدائي أو أبيض افتتاحي يأتي من بئر عميقة تقطنها الروح أو تتقوقع داخلها في بيت أليف من أحلام اليقظة. وهذا الصوت البدائي عبارة عن أجراس نزقة تمارس جنونها الخاص دون رقابة عقلية أو صرامة منطقية. I) المكان أو القوقعة الأبدية للعصفور: إذا اعتبرنا المكان عشا أو رحما فنحن إزاء الطفولة مباشرة حيث يتهجى الانسان الاسماء والاشياء لأول مرة دون قصدية إثر ما نتلمسه للمرة الأولى ليكون هذا الفعل قصديا واعيا في المرة الثانية، فإذا أحرقتك النار أول مرة تضع فيها أصابعك على الجمر دون ان تعرف فاعلية النار، فإنك في المرة الثانية تكون قد تقصدت ملامسة الجمر ليكون الامر لغاية الاكتشاف أو طريقا إلى المعرفة ومن ثمة الى الحكمة. وهذا الالتذاذ بالنار يجعلنا في مواجهة مع العالم مباشرة عبر مختلف الحواس. تقول الشاعرة: »كم أرغب في تغيير الابيض. حتى يصير بلون مياه »برّوطة« كم أرغب في تغيير الأحمر حتى يصير بلون هزائم »صبرة« كما أرغب في تغيير الأخضر حتى يصير بلون أصابع »بول كلي« كم أرغب في تغيير الأزرق حتى يصير بلون مخطوطات »رقّادة« كمن أرغب في تغييرك حتى تصيري بلون ذاكرتي... (2). أرى هذا النصر الشعري ينتهي هنا، رغم تتالي الجمل بعد ذلك، نظرا لاكتماله تركيبا ومعنى في صورة شعرية أخاذة مبنية على الحلم بمدينة أخرى كما تراه الشاعرة. فقد حقق النص عديد النجاحات الشعرية، حيث حقق إيقاعات مختلفة على مستوى التكرار اللفظي والتركيبي لخلق إيقاع قائم على مبدأ التناسب والانسجام. أما طرافة الصّور الشعرية وجدّتها فتكمن في هذا التصور الجديد المبني على ضرب مختلف من التخييل في شعرنا التونسي المعاصر حيث يكون الابيض ل »برّوطة« وطريقه الماء ويكون الأحمر ل »صبرة« وطريقه الهزيمة ووقوع التاريخ ويكون الأخضر ل»يول كلي« رسما فرنسيا وطريقه أصابع اليد حتى لا أقول أصابع الشجرة. ويكون الأزرق ل »رقادة« وطريقه المخطوطة ولحاء الشجر وجلد الماعز وورق الكتابة المطلي بالآلام. ويكون اللون الأخير الجامع لكل الالوان او المختلف عنها جميعها للمدينة المتخلية وطريقه الذاكرة. إن هدفي من التنبيه الى هذا النص الحداثي شكلا ومعنى وتركيبا وتخييلا وآفاقا شعرية، هو لفت النظر الى مواطن التجديد الحقيقية في اللعب بالألوان وخلق معادلات لها مثل تجديد الشاعر الفرنسي الكبير »آرثور رمبو« في جعل ألوان خاصة لحروف العلّة الفرنسية (Les voyelles). فإذا كانت الألوان حروفا لدى »رمبو« فإن الأماكن والشخصيات هي التي تتحول ألوانا لدى الشاعرة »سندس بكار« هكذا يكون (الصعود الى علوّ شاهق والهبوط الى الأعماق السحيقة مسموح بهما للشعراء الذين بجذبون السماء الى الأرض (3). ولعل مردّ الحنين الى المكان من خلال العبور اليه عبر آفاق شعرية أخرى يعود في الدراسات النفسية الحديثة الى مبدأ علاقة العصفور بالعش أو بكل مكان دائري دافئ حسب »غاستون باشلار«. II) المكان وطرائق حضوره: لايحضر المكان في الشعر التونسي قبل التسعينات الا وجودا سلبيا حيث يكون الشاعر الكلاسيكي الستيني والسبعيني والثمانيني متصادما مع المكان صداما سلبيا لا ينتج صورا شعرية بل اهتزازا نابعا من فقر الخيال الشعري لدى أولئك. وهذا يحدث خلافا للشاعر المعاصر في التسعينات وما بعدها إذ يحضر المكان حضورا ايجابيا فاعلا ومساهما في خلق صور شعرية مبتكرة هي مدار الشعر، حيث اصبح الاهتمام بالمكان في الشعر سمة من سمات الحداثة الشعرية في العالم. (1) المكان وخصوصياته في »الظلال تعلب الغميضة«: أ) يحضر المكان إمكانا للحلم ومشروعا لما يمكن ان يكون من خلال رغبة في تغييره وطلائه بألوان جديدة مثل تغيير الابيض ب»برّوطة« (مكان) من خلال الماء ومثل تغيير الأحمر ب»صبرة« (مكان) من خلال التاريخ رقصا أوهزيمة وانكسارا. ويحضر المكان طيفا وروحا في نص »نداء الأحبة« من خلال الأصوات المختلفة والحرّاس والنداءات العميقة والقباب والأجراس والأسوار والمآذن وصوت الله فجرا... لكنّ هل للمدينة (القيروان) باب اسمه »باب الماء«!؟ باب الماء اضافة الى أبواب عرفت واقعا وتاريخا مثل باب »الصالحة« وباب »الريحانة« و »باب الخوخة« و »باب الجلادين« وباب »تونس« أو أي باب آخر مثل باب اللغة أو باب الجسد... ب) يحضر المكان عبر اللغة (سأمرّ لأغرس قامتي ألفا) (4) أو (سحابة قول وحقول إيقاع) (5) أو عبر (رسم وجه القصيدة) (6). ج) يحضر المكان عبر الجسد فالشمس (تجفف ما تخفى تحت جلد الكلمات) (7) . هذا اذا وضعنا الكلمة جسدا والجسد كلمة. أو (سأمر عارية من لغتي) (8)، اذا منحنا العراء للجسد الذي هو أصله وجوهره (جسدي القيروان) (9) أو (مرّي واقطفي كفّي) (10). د) يحضر المكان لغة منصهرة في الجسد حيث تتحول اللغة الى أعضاء في كامل القصائد (الأخضر الذي يتحول الى اصابع، جلد الكلمات، رائحة جلدي، وجهك يرتدي وجهي، شهقة الورق، جسدي لغتي، جسدي القيروان، ترسم وجهي في أرض الأجداد) وللمكان حضور مختلف من خلال التذكّر والاسترجاع والتأريخ العالق بأرواحنا. وبناء عمّا سلف، نجد المكان أسّا من أسس بناء النص الشعري لدى »سندس بكار« وكذلك في مجمل الشعر التونسي المعاصر. وهذا مردّه تفطن الشاعر المعاصر الى رهان المكان رهانا شعريا وإمكانا من الامكانات المعاضدة للشعرية، تأسيسا لرؤية حداثية تؤصل المكان وتجوهره بل تجعله مدارا لكل شيء. 2) دلالات حضور المكان: يتأرجح حضور المكان لدى »سندس بكار« بين الرغبة القصوى في تغيير (كم أرغب في تغيير الابيض حتى يصير بلون مياه »برّوطة«)، [مع التشديد على تكرار أفعال الرغبة والتغيير في اكثر من مرة] وبين قبوله تاريخا وأزقة وواقعا ماديا... كأننا نكتفي من المكان بظلاله أو »بأعشاشه الدافئة« كما يذهب »غاستون باشلار«، وأحيانا يكون المكان سجنا وموتا في الظاهر ومليئا بالحياة والرغبة في اقتناصها باطنا. وذلك مرده ايضا الرغبة في التغيير وخلق حساسية اخرى مع المكان لتجعل منه قوة مستمدة من الظلال أساسا (أطبق جفنيك وأنصت الى نداءات الأرواح) (11)، (ستبزغ عيناك كالقباب) (12). والمكان ايضا سند شعري ومتكأ لحضور اللغة وهَيَمَانِهَا. وهذا النداء العميق للغة تجلّى في مناطق مختلفة ذكرناها آنفا وهي كثيرة. وللمكان (القيروان) سطوته وقداساته من خلال حضور اسماء كثيرة للأبواب والمواضع والعلامات والشخصيات والحكايات والأفعال والبخور وحوافر الخيل والاحياء والرياح والعابرين جميعهم. III) الإيقاع والتشكيل البصري في »الظلال تلعب الغميضة«. 1) الإيقاع: للإيقاع ألف وجه في القصيدة الحديثة منه ما يتأتى من خلال اللفظ ومنه ما يتأتى من التركيب ومنه ما يتأتى من الزمن وتمظهراته الثلاثية الجوهرية (الماضي والحاضر والمستقبل) لكن تكون الرؤية غائمة احيانا في هذه المجموعة الشعرية بخصوص مسألة ايقاع الزمن حيث يتداخل الحاضر والماضي والمستقبل تداخلا قد يحد من توضّح المعنى أو جعله منقوصا. ولابد للشاعرة من اشتغال كبير على الزمن وايقاعه النفسي لتوسيع دائرة المعنى. 2) التشكيل البصري: التشكيل البصري سمة حداثية للنص الشعري المعاصر أفادت منها الشاعرة في بعض المواضع، لكن لابد من اشتغال أعمق في مستوى تمام الجملة بصريا لتحقيق الاستيفاء التركيبي وإن كان المستوى النحويّ للجمل تاما. لكن ساهم التشكيل البصري عموما في انجاح العملية الشعرية على غرار نص »أجراس نزقة« لكنه خذل العملية الشعرية التي أساسها الصّناعة والنسج في نص »كيد الريح« على سبيل المثال. IV) خاتمة: سقط الكثير من النقاد العرب في جعل الأدب أدبين أدب للرجل وأدب للمرأة، وهذا أمر مخجل ومخز للأدب والنقد معا وظالم للرجل والمرأة كليهما. ولقد تخيرت في مجمل مقالاتي السابقة أن أتناول النصوص الأدبية في أدبيتها بمعزل عن تقسيم الادب الى رجالي ونسويّ خلافا للنقاد العرب المرضى بذكورية مقيتة. ورأيت ان أتناول ما أنجزته »سندس بكار« في ضوء الشعر التونسي المعاصر المليء بالنصوص الجادة. واذا اعتبرنا الشعر احتمالا وإمكانا ومحاولة لتأسيس جماليات ما فإن ما أنجزته »سندس بكار« محاولة من بين محاولات كثيرة تسعى الى التأسيس. وعلى الشاعرة العمل والاجتهاد قراءة وكتابة في انتظار التراكم الكمي الذي لم يتحقق بعد وتلزمه سنوات طويلة من المكابدة ومعاشرة النصوص الكبيرة، فهي في سباق مع الزمن والنص وكيد الرياح. الهوامش (1) مجموعة شعرية صدرت أواخر 2009 عن مطبعة فن الطباعة تونس من الحجم المتوسط في تسعين صفحة. للشاعرة وعضو نقابة كتاب تونس مجموعة أولى بعنوان (شهقة البدء«. (2) الظلال تلعب الغميضة، ص 9. (3) جماليات المكان، غاستون باشلار، ص 143. (4) الظلال تلعب الغميضة، ص 15. (5) الظلال تلعب الغميضة، ص 16. (6) الظلال تلعب الغميضة، ص 33. (7) الظلال تلعب الغميضة، ص 10. (8) الظلال تلعب الغميضة، ص 15. (9) الظلال تلعب الغميضة، ص 32. (10) الظلال تلعب الغميضة، ص 62. (11) الظلال تلعب الغميضة، ص 13. (12) الظلال تلعب الغميضة، ص 14