يدعو «الكنام» و«الصندوق الوطني للتأمين على المرض» المنخرطين فيه إلى التوقّف عن المرض، ليس بالمعنى المباشر للعبارة، وإنّما يستفاد ذلك من سياق الخطابات التي يوجّهها إليهم... وتعود بنا الذاكرة إلى فترة إنشاء هذا الصندوق، وما واكبها من ضجيج ودعاية عن مزايا هذا الانجاز، وما سيحدثه بعثُه من منافع صحّية جمّة، حيث اعتبر وقتها انجازا اجتماعيا رائدا يفتح عهدا صحّيا زاهرا ينعم في ظلّه المنخرطون بأفضل الخدمات الاستشفائية، في غير أسف على أيّام الطوابير الطويلة بالمستشفيات العمومية، وبطء الخدمات، وخواء الصيدليات من الأدوية. وقد تزامن احداث هذا النظام مع الترفيع في مساهمات »المضمونين الاجتماعيين« بعنوان الحيطة الاجتماعية. والسؤال الذي يطرح هو، هل أوفى هذا النظام بوعوده؟ وجوابا عن ذاك السؤال، نقول كلاّ، ذلك أنه نظام التّسقيف (وضع حدّ أقصى للإنتفاع لا يمكن أن يتجاوزه المنخرط) بالنسبة إلى الأمراض العرضيّة، يحرم المنخرط وذويه من الانتفاع بخدمات صحّية منتظمة، تبعا لما يمكن أن يلمّ بهم من اصابات عرضيّة، فإذا تكرّر هذا النوع من الاصابات (أمراض عيون، اصابات بالنزلة في فصل الشتاء، مرض الأسنان، مرض الأنف والحلق والحنجرة...)، تجاوز المنتفع السقف المسموح به، ووجد نفسه في مواجهة تكاليف علاجيّة لا قبل له بها، لأنّ الصندوق يعتبر نفسه في حلّ من التكفّل بنفقات العلاج بعد تخطّي ذلك المنخرط السّقف، والسؤال من أين يأتي صاحبنا هذا بمصاريف العيادة، والدواء والتحليل والتصوير في ظلّ ما تشهده كلفتها من ارتفاع، وما تعرفه قدرته الشرائية من انحدار متواصل.. هذا إذا كان المعني بالأمر يعمل ومن أصحاب الدّخول.. ولكن ماذا عن المتقدمين في السن والمتقاعدين الذين يكونون عرضة أكثر من سواهم لهذا النوع من الاصابات... هؤلاء يمكنهم بلوغ السقف العلاجي بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أو ستة... تبعا لارتفاع وتيرة اصاباتهم.. فهل واجب الصندوق التخلّي عنهم وإهمالهم؟ ومادمنا بصدد الحديث عن هذا السقف الذي حدّده قرار وزير الشؤون الاجتماعية بتاريخ 3 جوان 2008، ونظام التأمين على المرض عمومًا. فهناك أسئلة كثيرة في شأنه تحتاج إلى اجابات: ما مقدار هذا السقف، وعلى أي قاعدة تمّ تحديده، وهل يتماشى فعلا مع الارتفاع المتواصل في كلفة الخدمات الصحية؟ هل يمكن أن يكون هذا السقف العلاجي واحدا للجميع: شبابًا وشيبًا، ناشطين ومتقاعدين، مع ما يوجد بين هذه الأصناف من تباين في الامكانات والحاجات العلاجية؟ لماذا ترتفع نسبة المساهمات لفائدة الصندوق، تبعا للارتفاع النسبي في الأجور، ويظلّ سقف الأمراض العرضية منذ 2008 ثابتا لا يتحرّك، رغم ما تشهده كلفة العلاج من ارتفاع متواصل؟ ألا توجد مفارقة كبرى بين توقف الصندوق عن تقديم التغطية العلاجية للمنخرط الذي بلغ السّقف، ومواصلته استلام مساهمات ذلك المنخرط بعنوان الحيطة الاجتماعية، خاصّة إذا علمنا أنّ المساهمات تقتطع شهريا من أجور العاملين؟ يوجّه الصندوق إلى المنخرط اعلاما ببلوغه السّقف على النحو التالي: »عملا بأحكام القرار الصادر عن السيد وزير الشؤون الاجتماعية والتضامن والتونسيين بالخارج المؤرخ في 3 جوان 2008 وتبعا لتسجيلكم بالمنظومة العلاجيّة.. أحيطكم علما أنّكم بلغتم السقف العائلي لمصاريف العلاج التي يتكفّل بها الصندوق لفائدتكم في مجال الأمراض العرضية بعنوان سنة 2010، وتبعا لذلك يتعيّن عليكم بداية من تاريخ توصّلكم بهذا الاعلام دفع كامل المبالغ التعاقديّة لمصاريف علاجكم لدى مقدّمي الخدمات الصحية (طبيب العائلة، الأطباء الآخرين، الصيادلة، المخابر) وذلك بالنسبة إلى الأمراض العرضيّة«. وتعليقا على مضمون الخطاب نقول: أليس في ذلك دعوة المنخرط إلى الكفّ على المرض وكأنّ بوسعه أن يختار متى يمرض ومتى لا يمرض.. ولكن متى كان يستدعي الانسان المرض لنفسه!! وهل يعتبر المنخرط مؤمّنا صحّيا بعد بلوغ السقف، أم ليس بالمؤمّن؟ وإن كان منطق الصندوق يكرّس فعليّا عدم تأمينه، ثمّ ألا يوجد وضع المنخرط هذا في تعارض مع ما يفهم من مقولة التأمين على المرض بالمعنى الشامل للعبارة؟ وصفوة القول انّ المنظومة العلاجيّة التي يؤمنها »الكنام« تشكو من ثغرات كثيرة ونقائص عديدة، ولا تستجيب لتطلّعات أوسع الشرائح الاجتماعيّة إلى التمتّع بتغطية صحية وافية. وعلى هذا فقد بات من الضروري مراجعة نظام التأمين على المرض الحالي، بما يحقّق للمنخرطين به تغطية صحّية منتظمة تفي بالحاجة، بعيدا عن منطق السقف الجاري به العمل حاليا. فأن يرهن »الكنام« صحّة المضمون الاجتماعي بسقف، فذلك يفهم منه استرخاصًا لرأس المال البشري الذي بدونه لن تقوم للبلاد قائمة، ثم أنّه ليس من المعقول أن يسدّد المنخرط للصندوق مساهمات أرفع ليكون انتفاعه أقلّ...