لم يعد في السياسة الفلسطينية (وهي جزء أصيل من السياسات العربية السائدة) لا ثوابت ولا استراتيجيات ولا حلقات مركزية ولا خطوط حمر، ولا أية خطوط أو خطط، فكل شيء بات يخضع لمتطلبات السياسات اليومية وللحسابات الفصائلية والتوظيفات الإقليمية والضغوط الدولية. وكما نشهد فإن هذه السياسة تتكشف في كل يوم عن مفارقات عديدة تستعصي على الفهم، بما تتضمنه من توريات وتلاعبات وتبريرات، وبما يتضمن الشيء ونقيضه، من التحليل والإباحة، إلى التحريم والمنع؛ في انفصام بين الادعاء والممارسة، أو بين القول والتطبيق. مثلا، في مسالة المفاوضات، كنا سمعنا خلال العام الماضي، من القيادة الفلسطينية (والمقصود قيادة المنظمة والسلطة وفتح) كلاما كثيرا عن عدم شرعية المستوطنات، وعدم الاستعداد لمعاودة التفاوض مع إسرائيل في ظل الاستيطان، ومع ذلك فإن هذه القيادة ذهبت للمفاوضات المباشرة مع إسرائيل، في واشنطنوالقدس. وقبل أيام قليلة صرح الرئيس محمود عباس بأنه لن يستمر في التفاوض يوما واحدا في حال استأنفت إسرائيل الاستيطان، وهاهو الرئيس ذاته وبلسانه يصرح بعدها بيوم او اثنين (!) بأن الرد على ذلك لن يأتي متسرعا، وسيخضع لدراسة في "الأطر والهيئات" الفلسطينية! فأي اطر وأية هيئات هذه؟ ثم متى درست هذه الأطر أو تلك الهيئات المفاوضات، أو غيرها من الخيارات السياسية؟ والأهم من ذلك كيف يمكن وصف أي رد فلسطيني على استئناف الأنشطة الاستيطانية متسرعا، علما أن هذه الأنشطة هي اصلا أنشطة غير شرعية، وعلما أن اتفاق أوسلو ذاته (1993) حظر على أي طرف إجراء تغيير يخل بمصير القضايا المطروحة على مفاوضات الحل النهائي، والمقصود بها قضايا القدس واللاجئين والقدس والاستيطان والترتيبات الأمنية؟ ثم ماهي هذه المفاوضات التي تجري في حين أن إسرائيل لاتعترف بوضعها في الضفة وقطاع غزة كسلطة احتلال؟ في هذه الحال ليس المطروح على أبو مازن الذهاب إلى الانتفاضة أو المقاومة المسلحة، وإنما المطلوب منه على الأقل مواجهة هذه الحقائق، والتصرف بكرامة تليق بالشعب الفلسطيني، بمعاناته وتضحياته، ومصارحته بهذه الحقائق. والمطلوب منه عدم مجاراة هذه اللعبة الإسرائيلية الوقحة والمبتذلة. والمطلوب منه التوجه نحو المجتمع الدولي مرة واحدة بطلب إنهاء الاحتلال. والمطلوب منه بدل استنزاف الجهد في المفاوضات بذل مزيد من الجهود لإعادة ترتيب الوضع الفلسطيني الداخلي، وتحقيق انفراجات داخلية، بداية بإعادة الاعتبار للمؤسسات الشرعية الفلسطينية، مرورا بقضية المصالحة، وصولا لإعادة بناء الحالة الفلسطينية، على مختلف الأصعدة. ليس الوضع أفضل حالا في الجهة الأخرى، أي على جبهة المعارضة، أو المقاومة، فهذه حركة حماس التي تتحدث دوما عن التآمر الأمريكي على قضية فلسطين، ومطالبة السلطة بوقف المفاوضات، تمارس عكس ذلك. هكذا كشفت حكومة حماس، مؤخرا، بأنها وجهت رسالة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما دعته فيها إلى فتح حوار معها، ورفع الفيتو عن المصالحة الفلسطينية، وإنهاء المعايير المزدوجة للإدارة الأميركية في التعامل مع القضية الفلسطينية. ليس هذا فحسب بل إن هذه الحكومة أكدت في رسالتها عدم معارضتها لفكرة الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشريف". وتشي هذه الرسائل بنوع من الإيحاء، المجاني والساذج، للإدارة الأمريكية بأن "حماس" هي الشرعية وهي المؤهلة للتفاوض، بدلا من السلطة ومن "فتح"! ومن المعلوم أن هذه الرسالة ليست الأولى من نوعها، إذ كانت حركة "حماس" بعثت برسائل عدة إلى الرئيس الأميركي باراك اوباما، بوسائل متعددة، ضمنها عبر السيناتور الأميركي جون كيري (عن طريق مسؤول في الأممالمتحدة)، وعبر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر؛ الذي التقى عديد من قياديي "حماس"، من دون توضيح حيثيات تغير موقف "حماس" من الإدارة الأمريكية. ومن ذلك يبدو أن ماحرمته حماس على فتح (والسلطة)، من العلاقة مع الإدارة الأمريكية إلى التفاوض على دولة فلسطينية، حللته لنفسها. وكما يمكن ملاحظة أن هذا الأمر يشمل أيضا وقفها للمقاومة في قطاع غزة، بدعوى عدم إعطاء ذريعة لإسرائيل للاستفراد في غزة، في حين إنها لم تكن تتبنى هكذا وجهة نظر في السنوات السابقة (قبل تحولها إلى سلطة)، كما لاترى أن ذلك ينطبق حاليا على وضع الضفة. أيضا فإن "حماس" التي تأخذ (محقة) على فتح احتكارها القرار السياسي، وسطوتها الأمنية في الضفة، تفعل ذات الشيء في غزة، لجهة قيام حكم شمولي، وأحادي، مدعم بوسائل الهيمنة العسكرية. أيضا، ظهرت في المشهد الفلسطيني مؤخرا علامات متضاربة، ففي الوقت الذي أعلنت فيه "الجبهة الشعبية" تجميدها عضويتها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في موقف احتجاجي ضد الاستمرار في المفاوضات في هذه الظروف، بدت بوادر توافق على نوع من مصالحة بين فتح وحماس (في دمشق). والمشكلة في موقف الجبهة الشعبية ليس في وجاهته، أو شرعيته، وإنما في جدواه، وفي فاعليته، بمعنى أن الأوضاع في الساحة الفلسطينية، والتي باتت تحت ثقل فتح وحماس، لم تعد تعمل وفق الطرق السابقة. والأهم من ذلك أن فتح وحماس أضحتا اليوم اقل تأثيرا في المعادلات الفلسطينية، برغم وزنهما، بسبب هيمنة الأوضاع الإقليمية والدولية. والسؤال الأهم للجبهة الشعبية هو ما الذي فعلته منذ عشرين عاما لمواجهة هذه اللحظة السياسية. أو بمعنى آخر ماالذي لديها لتقديمه فعلا، على ضوء إمكانياتها وقدراتها، وبالنظر لمكانتها الراهنة في الساحة الفلسطينية (حازت على 3 مقاعد من 132 مقعدا في الانتخابات التشريعية لعام 2006). والأرجح، فإن تجميد الجبهة لعضويتها، لن يلجم القيادة الفلسطينية عن سياساتها، ولن يؤسس لسياسات بديلة أو مغايرة، ذلك ان الوقت فات على ذلك.