شهدت الأسابيع القليلة الماضية ظهور فوضى العملات العالمية، الأمر الذي يشكل تهديدا جديدا لآفاق الانتعاش الاقتصادي. هذه الفوضي، التي أسمتها وسائل الإعلام بل وعدد من القادة السياسيين «حرب العملات» نشأت جراء إتخاذ بعض الدول الكبري سلسلة من التدابير الهادفة لخفض قيمة عملاتها بغية تحقيق مزايا تجارية خاصة. فالمعروف أنه إذا خفّضت دولة ما سعر عملتها، فستكون أسعار صادراتها أرخص للدول التي تشتريها منها، ما يودي إلى زيادة الطلب عليها وتشجيع الإنتاج المحلي وتحسين الميزان التجاري. والمشكلة هي أن الدول الأخرى التي تعاني من هذا الإجراء قد تنتقم بدورها بخفض قيمة عملاتها أو بوقف الواردات الأرخص من خلال رفع الرسوم الجمركية أو حتى حظرها تماما. وهكذا ينشأ سباق «التخفيض التنافسي» علي غرار ما حدث في الثلاثينات، وهو ما يمكن أن يتسبب في إنكماش التجارة العالمية والركود. هذا ويعتبر الوضع الحالي وضعا معقدا للغاية وينطوي على ما لا يقل عن ثلاث قضايا مترابطة فيما بينها. أولا، تتهم الولاياتالمتحدة حكومة بكين بالحفاظ على عملتها اليوان على مستوى منخفض وبصورة مصطنعة، مدعية أن هذا هو السبب وراء عجزها التجاري الهائل مع الصين، وهناك مشروع قانون معروض علي الكونغرس الامريكى لفرض رسوم إضافية على المنتجات الصينية. ومن جانبها، ترد الصين بأن مثل هذا الاجراء سيكون مخالفا لقواعد منظمة التجارة العالمية، وأن إرتفاعا مفاجئا حادا في قيمة اليوان سيكون كارثيا بالنسبة لصناعات التصدير ولن يحل مشكلة العجز الأمريكي. أما اليابان، التي رفعت قيمة عملتها الين بنسبة عالية، فقد تدخلت في أسواق العملات يوم 15 سبتمبر من خلال بيع تريليونين من الين، ما دفع قمية عملتها نحو الإنخفاض. ثم إنتقدت اليابان حكومة كوريا الجنوبية لإتخاذها نفس هذا التدبير والتدخل للحد من ارتفاع قيمة عملتها الوون. ثانيا، تسعي الولاياتالمتحدة لخفض قيمة الدولار عبر جولة جديدة من «الضخ الكمي»، بحيث ينفق بنك الإحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي 600مليار دولارا ) على شراء سندات وديون حكومية أخرى، هذا سيؤدي إلى زيادة السيولة في الأسواق، وهو ما من شأنه أن يخفض معدلات الفائدة طويلة الأجل، وبالتالي يُؤمل أن يساهم في الإنتعاش. لكن هذه الإجراء سيزيد أيضا من ضعف الدولار، ما يعرض الولاياتالمتحدة لتهمة الإنخراط أيضا في سباق التخفيض التنافسي للعملات. كذلك فستضاف السيولة الجديدة أيضا إلى زيادة في رؤوس الأموال المتدفقة من الولاياتالمتحدة (حيث عائدات الاستثمار منخفضة جدا) تجاه الدول النامية. ففي الواقع، يتوقع منتقدو بنك الاحتياطي الفيدرالي أن جزءا كبيرا من مبلغ 600 مليار دولار المذكور لن يبقى في الولاياتالمتحدة (ومن ثم سيكون لها آثارا إيجابية محدودة على الإنتعاش الإقتصادي الأمريكي) وإنما سيتسرب إلى الخارج. مثل هذه الموجات من «الأموال الساخنة» كانت في الماضي موضع ترحيب من جانب البلدان المتلقية لها. لكن العديد من الدول النامية قد تعلمت الآن، بعد معاناة شاقة، أن تدفقات رؤوس الأموال المفاجئة والكبيرة يمكن أن تتسبب في مشاكل خطيرة، مثل: يؤدي تدفق رؤوس الأموال إلي فوائض مالية في الدولة المتلقية لها، وبالتالي إلي زيادة الضغط على أسعار المواد الإستهلاكية، مع تأجيج «فقاعات الأصول» أو الإرتفاعات الحادة في أسعار السكن وغيره من الممتلكات وسوق الأوراق المالية. هذه الفقاعات ستنفجر عاجلا أم آجلا، بأضرارا هائلة. يخلق التدفق الكبير للأموال الأجنبية ضغوطا متنامية على عملة الدول المتلقية، ليرفع قيمتها مقابل العملات الأخرى وبنسبة كبيرة، فإما تتدخل السلطات المالية في السوق من خلال شراء فائض الأموال الأجنبية (فيما يعرف بإسم «التعقيم»)، وبالتالي تتراكم إحتياطيات النقد الأجنبي، أو السماح للعملة الوطنية بالإرتفاع، ما سوف يكون له تأثيرات سلبية على صادرات الدولة. تتسبب تدفقات رؤوس الأموال المفاجئة في تدفقات مساوية لرؤوس الأموال ولكن في الإتجاه المعاكس أي إلى الخارج، لدي تغير الظروف العالمية كما بينت الأزمة الآسيوية في أواخر التسعينات، ويمكن لهذا أن يسبب إضطرابات إقتصادية بما فيها إنخفاض حاد في قيمة العملة ومشاكل قوية في خدمة القرض، وصعوبات جمة في ميزان المدفوعات وكذلك الركود الإقتصادي. ثالثا، فرضت بعض الدول النامية ضوابط رأسمال لإبطاء التدفقات الضخمة من رؤوس الأموال الأجنبية، فيقدر معهد التمويل الدولي أن حجما ضخما من رؤوس الأموال الأمريكية قدره 825 مليار دولار سوف يتدفق إلى الدول النامية هذا العام، بزيادة قدرها 42 في المئة مقارنة بالعام الماضي. في غضون ذلك، ضاعفت البرازيل ثلاث مرات قيمة الضريبة المفروضة على الأجانب الذين يشترون سنداتها المحلية، وفرضت تايلاند ضريبة بنسبة 15 في المئة على الفوائد وأرباح رأس المال التي يحصل عليها المستثمرون الأجانب نتيجة التدوال في السندات التايلاندية، في حين حذرت كوريا الجنوبية من فرض قيود جديدة على التدفقات، والطلب من البنوك عدم الإقراض بعملات أجنبية. وأخيرا، هناك مخاوف من أنه إذا لم تحل قضية فوضى العملة أو حرب العملات قريبا، فيواجه العالم تهديد الحمائية التجارية سواء على الشكل القديم للرسوم الجمركية الإضافية، أو في شكل جديد على هيئة تنافس على خفض قيمة العملات. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يزيد الضخ الكمي الأمريكي من المضارابات المحلية سعيا لتحقيق الربح، وهو ما يمكن أن يزعزع إستقرار البلدان المتلقية لرؤوس الأموال بل والإقتصاد العالم برمته.