تكتنز أعمال الشاعر علالة حواشي بلغة صوفية غاية في الجمال والسموّ على نحو ما يعبّر به عمّا في نفسه وصدره من الحزن والزّهد ايضا، وعلالة حواشي يقترب كثيرا من لغة كبار الصوفية الذين أثروا فيه وفي شعره بالتأكيد وهو يحاول الاقتراب أكثر من خلال اكتشاف الذات في المعنى وفي اللغة. يقول : »أستر حالي عن سؤالي، كيف حالي؟ أشرع القلب ترى العينُ جمالي لا شيء لي من جسدي لا روح إلاّ الغمغمه وتهتف الآلاء بي وحين يسكن الأزيز يهرع الدّويّ صلصله ثمّ أبين: طريقتي ما سنّها وليّ... (❊ 1) إنه يريد أن يطلعنا على طقوس مختلفة تماما عمّا نعرفه عن المتصوّفة. إنها طريقة أشبه بخروج المارد من القمقم مع القليل من الاختلاف في البداية إذ يجب أن تهتف الآلاء به أولا ليصدر الأزيز.. ثمّ يسكن ثمّ ينتج الدّويّ اللاّحق صلصلة تنبئ عن خروج هذا الولّي الجديد وعلى الرغم من أنّ حوّاشي يقترب في هذه القصيدة من طقوس المتصوّفة وكأنه يتفق ضمنيا معهم لأنه لا يعوّل على الجسد بل على الروح ولكن الروح لديه غمغمة وليست توحّدا مع الذات الإلاهية فقط أو اقترابا منها. وهو يصرح بأن طريقته ما سنّها له أحد من قبله وأن بحره محيط ما وقف بشطّه نبيّ، حتى أنه غيّر كعبة الأولياء فأصبحت القيروان، ثم إنه يكرّر ما قاله المتصوّف الكبير الحلاّج حين قال: »أنا من أهوى ومن أهوى أنا« إذ يقول علالة حواشي في لغة ذكيّة واقتباس عجيب: »عليّ السلام ومنّي إليّ لأني الأحبّ إليّ ولي لأني السلام... أنا من حوى ولا يُحتوى (❊ 2) وعلى أية حال فإن هذه القصيدة في الحقيقة هي أجمل ما قرأت على وجه التقريب في ديوان علالة حواشي »حلاج البلاد«، وقصيدة »نفح من طيب« تستحق وحدها أكثر من دراسة، فلقد شدّت انتباهي بشكل كبير، يحاول الشاعر في هذه القصيدة الإيحاء للمتلقي بأنه الصوفي الذي استطاع التوحّد مع الذات الإلاهية فصار يقول باسمها قوله لأنها دخلت فيه كليا لذلك يقول الشاعر في لحظة صوفية ذات لغة صافية الى حدّ كبير: »أنا لفظكم والمعاني ونحو اللغات وما كل ما تعلمون وما تجهلون سوى أحرف من سجلّي أنا الهمس والجهر فيكم بكل لسان أنا لغو كل الأحاجي وتأويلها وأنبئكم بالذي تسترون أنا المدّ مني إليّ مددت بعوني المدى وهو مني وكنت المداد لما قد سطرت وما تسطرون أنا نيلكم قطرة من فراتي علوت صفاتي فماذا أضفتم وماذا وصفتم وكنت المضاف إليه وما قد أضفتم« (❊ 3). »مددت بعوني وهو مني«، لقد وصل الشاعر إلى التوحّد في ذاته إلى درجة اعتقد فيها انه أشرقت روحه بشمس الله فتوحّدت فيها وملكت سرّها وفكّكت لغز مدّها وترجمته، لكن يفوته أحيانا أنه وقع في خانة المفعول به من قبل الورى حين يقول لهم: »وكنت المضاف إليه وما قد أضفتم«، وهو يمنحهم بذلك صفة القدرة على الفعل والفعل الواقع عليه هو إلى درجة يصبح معها »المضاف إليه« وربما لو تأمّل الشاعر هذه الجملة قياسا بما لديه في مجمل ردهات القصيدة لغيّرها، ولكن »علالة حواشي« يدور كثيرا في فلك التورية بذكاء، قابضا بوثوق على اللغة مما يؤكد أنه قارئ متمعّن للتراث الصوفي العربيّ والفارسي والهندي وحتى العالمي، يقول علالة حواشي في تورياته الدائرية: »أنا نيلكم قطرة من فراتي« (❊ 4). فنعرف في البداية أنه يريد أن يقول لنا إنه هو النيل بمعنى ماء الحياة، أي »أنا ماؤكم«. ولكنه يريد أن يربكنا ويحقق تلك الصرخة الجديدة التي يطمح إلى تحقيقها لدى المتلقي وقد فعل حقا. »إنّ نيلكم هو فقط قطرة من مياهي العذبة« ولكن علالة حواشي لم يستطع ان يحقق الصدمة فقط من خلال قوله »أنا نيلكم لأنه يخشى ان يتناقض ذلك مع الذاكرة الجميعة التي يتكِئُ عليها المتلقيّ كما يتكئُ عليها الشاعر نفسه بل حقق أكثر من ذلك، وعلى كل حال فإن الشاعر »علالة حواشي« في مجموعته »حلاّج البلاد« هو شاعر مبدع ويستحق كتابه هذا المزيد من الدراسات والبحث والتمحيص وهو ما سوف نفعله في فرصة قادمة. ❊ الهوامش: 1) حلاّج البلاد مطبعة إيمان تونس. ص 9 و 10. 2) المصدر نفسه ص 12. (3 و 4) المصدر نفسه ص 12، 13، 14 و 15.